من غير تردد نرى ان تبادل المواقع بين ظاهرات الحياة العامة غدا مقبولا من الناحية العملية المباشرة قبل التوثيقية المدروسة. فما يصلح قانونياً في بيولوجيا الانسان قد يتوافق قانونا في بناء المجتمعات وتطورها، فالانسان يولد وينمو، والمجتمع يولد وينمو، والانسان يهرم ويشيخ، والانسان يتنفس ويتغذى، والمجتمع يتنفس ويتغذى، وهكذا… حقيقة ماثلة في مقابل جواز ممكن، وهكذا عاقل بالخلق والوجود في مواجهة من يحمل صفة العاقل بلاغة وبحدود.
باختصار- ثمة ما نتميز به وليس لنا ازاءه خيار الاختيار او بنزعة الصنع او رغبة الاستغناء، وثمة ما نضيفه فينا ولنا فيه خيار الانتقاء او رغبة التشكل او ميل الامتناع. هنا يبدو الانتماء القومي والقومية صفة من الصنف الاول فانت عربي بالوجود والخلق والدم واللسان والقلم والتاريخ والتراث والمستقبل، كما يبدو معه الانتساب القاري والقارية سمة من الصنف الثاني. فانت افريقي في المكان والبيئة والانتظام والحركة والزمان، وما بين الصنفين وما يماثلهما قياسا، تكامل لا يفسده تناقض طارئ، وتداخل لا يدمره تضاد مفتعل، وتواصل لا يربكه اضطراب، ولا يبقى معلقا بين الانتماء القومي والانتساب القاري الا الحدث وردة الفعل عليه، فالحدث العربي والرد الافريقي صفحة واضحة، والحدث الافريقي والرد العربي صفحة معروفة، وان تأثير الرد لا شكله يحدد اصالة الانتماء وسلامة الانتساب، كما ان شكل الرد لا تأثيره يحدد ضآلة النتائج المحققة وتواضع فائدتها، ان لم يكن ذلك على سبيل الاطلاق فعلى سبيل احيانا، اذ لا يصح فكريا ونفسيا واجرائيا كما نعتقد، وضع الرد بصيغتي التأثير والشكل في كفتي ميزان واحد وننتظر توازنهما، ما دام كل منهما متغيرا وغير ثابت، ولا يصح ايضا او من بعد ذلك وضع الانتماء القومي في مناقضة الانتساب القاري او ترجيح الثاني على الاول على نحو دائم ومبدئي بجعله قانونا سياسيا او سلوكيا عاما لان هذا التوجه تماما انطولوجيا الانسان العربي والافريقي معا، ولانه يخالف مضمون سوسيولوجيا الوطن العربي والقارة الافريقية معا، بل يجعل من هذا الفعل سابقة تتخذ لها مدارا خارج نواميس العلم داخل تقلبات المزاج، الامر الذي سيجلب للسياسي في هذا السياق الشعور بالندم والشعور بالذنب في مستقبل الايام، اذ ربما يتعذر اصلاح ما فات الا بكلفة عالية، بل ربما يمتد الاذى الى اعضاء اخرى في الجسم القومي الواحد او حتى الى اعضاء اخرى في الجسم القاري الكبير، لان قياس قوة السلسلة بمتانة اضعف حلقة فيها مبدأ صادق.
فاذا كان ضعف العرب يكمن في تخلف نظام جامعتهم وتردد بعض زعمائهم في الاصلاح والتطوير، وان قوة الافارقة تكمن في جودة نظام اتحادهم ومبادرة بعض زعمائهم في التصرف الذي يعكس بعض التحدي المتسارع والمنقطع، فان الشخصية العربية- الافريقية المسؤولة مطالبة قبل غيرها بمحاولة استقطاب الجهد والسعي الى تقويم الاعوجاج من زواياه الواضحة، واولها هيكلية الجامعة العربية ونظامها الداخلي، لان ما تحقق في افريقيا غير العربية ازاء ليبيا وفي موقف يكاد يكون عابرا غير مكرور او هو محدود وليس جميعاً منتظماً، لم يكن ليتحقق في سابق العقود والسنوات رغم عشرات الاحدات والنكبات التي المت باقطار القارة العديدة.
