قاسم.. والفكر القومي العربي:
ـ من الثابت.. حتى في المصادر القومية إن توجهات عبد الكريم قاسم في مقتبل عمره كانت قومية.. وهو ما أكده الزعيم الركن محمود الدرة ـ احد الضباط القوميين.. بالقول: “بان عبد الكريم قاسم اشترك معنا.. وكان ضابطا مثلنا برتبة ملازم.. في أول جمعية للضباط القوميين سنة 1935”.. ويضيف الدرة قائلاً: “كانت تلك الجمعية تسير على هدى المبادئ القومية”.. وبعد انقلاب بكر صدقي العام 1936 انفرط عقد هذه الجمعية.
ـ بقيً عبد الكريم قاسم بفكر وسلوك قومي متحرر.. حيث سجل في فلسطين العام 1948 معارك متميزة ضد العدو الإسرائيلي.. بسلوكه اقصر الطرق وأشدها خطورة للتحرك من منطقة المجامع.. التي كان يتجحفل فيها فوجه الى منطقة نابلس.. بالرغم من أن القوات الصهيونية كانت على جانبي الطريق.. وفي أية لحظة يكون الاحتكاك بينهما.
ـ ومنذ منتصف الخمسينيات كان عبد الكريم قاسم.. كما يذكر أخاه حامد.. مستمعاً جيداً لإذاعة صوت العرب.. منذ ساعة دخوله الى البيت.. حتى انتهاء إجازته العسكرية.
ـ يضيف حامد قائلاً: “في احد الأيام صاح عليه والدي بغضب: عبد الكريم تريد تحبسنا.. إغلق الراديو.. لكن عبد الكريم ابتسم بحبٍ لوالدي: وقال: لا تخف إن الله مع الحق.. حيث كانت السلطة.. آنذاك.. تحرم الاستماع الى هذه الإذاعة”.
الاتصال بالقوى القومية:
ـ أما على صعيد تنفيذ الثورة فقد استثمر الزعيم قاسم كل فرصة للاتصال بالقوى القومية التحررية.. وبشكل خاص القيادة السورية والمصرية.. فعندما كان اللواء التاسع عشر.. الذي كان يقوده.. عند الحدود الأردنية إثناء العدوان الثلاثي العام 1956 اتفق عبد الكريم قاسم مع بعض الضباط الأردنيين على القيام بثورة في آن واحد في العراق والأردن.. وإعلان الوحدة مع سورية.
ـ كما حقق.. أيضاَ.. اتصالاً بالقيادة السورية العسكرية وبعبد الحميد السراج مدير الاستخبارات السورية.. آنذاك.. ووزير الداخلية في دولة الوحدة (مصر وسورية) فيما بعد.. واخبرهم الزعيم قاسم بتذمره من الأوضاع السياسية في العراق.. وانه سوف يقوم بحركة ضد الوضع وتخليص البلاد من سياسة وشرور النظام الملكي.. وكان العقيد عبد السلام محمد عارف حاضراً تلك المحادثات.. وثبتها في مذكراته فيما بعد!
قاسم.. رئيساً لتنظيم الضباط الأحرار:
ـ لم تتغير توجهات قاسم القومية العربية عندما انتخب هو رئيساً
للجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار في نيسان / أبريل / العام 1957.. فقد أجرى الزعيم عبد الكريم اتصالين مع جمال عبد الناصر:
الاتصال الأول.. بشكل شخصي:
ـ حيث أرسل عبد الكريم قاسم صديقه رشيد مطلك الى حسين جميل.. (احد قياديي الحزب الوطني الديمقراطي.. آنذاك) في تموز / يوليو/ 1957.. للاتصال بالرئيس المصري جمال عبد الناصر والاستفسار منه عن موقفه من الضباط الأحرار العراقيين والثورة المنوي تفجيرها.
ـ كان جواب عبد الناصر بأنه سوف يقدم للثورة كل عون ومساعدة تحتاج إليها إذا نجحت.. أما إذا فشلت المحاولة فإنه سوف يمنح القائمين بها حق اللجوء السياسي فقط.
