تمضي الأيام وتبقى الذكريات تلتصق دائماً بكل الأشياء، بكل الأماكن، بكل الأشخاص، خلف الأبواب العتيقة ذكريات جميلة، مهما حاولنا النسيان،إلا أن الذكريات تبقى محفورةً داخلنا، تأخذنا لعالم جميل نتذكر فيه أجمل اللحظات حتى وإن كانت مؤلمة يبقى لها رونق خاص، فقد تجمعنا الدنيا بأشخاص أو نمرّ بأماكن لم نعتبرها في بداية الأمر مهمة، ولكن عند الابتعاد نشعر بقيمتها، فنعيش بذكريات وأمل أن تعود من جديد. وتختلط المشاعر بداخلنا فرحةً على كل ما مررنا به ، ووجود ذكريات من زمان وحزينة لمرورها سريعاً من بين ايدينا، ولكننا سعداء لأننا عشنا هذه اللحظات بحلوها ومرها، حمداً لله على وجود ذكريات لدينا من الزمن الحالي، ومهما كانت الذكرى فهي أروع وأجمل ذكرى لأجمل أيام في حياتنا ولن تعود. أناس رحلوا ولم يتركوا لنا سوى بقايا ماضي، عطرلا ينسى، صوت نتمناه، حضن نفتقده، حب يكبر و يقتل، صور صامتة، شوق لا يبرد، دموع لا تجف، ألم لا ينتهي، منزل تهدم مليء بالذكريات، وثياب معلقة تقتلنا بين الحين والآخر. فتلك الذكريات تأخذنا إلى عوالمِنا التي انطفأت برحيلنا، إلى الطفولة التي كانت تأبى أنْ يقاسمها الزمان بخيباته، كانت تلتصق بكلِ لحظةٍ خوفا من تطّايرها؛ فالبراءة آنذاك كانت المحطة التي لا تتوقف عن المسير، تستمدّ قوتها من عمق الأرض المباركة التي لونتها أيدي أجدادنا. لكلّ مكانٍ بصمةٍ ما، أحلامٌ معلقة وإن لم تتحقق، تبقى صامدة على الجدران، ككلماتٍ وأشعار،رسوم، عبارات ؛ أبت أن تسمح للزمان مسح أثارها، التصقت بتلك الأمكنة، التي قد غادرها أصحابها رغمّا عن قلوبهم ، الذين قد قضوا غالبية سنين حياتهم بين الجيران ذهابا وإيابا، قد خلدوا ورائهم الماضي المرصع طموحهم ، والأحداث التي واكبوا ظروفها و تعايشوا مع نتائجها؛ رغم قساوة الظلم الذي استحوذ أوقاتهم، و الذي فرض عليهم سلطته وحرمهم من أيامهم.
لقد جمعت باب الشيخ وهو جزء من شارع الكفاح هذا الشارع التاريخي بالأحداث التي وسمت في ضميرنا الخبز كيفن أكله والعطاء كيف نبذله ، والصداقة ما معناه ، والوفاء اين حده ،جمعت من الاشخاص في النكتة واللطافة وكيف يرسمون البسمة على الوجوه الاخرين ورغم ما تنوعت مشاربهم وعكد الكورد ضمت تنوع من الناس ، ومن أشهر العوائل التي سكنت المنطقة مجموعة من عوائل الجنابيين الاعزاز وذابوا بالمنطقة بشكل عجيب وكانوا يتحدثون اللهجة الكوردية الفيلية بطلاقة ولا تفرقهم عن لهجة ابناء المنطقة ، بحيث لقبوا احدى بناتهم خستخانة ( و خستخانة تعني الطبابة أو المستشفى ).وهي احدى بنات ربوعة ام ابراهيم الجنابي الذي لقب باسم والدته وهو أي ابراهيم ربوعه في العادة ما يكون في حالة سكر دائماً وطول السنة ” عطال و بطال “لا شغل ولا عمل ويلتقي في مقاهي رأس الجول المشهورة عراك الديوك ويأخذ الخاوة ( أي إجبارهم بدفع الاتاوة )من الفائزين ودائما في شجار مع أبناء الدربونه لأسباب تافهة وبسيطة ورغم كل ذلك يشارك في ايام عاشوراء في المراسيم الحسينية رغم انه من الطائفة السنية الكريمة ويتميزبضخامة جسمه و ابراهيم ربوعه من الشخصيات الفكاهة بمحلة باب الشيخ بعگد الجنابيين يكاد يكون على الفطرة، انتمى لحركة القوميين العرب في نهاية