باعتراف المحللين والمفكرين وجهابذة السياسية، أنهم مكثوا حائرين بفهم الخريطة السياسية في العراق، وتشتت الآراء والأفكار والتحليلات، مما أدى بالمواطن العراقي الذي يأمل خيرا من جحافل المثقفين، لإرشاده لسكة الصواب، بدل أن يتيه بين “حانة ومانة” لتضيع لحاه بين هذا وذاك، وبالتالي لم يستطع أن يمسك: لا “بالخيط ولا بالعصفور”، مما حدا بالمراقبين ومنهم نحن المغلوبين على أمرنا، أن نرسم خطوطا وبيانات وخرائط ونقترح على أنفسنا فرمانات، وبالتالي لم نفلح أن نمسك بسمكة صغيرة، بعد أن تهرأت شباكنا، لنبقى في حيص بيص ما يجرى من ابتلاء، لا يصلح فيه، إلا لذوي المواهب من الفنانين التشكيليين العراقيين أن يلتقطوا هذه الحالات المبكية المضحكة، ليحولوها الى رسوم كاريكاتيرية، تصلح فقط لاستدرار ضحك الأطفال، أما الكبار فلا حول لهم ولا قوة إلا في تناسل الأسئلة في رؤوسهم والمياه الآسنة تسيح من تحتهم.
إن المشهد السياسي في العراق بات قريبا من لعبة الداما المغربية الشبيهة بلعبة الشطرنج، التي تتطلب نباهة وفطنة وذكاء ووضع الخطط ، هكذا عاد الفهم لبواطن السياسة في العراق التي تحولت من الفهم المتاح لكل المواطنين، الى دخولها في أنفاق وسراديب ودهاليز وحفر مطمورة، لا يمكن العثور عليها أو التقرب منها أبدا، إن لم تتوفر لدى الباحث عن تلافيفها النباهة والذكاء ومعرفة أساليب الشيطنة، وحتى في هذه الحالة، يظل المرء المعني بفك اشتباكاتها يبحث عن الوسيلة التي تمكنه من الخروج من عتماتها وتلمّس نقطة الضوء التي تنير ولو اليسير من الغموض المبهم.
ترى هل نحن في نقلة تاريخية تبتعد كثيرا عن تلك التي كنا نعيش فيها ونفهم اوليات سياستها وما يجري من متغيرات، إن كانت إيجابية أو سلبية؟!.
آثرنا أن نتوخى الغموض في تناولنا للتصدي للمشهد السياسي، بكل مكوناته التي غالبا ما تكون مريرة وفجائعية، لأن أمامنا أكثر من سد وأكثر من مانع يحول بيننا وبين صانع القرار السياسي، هذا إذا كان الفاعل السياسي بمواصفات من شأنها أن تفرض احترامها على المخالفين حتى وإن كانوا غير متفقين معه، إن كان يملك من الكفاءة والقدرة والوعي والتمكّن، ما يفرض عليه احترام المخالف وصولا لمشتركات، إن كانت تسير في ذات الاتجاه، او لا تلتقي أبدا، وكما قال فولتير “قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك”.
من يا ترى يصل ولو بالحد الأدنى، الى مثل هذا القول الإنساني الذي عليك ألا تصادر رأي من يخالفك، بل وتدافع عنه باستماتة، وبالمقابل يبادر الآخر وبذات الإصرار للدفاع عن قناعاتك. هكذا هو الفهم العقلاني للسياسة والتعايش المجتمعي وما ينبغي أن كون عليه واقع الحال السياسي.
أن كلامنا هذا لا علاقة له بالأماني، بل ما ينبغي أن يكون عليه السياسي الذي يستحق أن يحمل هذا التوصيف بالمهمة المناطة به.
ترى إذا ما قارنّا ما ذهبنا اليه توا وبين ما يجري في العراق من وجود مخلوقات تدّعي أنها سياسية، ولا يتوفر لديها الاستعداد لأن تحيد عن قناعاتها التي لا تبتعد عن الفنتازيا بمواقفها الساخرة، مخلوقات لا تذهب بعيدا عن سعيها في الهيمنة على مفاصل الوضع في العراق، بطرق صبيانية ونزق وقلة معرفة وخروج عن القوانين المرعية، مما أدى بها الى فرض سطوة قمعية ومارقة، بتهديدها لكل من يغايرها ولا يعترف بعبثها وسعيها للخراب، بوجود مليشيات ومسلحين أغرار وجهلة، يكلفونهم بفرض الفوضى تصل الى حد التصفيات، وهم مجرد صبية لا يفقهون شيئا، فتية مغرر بهم ومدهونين بالسحت الحرام من أموال العراقيين المنهوبة.