الاتصال الثاني:
تم عن طريق سكرتير اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار.. الذي طلب من ممثل حزب الاستقلال (محمد صديق شنشل) الاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر خلال سفره وحضوره اجتماعات المكتب الدائم للخريجين العرب في دمشق.. وفعلاً اتصل شنشل بعبد الناصر في شباط / فبراير/ العام 1958 وكان جوابه: “أن الجمهورية العربية المتحدة تضع جميع إمكانياتها تحت تصرف الثورة العراقية”.
ـ كما كانت للزعيم عبد الكريم اتصالات بقادة حزب الاستقلال العراقي (ذو التوجه القومي) عن طريق صديقه رشيد المطلك.
ـ والزعيم عبد الكريم هو الذي كان وراء تعيين الفريق نجيب الربيعي رئيسا لمجلس السيادة.. والشيخ محمد مهدي كبه عضو في هذا المجلس (الاثنان ذو اتجاه قومي اسلامي).
ـ وأيد بلا تردد اختيار فؤاد ألركابي.. الأمين العام لحزب البعث.. والشخصيات القومية الأخرى في حكومة الثورة الأولى.
سياسة عبد الكريم قاسم القومية:
ـ كانت سياسة القومية عبد الكريم قاسم منذ قيام ثورة 14 تموز 1958.. ذات طابع قومي تحريري اولا.. وتحقيقها تدرجي.. مستندا على قبول الشعب.
أولا: الموقف من الوحدة العربية:
ـ منذ الأيام الأولى للثورة اخذ العقيد الركن عبد السلام محمد عارف يدعو في خطبه وتصريحاته اليومية الى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة لكسب الضباط الأحرار القوميين والقوى القومية الى جانبه.
ـ في حين كان الزعيم قاسم يؤكد باستمرار إن موضوع الوحدة العربية تقرره الشعوب العربية.. ففي إجابته خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في 26 تموز 1958 (أي بعد 12 يوم على قيام الثورة).. على نوع العلاقة التي ستقوم بين العراق والجمهورية العربية المتحدة قالاً: “إن علاقتنا مع الجمهورية العربية المتحدة سوف تبنى على أساس المصالح المشتركة.. وعلى أساس منفعة الشعبين.. وأحب أن أؤكد إن هذا الوطن شراكة بين العرب والأكراد”.
ـ يستشف من عبارته الأخيرة الى إن العراق لم يكن حراً تماماً في الانضمام الى الوحدة العربية مع مصر وسورية مادام قسم من الشعب العراقي ينتمون الى قومية أخرى.
ـ وأكد في هذا المؤتمر الصحفي انه: “إذا تأمنت مصالح العرب في كل دولة وتحررت.. فهذا معناه التحرر.. وإذا تحررت الشعوب العربية كلها.. فمعناه اتحاد عام لا يقرره شخص.. إنما تقرره شعوب الدول العربية.. التي لها أن تقرر نوع الحكم ووضعه.. فهو إذن يستبعد الوحدة الفورية الاندماجية مع الجمهورية العربية المتحدة”.
ـ كان الزعيم قاسم يعتقد إن الوحدة العربية تتحقق تدريجياً.. وذلك عن طريق إزالة الحواجز والعقبات بين الأقطار العربية: كرفع الحواجز الكمركية.. وإلغاء جوازات السفر.. وتحقيق التكامل الاقتصادي.. والتعاون والتنسيق في السياسة الخارجية.. فيمكن بعد ذلك تحقيق الوحدة العربية بين الأقطار العربية المتجاورة.. كوحدة المشرق العربي.. ووحدة المغرب العربي.. على أن تكون هذه الأقطار متحررة.. وتحافظ على كيانها ضمن اتحاد.. وليكن فيدرالياً.. أو شكلاً اخر يحقق مصلحة الشعوب العربية.
ـ وضمن هذه التوجهات انسحب العراق من الاتحاد العربي الهاشمي الذي تشكل في 14شباط / فبراير/ 1958بين العراق والأردن.. الذي تشكل لخدمة مصالح الحكم الملكي في البلدين كخطوة مقابلة لقيام الوحدة بين مصر وسورية.. وتشكيل (الجمهورية العربية المتحدة).