لهذا السبب يبدو ان من الصعب حقا توفير فرصة مناسبة لاشتقاق قانون يمكن تعميمه على العلاقات العربية الافريقية او الافريقية الافريقية ومنها الى آسيا وامريكا اللاتينية، كل ضمن ظروفها المعروفة، واذا كانت افريقيا تشهد في الوقت الحاضر احداثا متدرجة الاذى.. فان ستراتيجيات الولايات المتحدة الجديدة واوربا الغربية من بعدها ستجعل من بلدان افريقيا السوداء مسارح دموية تباعا وحسب برامج معدة مسبقا، بل ان الصومال الذي تمزق عمليا على ثلاثة اجزاء رغم تسميته الواحدة رسميا ليعود بهذه الواقعة الى الانتساب الافريقي وليس الى الانتماء العربي فقط، فلماذا لا تتخذ اجراءات وحدته صيغة افريقية اذا كان الحل الافريقي يخدم اكثر من الحل العربي؟
ان الواقع السياسي العربي- القاري متداخل فعلا، ولا يمكن او لا يجوز بل لا يصلح تجزئة هذه العلاقة وترجيح البعيد على القريب، وان المواطن العربي لن يقبل قطعا بقرار الانكفاء عن الجسم العربي والانتماء القومي رغم ما فيه من مشاكل طافية على سطح الاحداث الكونية، لانه الجسم الطبيعي وانه الانتماء الطبيعي على معنيي الطبيعة والفطرة معا، اما عدا هذا الجسم فهو ان لم يكن (بدلة) يمكن استبدالها والاستعاضة عنها فانه لن يصير البديل الثابت والدائم عن الجسم العربي والانتماء القومي عمليا وغائيا في المستقبل المنظور وغير المنظور معا. اذ ان قرارا لاحد الاقطار العربية او اكثر بلانسحاب من الجسم العربي سيعني لا محالة واد الجامعة العربية من غير ان تتاح للعرب فرصة تأسيس جامعة بديلة او احيائها هي نفسها خلال عقود طويلة مقبلة من الزمن السياسي، بل ان هذه الجامعة ستصبح املا او طموحا او حلما للجيل القادم او الذي بعده مع انها الآن موضع استخفاف بقدر، واستهانة بقدر، واذا كان لا بد من التعبير عن الاحساس الداخلي والشعور به بصدق موجع، فان وجود الجامعة العربية بسيئاتها المعروفة وحسناتها المحدودة خير من غيابها الابدي وتناثر الاقطار العربية اقليمياً وقارياً ودولياً بين الاحضن الشريرة او القديسة. اما انشاء جامعة عربية افريقية مع جامعة عربية اسيوية اي قسمة الجامعة العربية على نفسها لان اقطار عرب افريقيا صاروا افارقة سياسيا وان اقطار عرب آسيا لم يصبحوا بعد آسيويين سياسيا فهو تصور اقرب الى السذاجة منه الى النضج او الرشد، لان التدني الكمي والنوعي والمستوياتي لا يصير طريقا للارتقاء والتوحد لاحقا، فالعربة لا تشد امام الحصان تحت اي ظرف، بل يمسي ذلك التصور وسيلة لتكريس التشتت القطري عند اول ازمة ثنائية فضلا على الغاء مفهوم القلب العربي والجناحان الذي صار حقيقة ملموسة في اكثر من مناسبة وعلى نحو خاص ما يتعلق بالعراق الجناح الشرقي للوطن العربي. اما الخسائر غير المنظورة في الانسلاخ من الجسم العربي تنظيمياً او انتماءً، فان اولها ضياع الهوية الخاصة او الذاتية، فشعوب افريقيا غير العربية مصنفة حسب اللغات التي تنطقها، وكل مجموعة ترتبط بالدولة الام عبر هذه اللغة او تلك بمنظمات معروفة، فالى اين مصير القطر العربي بينها؟ هل يعد نفسه ناطقا باللغة العربية مع كينونة قومية عربية؟ اي معكوس الوضع الافريقي والامريكي اللاتيني تماما.
ان ما تتمناه في اخر الامر وفي اوله، ان لا تكون قراراتنا بهذا الحجم في المحتوى وبهذه البساطة في الشكل.
[email protected]