لقد تعايشت في كوردستان اعراق وديانات ومذاهب وأجناس عبر مئات السنين، حتى قبل نشوء الكيانات السياسية الحديثة، وكما هي تضاريس هذه البلاد واختلاف أشكالها بين الجبال والسهول والوديان، توزعت الكتل البشرية وانتماءاتها في العرق والدين، بين الكورد والكلدان والآشوريين والأرمن والسريان، ومن العرب والتركمان، في كل معتقداتهم الدينية والمذهبية، حيث جمعتهم ارضا تمازجت فوقها كل الحضارات حتى غدت في يومها الأول نوروز سفيرة الانسانية الى كل العالم، جمعتهم القرى والمدن، قمم الجبال وأطراف الوديان، حيث اشترك الجميع في التاريخ والجغرافيا، وفي الحروب والعلوم والآداب، حتى تشابكت الأحداث والمشاعر والأحاسيس.
اختلطت دماؤهم ودموعهم في كل الحروب التي خاضوها معا من اجل الحياة أو من أجل بعضهم، اختلطوا وتناسبوا فامتزجت أنسابهم وألوانهم وسحناتهم حتى لم تعد تفرق بين العربي والكوردي، أو بين الكلداني والآشوري، لم يكن هناك أي صراع بين كل هذه المكونات والأعراق وبالذات بين العرب والكورد، بل ليس للكورد إخوة وأصحاب غير هذه المكونات من العرب وغيرهم من الأعراق والديانات، لقد كان الصراع مع الأنظمة السياسية التي حكمت الجميع واستهانت بحقوق الآخرين أقواما كانوا أم أديان، وكان الجميع ضحايا لتلك الأنظمة الدكتاتورية وأساليبها القمعية والظالمة التي تعرضت لها هذه المكونات وخاصة الكورد والكلدان والاشوريون عبر تاريخهم من حروب شنتها الأنظمة الدكتاتورية والشوفينية والتي زادتهم قوة وإيمانا بقضيتهم وبعلاقتهم التاريخية النقية مع الشعب العربي، ولم تترك رغم مأساتها (أي تلك الحروب القاسية) أي أثرٍ للحقد أو الانتقام، ولعل ما حدث في انتفاضة آذار1991م، بعد أن تحررت كوردستان من دكتاتورية النظام السابق وكيفية التعامل مع عشرات الآلاف من الجنود والضباط وحتى مع الكثير من الموظفين العرب العاملين في محافظات الإقليم، دليل على نقاء الشعب الكوردستاني بكافة مكوناته وأطيافه ونظافته من الاحقاد او الانتقام.
أن ما يؤكد متانة العلاقة الانسانية مع الشعب العربي وقوف الكثير من المثقفين والمفكرين والسياسيين والنخب الصحفية والاعلامية والناشطين مع جبهة الكورد وكوردستان ومناصرتهما من اجل حقوقهم في الشرق الاوسط عموما، وهذه فلسطين وفصائلها تشهد روعة ومتانة العلاقة بين الشعبين والثورتين الكوردية والفلسطينية منذ انبثاقهما وتعاون معظم المنظمات الفلسطينية مع الثورة الكوردية في كثير من المجالات، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، ولم يبقَ متسع من ثرى الشام والعراق وفلسطين والكنانة حتى طوى آلافا مؤلفة من خيرة مقاتلي كوردستان من المسلمين والمسيحيين والايزيديين في حروب العرب والمسلمين عبر قرون وقرون، فاختلطت الدماء والرفات، وامتلأت مقابر الشهداء رجالا جاءوا من كوردستان دفاعا عن العروبة والإسلام.
إن التعايش الأبدي في كوردستان عبر التاريخ القديم والحديث يؤشر حضارة راقية لدى كل سكان هذه المنطقة من العالم، ليس هنا في كوردستان العراق فحسب وإنما هناك أيضا في اجزائها الثلاثة الاخرى، حيث يتعايش المسلمون والمسيحيون والايزيديون من الكورد والعرب والكلدان والاشوريون والارمن في تسامح وتعاطي خلاق منذ أجيال وأجيال، فقد كانت كوردستان برمتها وما تزال تنتهج مبدأ التعايش والتسامح الراقي والنبيل بين الأديان والمذاهب والأعراق برغم محاولات المتطرفين من العنصريين عرقيا أو دينيا تمزيق هذا النسيج إلا إن طبيعة تركيبة السكان الاجتماعية والسيكولوجية والأخلاقية لا تسمح بنشوء هكذا توجهات أو أفكار والدليل هو تحول هذا الإقليم إلى ملاذ آمن لمئات الألوف من المضطهدين مذهبيا ودينيا وحتى عرقيا من كل أجزاء العراق الأخرى، وما يشهده الإقليم حاليا من نهوض ثقافي وحضاري لجميع مكوناته يدلل على هذا النهج السامي والأفكار النبيلة التي يتميز بها هذا الشعب الذي يقول ان كل الشعوب تسكن اوطانها الا نحن وطننا يسكن فينا، حيث تراه وتسمعه في كل الاغاني والأناشيد والحان الموسيقى والفلكلور والحكايات واساطير الاولين، حتى أصبح عنوان الانتماء لكل الاعراق والاديان في التسامح والتعايش وقبول الآخر.