ـ كما تعاونت الجمهورية العراقية منذ اليوم الأول للثورة تعاوناً متيناً مع الشقيقة الجمهورية العربية المتحدة في خدمة العروبة والتحرر.. وعقد العراق معها اتفاقاً للتعاون العسكري التام وثلاثة اتفاقيات للتكامل الاقتصادي والتجاري والتعاون الفني.. كما عقد معها ميثاق الوحدة الثقافية العربية.
ثانيا: دعمه حركات التحرر العربي:
1ـ الثورة الجزائرية:
ـ منذ الأيام الأولى لثورة 14 تموز 1958 أعلن عبد الكريم قاسم مساندة العراق المطلقة للثورة الجزائرية.. لذلك رفض عرض الحكومة الفرنسية الاعتراف بالنظام الجمهوري في العراق مقابل إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما.
ـ وكان العراق أول دولة تعترف بحكومة الجزائر المؤقتة.. وقدم العراق لها أكثر من ثلاثة ملايين دولار سنويا بأمر من الزعيم قاسم.. بدءاً من العام 1959.
ـ كما قدمت حكومة ثورة 14 تموز العديد من المساعدات الغذائية والإنسانية والمالية للثورة الجزائرية.. وللاجئين الجزائريين في تونس.. وكل ما طلبه الإخوة الجزائريون من أموال ومساعدات عسكرية.. وزارت العراق الوفود الجزائرية الرفيعة المستوى لغرض تعزيز التعاون بين البلدين.. وقدم العراق في عهد عبد الكريم قاسم مساعدات عسكرية للثورة الجزائرية.. قدرت بأربعة ملايين دولار.
ـ وصرحت الحكومة الجزائرية ممثلة بكريم بلقاسم (نائب رئيس الوزراء للحكومة المؤقتة) قائلاً: “إن مساعدات الجمهورية العراقية مساعدات ملموسة.. وبصورة متواصلة ولم تنقطع.. وكانت تلك المساعدات تحتل الصدارة بين الدول العربية”.
ـ أوائل نيسان / أبريل/ العام 1962 زار العراق الرئيس الجزائري احمد بن بيلا.. لتقديم شكر حكومة وشعب الجزائر الى حكومة وشعب العراق.. على الدعم اللا محدود للثورة الجزائرية.. واستقبل استقبالاً شعبياً ورسمياً.. وكان في استقباله الزعيم عبد الكريم قاسم.
ـ وزاد من قوة هذا الدعم إن الجمهورية العربية المتحدة.. وهي اكبر دولة عربية.. آنذاك.. وتتكون من القطرين (مصر وسوريا).. لم تدفع حصتها من ميزانية الجزائر لمدة طويلة.. وعلى الأقل حتى ايار1960؟.. ولم تقطع علاقاتها الاقتصادية مع فرنسا.. التي قطع العراق علاقاته معها دعماً للثورة الجزائرية.
2ـ عبد الكريم قاسم والقضية الفلسطينية:
ـ حادثة غريبة حصلت وهو أن عبدالكريم قاسم في احدى الحروب مع الشمال كان آمر فوج مقدم ركن.. ومعروف بالجيش انهم ينامون على الأرض ويأكلون طعاماً بسيطاً فأصيب بمرض جرى فحصه وقرر الأطباء ارساله الى بريطانيا للعلاج حيث دخل المستشفى.
ـ فطلب قاسم في 26 / 8 / 1946 اجازة علاج لمدة 120 يوماً للسفر خارج العراق.. وخلال سفره دخل المستشفى في لندن.
ـ كان الملحق العسكري حسن مصطفى وهو من دورته وصديقه.. وعندما تجاوزت فترة العلاج ال 6 أشهر.. جعلها قاسم 8 أشهر.. فلما رجع ظهرت عليه ديون بمقدار 500 دينار أو أكثر من استحقاقه مصروفة.
ـ طلب رئيس أركان الجيش استقطاعها من راتب قاسم.. الا ان قاسم رد بأنني كنتُ في واجب.. وهذا المرض الذي أصبتُ به خلال الخدمة.. وبالتالي فان الدولة مسؤولة عن علاجي.. بالرغم من ذلك استقطع المبلغ من راتبه.
