في نظرة غير متشائمة لما تمر به البلاد ، فانا لا نتلمس حالة من الأمل او الرخاء في المستقبلين المنظور والبعيد ، فالأزمات تعصف بنا وتتكرر كل يوم دون معالجات والورقة البيضاء لم تعد الحل الناجع لكل المشكلات ، والجيد مما يطرح مجرد أحلام على الورق لا تجد طريقها للتطبيق ، فنظامنا السياسي القائم على الانتخابات الديمقراطية النزيهة كل أربع سنوات التي يعقبها تشكيل حكومة وطنية نصفها او اقل بالوكالات ، لا تعمل بمعزل عن إرادات الكتل والأحزاب مما يجعلها سريعة المسح او النسف لما سبق من خطط وأحلام ووعود ، لان أي منا لديه فكرة او أجندات ليس بالضرورة تطابقها كلا او جزءا مع ما سبق من أفكار وطروحات الآخرين حتى وان كانت بمحلها الصحيح ، دون أن ننسى إن المناصب بأمرها الواقع تحولت إلى كعكة يتم تقاسمها بين المتنافسين وعنوانها المعلن والعريض أصحاب الاختصاص والمستقلين وباطنها التحكم عن بعد ب( الريمونتات ) ، فاللجان السياسية والاقتصادية لها تأثيرها السحري في تسيير الأمور كيفما تراه ، وهذه الخزعبلات وغيرها تجعلنا بعيدين بمسافات قريبة او بعيدة مما يجري في العالم من تطور وتغيير لا يصب بمجمله لصالح العراق ، ليس لان العالم معادي للعملية السياسية او انه من أزلام النظام ، وإنما لان الكثير منا لم يدرك بشكل حقيقي ما يحدق بنا من أخطار محتملة كوننا من الدول أحادية الإيراد وعدد سكاننا يرتفع عاما بعد عام .
وفي هذا السياق قرأت منشورا يضع اليد على الجرح ، ووجدت من المناسب تضمينه في هذه السطور للتذكير بخطورة ما نمر به مما يتطلب ملامسة الواقع والمستقبل الحقيقي فيقول فيه ، لا أعتقد أننا ندرك تماما تأثير (القفزات العلمية والتقنية) على حياة الشعوب ، فلو لاحظنا مثلاً كيف اختفت الصناعات التقليدية البسيطة بعد اكتشاف البلاستيك والبترو كيمياويات والألياف الزجاجية ، وظهور البلاستيك مثلا دمّر صناعات والفخـار وحاويات الصفيح في أفريقيا وأواني الألمنيوم هنا وهناك ، وظهور الألياف الزجاجية دمّر صناعة القوارب الخشبية في قرى الصيد الفقيرة ، واكتشاف المطاط الصناعي دمّر صناعات المطاط الطبيعي في تايلاند وماليزيا وأميركا الجنوبية ، ونجاح اليابانيين في تربية المحار دمّر صناعة اللؤلؤ الطبيعي في دول الخليج العربي ، وانتهى عصر الاستعمار برمته لأن أوروبا (مع احترامنا لنضال الشعوب المقهورة ) ، ابتكرت بدائل للقطن والقصدير والزيت والكاكاو والمواد الخام التي كانت تسرقها من الشعوب المستضعفة .
وفي واقع الحال فان في كل سنة جديدة تحقق الدول المتقدمة قفزات علمية وصناعية تترك تأثيراتها السلبية على المجتمعات المتخلفة ، وفي المستقبل القريب سيستغني العالم عن النفط أيضاً كما استغنى عن البخار والفحم ، فـالطاقة المتجددة بدأت تحل مكان النفط والغاز والفحم ، ودول مثل ألمانيا والدنمرك والسويد أصبحت تولد معظم طاقتها الكهربائية من الرياح والخلايا الشمسية ( رغم ضعف الشمس في أوروبا ) ، ودول مثل فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية تعتمد الآن على الطاقة النووية لتزويد منازلها وطرقاتها بالكهرباء ، وتطور تقنيات النفط الصخري ( لم يهوِ فقط بأسعار البترول ) بل نقل أميركا وكندا من خانة الدول المستوردة إلى خانة الدول المصدرة للنفط .
أما الكارثة الجديدة فهي الانتشار السريع للسيارات الكهربائية في معظم الدول ، فقد أصبحت شركة تسلا الأميركية ( لصناعة السيارات الكهربائية ) الأكثر نمواً في قطاع السيارات ، وتحاول جميع الشركات التقليدية (مثل تويوتا وهونداي ومرسيدس وفورد) اللحاق بها خشية توقفها عن العمل حين يتوقف العالم عن استهلاك النفط ، والذين يسافرون لها للخارج يلحظون في كل سنة ارتفاعاً مطرداً في أعداد السيارات الكهربائية والهايبر (التي تجمع بين النفط والكهرباء) ، ففي النرويج هناك حياً كاملاً تصطف فيه سيارات كهربائية تشحن نفسها خلال الليل ( سيارات مألوفة ــ ومن شركات معروفة ) ، وفي بلد يعد من أكبر الدول المنتجة للنفط ، لاحظوا في البرازيل أن محطات الوقود تملك رائحة غـريبة ( تختلف عن رائحة البنزين التي تفوح من محطاتنا ) وقد علموا أنه نفط عضوي مستخرج من زيت الذرة تسير عليه نسبة كبيرة من السيارات هناك ، ومن السذاجة فعلاً أن نطمئن لوجود النفط حتى لو كنا نشكل ثالث احتياطي مؤكد وامتلكنا منه مخزونا لألف عام لأن الخطر قادم من جهة غير متوقعة ، ربما تأتي من خلال قـفزة تقـنية قد تكون محركاً جـديـداً ، أو بطارية خارقة ، أو اكتشاف غير مسبوق ، أو طاقة بديلة أرخص من النفط ، وقفزة كهذه ستكون بلا شك نعمة للدول المستوردة ولكنها بالنسبة لنا قـفـزة تجعلنا في القعر ، فنحن ببساطة شعوب غـير مُصنعة ولا منتجة لأي من هذه التقنيات ، لذا يشكل استغناء العالم عن النفط كارثة حقيقية بالنسبة لـنا ، واحتمال مثل هذا لا يستدعي منا فقط تنويع مصادر الدخل (وهي الأسطوانة التي نسمعها ونعيدها من ربع قرن ) بـل وجوب تحولنا بسرعة إلى مجتمع صناعي حقيقي يملك منتجات قابلة للتصدير، وفي السياق ذاته يقول احد المفكرين ، ( لولا العـنف والنفط مـا سمع العالم بالعرب ) ومن حقنا القول : حين يذهب النفط سيغلق العالم أبوابه ليتركنا في حالة من العـنف والتراجع ، هل وصلت الفكرة أم إنها تحتاج لمزيد من التوضيح ؟؟؟؟؟.