الخمسينات ثم ابتعد عنهم في الستينات خوفاً من السلطة وكان فكاهياً وجريئاً وذو جثته وهيكل الضخم و وجود اقرباء له بالحكومة الا انه كان يخاف السلطة لان السلطة قد كلفت بالعمل في الجهات الامنية ولكن رفض لانه محباً للاكراد الفيليين الذين يسكنون المحلة معه حباً جماً شقندحي الصفة طيب الحال عندما يكون غير مخمور . ومن اللطائف التي قام بها كان يتردد على “الشوربه خانة ” في الحضرة الكيلانية والتي تُذبح فيه يومياً ذبائح ويعمل منها الشوربة لتوزيعها على الفقراء وهذا روال يومي فقام بخطف احدى الذبائح بكاملها بعد سلخ جلدها من الطباخين ويهرول بها الى البيت مما استدعى ان يقوم المسؤولين على الطبخ الركض ورائه حتى دخل البيت وغلق الباب واخرج رأسه عليهم من الشباك وهو يقول روحوا اني ما انطي ( اي اذهبوا اني لا اعطيه) وتجمع الاطفال حول الداربالصراخ والاستهزاء به ( ابو علي باك الطلي) اي ابو علي سرق الخروف إلأ انه لم يبالي ابداً رغم صعوبة الموقف واستحوذ على الخروف بكامله ومن مواقفه ايضاً هو وما أن يأتي محرم ويبدأ عاشوراء والفيليين يقيمون مواكب عزاء الحسين في ساحة العوينة حيث كان مكاناً لتجمع مواكب المنطقة وهيئاتها وهي ساحة مشهورة لكرةالقدم حيث كانت تجرى فيها مباريات اشهر الفرق الاهلية ويختارون الشخوص المقبولة في اشكالهم للمستهمة في عرض صورة عن ما جرى لاهل البيت من مظالم في تلك الواقعة المحزنة ويختارون من ابناء المنطقة لاخذ دور اولاد الحسين وأهله من اطفال وشبان وحتى النساء أما دور الشمر ابن ذوالجوشن فيقع على ابراهيم ربوعة باعتباره صديقهم ويشاركهم العزاء ولانه ضخم الجثة بالمحلة ويتحمل رددات غضب الناس المواسين ، وفي احدى المرات ما ان صعد على الحصن وهو يتقدم من بين عويل النساء وهو يوعد ويزمجر ويهدد اصحاب الحسين وسط ساحة العوينة لابساً ثوبه الاحمر والنساء يبكين ويلعن شمر ( ابراهيم ) حتى سقط من على ظهرالحصن على الارض فنزعت احدى النساء نعالها ورمته به لتصيب صدره فما كان منه الا ان يردعليها بالسب والشتم فامطروه بوابل من قشور الرقي فهرب وزعل حتى كان موعد حرق الخيم ال الرسول وكان علية الايعاز لحرقها فلم يجدو إلا الركض الى بيته ثم اقناعوه فتم ذلك مقابل بطلين بيرة فعادة وامر بحرق الخيم حتى انهالت على الجماهير بقذفة بقشور الرقي مرةاخرى..وهو يسبهم ….ومن المواقف الاخرى كان هناك شخص آخر في منطقة شارع الكفاح اسمه خيته كور ( خيتة الاعمى) وهو ايضاً مرح ولا يبالى بتلطيف الأجواء ويراهن على أخطرها مقابل شروط معينة . ويقال ان في يوم من الايام كان الشارع على موعد لزيارة الملك فيصل الثاني له ومن العادة ان الملك كان يركب عربة يجرها الحصن ويجوب في الشوارع وخاصة الشوارع كانت غير مؤهلة للسيارات او ليكون على كثب مما يجري وسماع مطالب الناس فتم الرهان مع خيته كور لركوب احدى تلك الحصن التي تجر العربة وفي مقدمة الموكب وفي الوقت المناسب صعد خيته كور على ظهر الحصان دون ان يتوقع المارة وبسرعة دون خوف او ارباك مما اضحك كل الجماهير وعندما راى الملك ان الناس تضحك انسجم مع الواقع وهو يضحك مثلهم دون ان يتخذ اي موقف سلبي تجاه خيته كور وسار الموكب على حاله …يتبع