ـ بعد ثورة 14 تموز كان أول كتاب أرسله قاسم الى مجلس الوزراء.. وهو رئيس مجلس الوزراء المطالبة بإعادة هذا المبلغ الى الزعيم الركن عبدالكريم قاسم.. وافق مجلس الوزراء بالإجماع لإعادة المبلغ.
ـ اعيد المبلغ لقاسم.. الذي أشار على كتاب المبلغ بالقلم الأخضر عبارة تتضمن:
ـ أولاً يفتح حساب في مصرف الرافدين باسم منظمة التحرير الفلسطينية.. ثانياً يودع هذا المبلغ والمبالغ القادمة في هذا الحساب الذي يعود الى جيش التحرير الفلسطيني.
ـ كان عبد الكريم قاسم يؤمن بان تحرير فلسطين يكون من قبل أهلها.. وعلى الدول العربية دعمها بكل ما أوتوا من قوة.. لذلك قرر تشكيل جيش التحرير الفلسطيني في بغداد.. وقدمت ثورة 14 تموز كل الإمكانيات الفنية واللوجستية والعسكرية والمالية لهذا الجيش.. وقد خصص الزعيم قاسم مبلغ أكثر من مليون وربع المليون دولاراً سنوياً للإنفاق على هذا الجيش (وهو مبلغ هائل بالنسبة لذلك الوقت).
ـ كما تعاون عبد الكريم قاسم مع الهيئة العربية العليا لفلسطين.. وذلك بافتتاح مكتب لها في بغداد.. ودعمها بمبلغ مليون دولار سنويا.. و30 ألف دولار لمكتب الهيئة في بغداد.. و30 ألف دولار لإنشاء دار الرعاية الأمومة والطفولة الفلسطيني في بيروت.
ـ كما دعمت حكومة قاسم الفلسطينيين المتواجدين في العراق.. وعاملتهم معاملة العراقيين.. ومنحت مخصصات لأكثر من نصفهم البالغ عددهم عشرة آلاف فلسطيني.. وهيأت السكن اللائق المجاني لهم.. وفسحت المجال لأبنائهم بالدراسة في كل المراحل مجاناً.. ومساعدتهم في التعيين في الدوائر الحكومية العراقية.
3ـ قاسم.. وحركات التحرر العربي:
قدم عبد الكريم قاسم الدعم اللا محدود الى:
ـ الإمارات العربية الخليجية.. التي كانت تحت السيطرة البريطانية.. فدعم الثوار العمانيون بالمال والسلاح بشكل متواصل.. وإسناد المؤتمر العمالي في عدن.. لأنه كان يمثل اكبر مجموعة بين المجاميع المناهضة للاستعمار في تلك المنطقة.. وافتتح لأبناء عدن المدارس والكليات المدنية والعسكرية العراقية.
ـ فضلا عن تخصيص برنامج إذاعي باسم الجنوب العربي.
ـ كان العراق يدفع حصته المقررة لعمان من الجامعة العربية سلاحاً.. واعتده.. وتجهيزات من الأنواع المناسبة.. وكانت ترسل بالطائرات عن طريق المملكة العربية السعودية.. وفي نيسان / أبريل / العام 1960 قدم العراق الى ثوار عمان ربع مليون روبية مساعدة إضافية.
ـ عندما أعلن العراق تأييده للثورة اليمنية في 26 أيلول / سبتمبر/ 1962 وحدوث خلاف بين السعودية والأردن من جهة.. ومصر من جهة حول الثورة اليمنية.. حيث كانت مصر تؤيد الثورة.. فيما السعودية والأردن يؤيدان إمام اليمن والحكم الملكي اليمني السابق.
ـ كان الموقف العراقي دعم الثورة اليمينية بقوة ـ ومحذراً من أن تمتد أصابع الأمريكان الى هذه الثورة بفعل التدخل العسكرية المباشر.
ـ كما قدم العراق مساعدات ثقافية للطلبة اليمنيين.