ولا نعرف إن كانوا على دراية أم لا بما يفعلون من جرائم، ليعودوا مطايا لتنفيذ أجندات خارجية لا يفقهون مخاطرها الكبيرة إلا بعد أن يعوا لاحقا، أنهم باعوا أنفسهم وخانوا وطنهم بأبخس الأثمان، ويا للعار…
فهل هذا هو البديل الذي انتظره العراقيون لعقود طويلة وبنوا عليه الآمال سيما بعد إزالة النظام البعثي القمعي، ليطبقوا مقولة “من بعدي الطوفان”، فما هو مصير مدام دي بومبادور وعشيقها لويس الخامس عشر، وما هو مصيرهما؟
إن الكرسي لا يدوم والسلطة زائلة، وأنتم بعلمي مقتنعون بذلك، إلا ذلك الذي أعمت عينيه الامتيازات وعطّلت عقله الفخفخة الفارغة وسلطة الهمايون وكامل مجساته، بحيث لم يعد يميز من راهنه وما مضى من أحداث تعتبر دروسا لمن يعتبر ليسقطها على واقعه الرث.
أعترف كمتابع للشأن العراقي، ولعل العديد من أمثالي كذلك، بأنني عاجز عما يجري في العراق، رغم أنني تناولت الأوضاع بعين المراقب الحريص على التفاصيل، وكتبت مئات المقالات بهم إنساني مرير وما يتعرض له بلدي العراق الجريح، لكنني مرة أخرى أعلن عن فشلي فيما يجري من غموض لا يمكن إزاحة الغيوم عنه لكثافتها، ولم تكن غيوما كما نفهم، بل هي طلاسم ابتكرها السياسيون، كما المنجمون، لتغييم الوضع ووضع غشاوة على الأفعال المخزية التي يقومون بها، وفي ظني أن هؤلاء السياسيين يتقصدون تعويم الوضع ليكون خاضعا للتأويل وتشتت الفهم لتضيع الأقدام وينزلق المتابع في مهاوي الخديعة السياسية.
ثمانية عشر عاما مرّت ولم نلحظ ولو ليوم واحد بأن ساسة العراق يحتكمون على سعة أفق وحكمة مطلوبة وانحياز واضح لمشاكل العراق وامتلاك الحس الوطني المطلوب، وغيرها من التوصيفات التي تضع السياسي الحر والنزيه في قلوب العراقيين.
لكن وللأسف الشديد صدمتنا سلوكاتهم وتكالبهم على السلطة ومغريات الكرسي، ناسين أو متناسين بغفلة، ما جرى لمن قبلهم وما آل اليه مصيرهم، وبالتالي لم تنفعهم، لا عنجهياتهم ولا بلطجيتهم ولا تصفياتهم للأحرار ولا مقابرهم الجماعية ولا أسلحتهم الكيمياوية ولا صواريخهم، ولا… ولا،،، بل لم ينالوا أي شيء من الرحمة بعد رحيلهم حتى من بعض المقربين لهم، وبالتالي لم ينالوا لا العنب ولا السلة، بل ظلت اللعنات تلاحقهم ليل نهار والى أبد الآبدين.
ما يمر يوم إلا وتفاجئنا الفصائل المسلحة المعنية في تناولنا هذا، بالجديد من الأفعال البلطجية القذرة وبث الرعب ولي الأذرع وارتكاب الجرائم بحق الأبرياء ونشر كل أصناف الانفلاتات التي ما عرفت شعوب العالم مثيلا لها.
وها نحن في حضرة ثورة تشرين المباركة والمطالبة بأبسط حقوق المواطن في العيش بأمان وتوفير مستلزمات الحياة الضرورية والعيش الكريم واحداث نقلة نوعية في المجتمع العراق الخارج من محرقة صدام ليدخل في محارق أحزاب السلطة القمعية الجديدة.
فتحول العراق الى شظايا واشلاء وكانتونات تقاسمتها أحزاب الفساد والقتل والنهب والجرائم المنظمة ووضع حياة المواطن على كف عفريت وتحت رحمة صبية مسلحين لا يفقهون من حياتهم غير القتل وإشاعة الرعب واستهداف الأبرياء من الرافضين لمهازل الوضع السياسي، وبالتالي اخضاع العراق تحت وصايتهم ورحمتهم التي لا كرحمة الملائكة، بل رحة فاقت أفعال الشياطين، بل ان الشياطين قد تكون أرحم من هؤلاء القتلة المتوحشين.
نحن هنا لا نريد ذكر أسماء الضحايا لكثرة أعدادهم والتي تعد بالمئات ولا أعداد الجرحى وهم بالآلاف ولا أساليب الخراب الذي يشيعه هؤلاء البهائم، حتى أن رعبهم دخل في كل بيت عراقي.
والكارثة الأعظم أنهم ما زالوا يدّعون بأنهم كانوا من ضحايا نظام البعث المقبور، فهل يا ترى من الممكن أن يتحول الضحية والمطارد والمهدد بقسوة البعث، الى جلّاد بل وجلاد أشرس من جلادي فدائيي صدام وأجهزة الأمن القمعية؟
أما قلت لكم بأن الوضع السياسي في العراق اليوم يستعصي على أي شخص حتى وإن كان فطحلا، فهمه وتفسير مغزاه وتوجهاته؟
ولنا عودة أخرى