ـ ودعمت الحكومة العراقية برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم المغرب.. الذي لم يكن له قوة جوية وذلك برف طائرات مقاتلة مكون من أربع طائرات فيوري مقاتلة بريطانية الصنع الى المغرب.. إثناء زيارة الملك المغربي محمد الخامس للعراق في شباط / فبراير 1960.. إضافة الى الدعم المستمر للملكة المغربية لتستطيع تحقيق استقلالها الناجز.
ـ بالرغم من العلاقات السيئة مع الأردن.. الذي لم يعترف بالنظام الجمهوري.. وتغطرس إسرائيل ومحاولة اعتدائها على الأردن.. أعلن العراق انه سيدافع عن الأردن ضد أي اعتداء إسرائيلي.. لان العراق مرتبط بالأردن بروابط قومية.. كما هو شريك في الجامعة العربية.. وأي اعتداء على الأردن اعتداء على العراق.
ـ دعم العراق الثورة الأريتيرية بالمال والسلاح.. مثلما دعم ثوار الصومال.. وجيبوتي.. وفتح أبواب الكليات العراقية لهم.
ـ قدم العراق في عهد عبد الكريم قاسم مساعدات الى ليبيا لتدريب الجيش الليبي.. وكان من بين المتدربين العسكرين معمر القذافي).
ـ وقبول الطلبة الليبيين للدراسة في الجامعات العراقية على نفقة الحكومة العراقية كبقية الطلبة العرب الأشقاء.
ـ هذا ما قدمه قاسم للعرب ولحركات التحرر العربي وللدول العربية خلال أربع سنوات ونصف سنه عمر حكمه!!
ماذا قدم العرب لقاسم ؟:
1ـ التآمر العربي على قاسم:
ـ لم يستمر التعاون والتقارب بين العراق ثورة عبد الكريم قاسم والجمهورية العربية المتحدة سوى أشهر معدودة.. حيث بدأت الخلافات والصراعات بين الطرفين.. بالرغم من ذلك لم تتغير وجهة نظر عبد الكريم قاسم في موضوعة الوحدة العربية.. والعلاقة مع الجمهورية العربية المتحدة.
ـ أهم الإحداث.. التي أدت للصراع:
ـ اعتقال عبد السلام عارف.. لمحاولته اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم في 5 / 11 / 1958.. والحكم عليه بالإعدام.. ولم يطلق سراحه إلا في 24 تشرين الاول / اكتوبر /1961.. (أي بعد أقل من شهر على انفصال سوريا من الوحدة).
ـ عاد رشيد عالي الكيلاني للعراق في الأول من أيلول / سبتمبر / 1958 بعد غياب دام 17 سنة.. وأعيد الاعتبار له.. وقبل عودته قابل الرئيس عبد الناصر في القاهرة.. وصرح بعد المقابلة أنه يشعر بوجوب إقامة الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.
ـ في بغداد قام عبد السلام عارف بزيارة الكيلاني في بيته.. كما أستقبله عبد الكريم قاسم في مقره بوزارة الدفاع مرحباً به بوصفه قائداً لحركة أيار / مايس / 1941.
ـ في 8 /12 / 1958 اعتقل رشيد عالي الكيلاني ومعه ابن أخيه مبدر الكيلاني.. والمحامي عبد الرحيم الراوي.. ولفيف من أصهار وأقرباء رشيد وأصدقائه باعتبارهم رؤوس مؤامرة ضد الزعيم عبد الكريم قاسم.
ـ أحيل المتآمرون الى محكمة الشعب.. لم يثبت اشتراك رشيد بالمؤامرة.. فيما اعترف مبدر الكيلاني بتفاصيل المؤامرة واشتراكه بها.. فصدر قرار الحكم ببراءة رشيد.. والحكم على مبدر وعبد الرحيم الراوي بالإعدام.. وأعيد محاكمة الكيلاني بأمر من قاسم.. وثبت براءته وأطلق سراحه.
ـ ساءت العلاقة بين البلدين (العراق والجمهورية العربية المتحدة) اثر حركة عبد الوهاب الشواف في 8 آذار 1959 التي استهدفت حكم عبد الكريم قاسم.. فقد قدمت الجمهورية العربية المتحدة للقائمين بالمحاولة الدعم.. ومدتهم بالسلاح والمال وجهاز الإذاعة.. الذي استخدمه المتآمرون في إذاعة بياناتهم كما جندت إذاعة دمشق نفسها لإذاعة بيانات حركة الشواف.. وتأييدها وتغطية أخبارها.
الحدث الأهم:
ـ اعتقال ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية بكركوك مع ضباط كبار متهمين بحركة الشواف.. إلا أن المحكمة لم تستطع إثبات التهمة المنسوبة إليه بالوثائق.. فلم يكن عبد السلام عارف هو الوحيد المنافس لقاسم.. بل كذلك كبار الضباط القوميون في تنظيم الضباط الأحرار.. الذين طالبوا في بداية الثورة بتشكيل مجلس لقيادة الثورة.. ورفض قاسم وعارف تشكيله.
ـ أعدم رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي مع مجموعة من الضباط.. وذلك يوم 20 أيلول / سبتمبر / 1959.. (وهم من قيادة وكوادر الضباط الأحرار).
2ـ القضاء على حكم قاسم.. بأي ثمن كان:
ـ يقول البعثيون والقوميون: إن اليوم الذي وقع عبد الكريم قاسم على إعدامهم.. وقع عبد الكريم قاسم على إعدام عبد الكريم قاسم.
ويدعمون آراؤهم بأسئلة.. منها:
ـ لماذا لم يعدم قاسم عبد السلام عارف الذي اعترف بجريمته؟.. ويعدم الطبقجلي ورفاقه الذين لم تثبت إدانتهم بشكل واقعي ومادي؟
ـ ولماذا أطلق قاسم سراح البعثيين الذي صبوا عليه نيران رشاشاتهم وأصابوه.. وقتلوا سائقه.. وجرحوا مرافقه في منطقة رأس القرية بشارع الرشيد في 7 تشرين الثاني / نوفمبر 1959.. وكانوا يردون على ذلك ؟
ـ ويجيب البعثيون: لأنهم في اعتقاده ليسوا منافسين له.. وهم مدنيون ولا يشكلون خطر قيامهم بانقلاب عسكري ضده.
ـ فيما يشكل الطبقجلي ورفاقه منافسين أقوياء له حسب أقول القوميين والبعثيين..
ـ ويكرر القوميون تساؤلاتهم:
ـ ما إن حصل انفصال في سوريا 28 أيلول / سبتمبر / العام 1961 عن الجمهورية العربية المتحدة.. فإن أول عملٍ قام الزعيم عبد الكريم قاسم به أنه ركب الطائرة وذهب الى الرطبة لمقابلة ناظم القدسي رئيس جمهورية الانفصال.. للاتفاق معه على مستقبل العراق مع سورية فيما بعد الانفصال.. وهي السفرة الأولى والأخيرة لقاسم خارج العراق منذ 14تموز 1958 الى سقوط نظامه.
ـ ثم يدعمون مواقفهم بأن قاسم بعد انفصال سورية عن مصر بشهر أطلق سراح عبد السلام محمد عارف.
ـ كل هذه المواقف والتساؤلات كان القوميون والبعثيون يطرحونها.. ليثبتوا إن قاسم ليس كما يدعي انه (فوق الميول والاتجاهات).. ويحارب وحدة العرب!!
3ـ محاولات اغتياله:
ـ لم تتوقف محاولات القضاء على نظام عبد الكريم قاسم.. من قبل القوميين والبعثيين.. بل كانت محاولات اغتياله بتصاعد.. حتى إن عبد الكريم قاسم أعلن قبل أسبوع من إسقاط نظامه في 8 شباط 1963إنه نجا من (38) محاولة لاغتياله.. خلال السنوات الأربع والنصف عمر حكمه.
ـ ووثقتُ انا (د. هادي حسن عليوي) في كتابي: (محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم).. الصادر العام 1990.. (28) محاول انقلابية.. جميها اما فشلت.. أو لم تنفذ.
4ـ سياسة قاسم الداخلية:
ـ كان قاسم متأكداً من إن القوميين والبعثيين هم من حاولوا اغتياله في الغالبية العظمى من هذه المحاولات الانقلابية ال 38.. واعتقل كبار الضباط القوميين والبعثيين.. الذين اتهموا بالمشاركة أو يؤيدون أو تعاطفوا مع حركة عبد الوهاب الشواف.
ـ الغريب انه لم يعتمد سياسة واضحة في العراق بين القوى السياسية في البلد.. فعندما أراد إن يحجم قوة الشيوعيين أقال كبار الضباط الشيوعيين.. وأعاد كبار الضباط القوميين والبعثيين الى الجيش.. وسلمهم اخطر الوحدات العسكرية والفعالة.. التي كانت بيد الشيوعيين!!
ـ وهم بالتأكيد لم ينسوا اعتقالهم.. أو إقالتهم.. أو إحالتهم للتقاعد.
ـ فمن أين جاء (بعارف عبد الرزاق).. وهو قومي معروف.. ليصبح آمر القاعدة الجوية في الحبانية؟
ـ فمن أين جاء (بمنذر الونداوي).. الذي قصف وزارة الدفاع؟.. ومن أين جاء (بخالد مكي الهاشمي)؟ و(حاتم الياسين.. ووجدي ناجي.. وعدنان خير الله وغيرهم).. الذين زحفوا في ذلك اليوم بدباباتهم من أبو غريب الى معسكر الرشيد واحتلوه.. وآخرين أعادهم قاسم للجيش وسلمهم وحدة عسكرية فاعلة.. زحفوا الى وزارة الدفاع.
ـ إذن كانت سياسة عبد الكريم قاسم.. متناقضة أو بأحسن الأحوال ارتجالية.. فهو من جهة لديه أفكار واتجاه معين.. ويضع قوة الحكم وفاعليته بيد منافسيه وأعداؤه.
ـ فأصبحت القوى القومية والبعثية.. قوية في مواقع الدولة.. وهي قوى معادية له.. ووضعها الى جانبه.. وأصبحت قوة ضاربة.. وهي التي حققت عملية الانقلاب في 8 شباط 1963.
ـ دبابات البعثيين أتت من معسكر أبو غريب.. وبعد ذلك أتت قوى أخرى لحقتهم.. ودبابات أخرى.
ـ أعطى قاسم القوى المادية التابعة له.. لأعدائه ومنحهم الفرصة الذهبية ليقوموا بالانقلاب عليه.. بل وفرً لهم سبل النجاح الأكيد لانقلابهم.
ـ سقط قاسم ونظامه بأدوات حكومته.. وبسياسته المتقلبة.. وبتراجعاته.. فعبد الكريم قاسم تراجع عن عبد الكريم قاسم.
ـ والأدوات التي ضربت عبد الكريم قاسم جاء بها عبد الكريم قاسم.. أي جاء بها الى السلطة والى مواقع القوة.
ـ الأكثر غرابة انه حبس نفسه في وزارة الدفاع.. ويتلقى تعليماته من مدير حركاته.. ليحبس نفسه وجنوده بين جدران وزارة الدفاع.
ـ ويريد اسقاط (المؤامرة).. بالاتصالات الهاتفية لقادة المعسكرات .. الذين في غالبهم اما اعداؤه.. او ينتظرون جلاء الموقف ليحددوا.
ـ كذلك يريد سحق الانقلاب بالخطب التي لم يسمعها أحد!!
ـ بدل تقسيم القوة العسكرية الموجودة لديه في وزارة الدفاع.. لتنطلق بقيادة ضباطه المخلصين المتواجدين حوله ليحتلوا معسكرات الجيش في بغداد.. خاصة معسكر الرشيد ومعسكر خالد.. وينطلق بها لتحتل منطقة الكرخ.. وينهي الانقلابيين.
ـ لا أن تأتي دبابات الانقلابيين الى مكان تواجده المحصور بين أربعة جدران!!
ـ رحمك الله قاسم ضيعتً نفسكً.. وضيعتً العراق.. ومازال العراق ضائعاً.