كان يوما خريفيا حائرا تقتبس منه الذكريات الكثير من النفحات والكثير من علامات الاستفهام ، كنت في احد استديوهات اذاعة طهران العربية ، واذا بالهاتف يرن ، لم اكن اتوقع ان يكون في الطرف الاخر رئيس مجلس الحكم العراقي انذاك الحاج عز الدين سليم ، كان الاتصال تحديدا يوم الخامس عشر من ايار/مايو 2004 ، انبهرت بالطبع للاتصال المفاجئ خاصة وان وقع كلماته المحببة تغوص في اعماق نفسي وتتراقص امام مخيلتي ، حاولت ان اضبط بوصلة مشاعري كي اتعايش مع ارتعاشة الصوت القادم عبر الاثير ، كلمات عبقة اليفة متدفقة حاولت السفر على اجنحتها الحالمة الا ان لهجته تغيرت بشكل واضح طالبا مني المجيء للعراق من اجل المشاركة في وفد اعلامي عراقي لتغطية القمة العربية في تونس والتي اعتقد انها كانت في العشرين من ايار في ذلك العام .
كانت كلماته ونبرته غير طبيعية وغير معهودة استفسرت منه عن سبب عدم ارتياحه وارتعاشة صوته ، قال لي بتودده المعهود (اخي ابو جهاد) ادعو لي بان يخلص (ينتهي) شهر رئاستي لدورة مجلس الحكم بخير لاني اشعر باني لايمكن ان انهيها وان رحيلي قد اقترب . قلت له (بعد الشر عنك حجي ) لاتقل ذلك عمرك ان شاء الله طويل ، لكنه كرر مقولته بان اجله قد اقترب وان هناك من يحاول التخلص منه. سالته عن الجهة او الجماعة التي يعتقد بانها تكيد له ، لكنه لم يجبني بشكل واضح وانما حاول ان يرطب الجو كعادته باطلاق نكتة او طريفة ، لكنه شدد عليّ بالمجيء لبغداد لكي اكون ضمن الوفد الاعلامي المقرر ارساله لتونس .
لم اكن اتوقع انها كلمات او رسالة وداع ، وانه ارادني ان احضر شهادته وان اكون عريفا لذلك الحفل الوداعي الرسمي الكبير لشهيد العراق الحاج عز الدين سليم .
من طبعي ان لا ارد للحاج طلبا خصوصا في ظروف صعبة وتقتضي الوقوف الى جانبه لذلك وعدته خيرا ، وبالفعل انتقلت الى البصرة مساء يوم 16 ايار/مايو على امل ان اسافر يوم 17 الى بغداد ،وفي صباح يوم السابع عشر من ايار اتصلت به ولكن الموبايل وجهاز الاثير يرنان دون جواب استشعرت بكابوس يثقل على صدري ، دارت الدنيا من حولي ، خفت ان يكون قد وقع سوء للحاج ابو ياسين ، عاودت الاتصال ولكن دون جواب ، اتصلت باحد الاخوة المقربين منه في بغداد واذا به ينتحب ويقول استشهد ابو ياسين وبدأ يعزيني ويخفف عني بعد ان اجهشت بالبكاء. لذلك لاعجب ان كتب بعض الاخوة في مقالاتهم يوم الاستشهاد ، بان ابا ياسين وابا محمد العامري وابا جهاد العيدان استشهدوا معا لان بعض الاخوة كانوا يعتقدون اني كنت مع الحاج ابي ياسين خلال عملية اغتياله في بغداد ، لانه رحمة الله عليه قد اخبرهم بامر مجيئي الى العاصمة ، هنا تدلت هموم الدنيا وسحابة الالم المضني امام ناظري وطلب مني الاخوة البقاء في البصرة بانتظار وصول جثمان الشهيد وبقية الشهداء المرافقين له الى البصرة .
اتصلت بصديقي الحاج ابي صفاء ( محمد سعدون سهر العبادي) لكي ارتب معه بعض الامور بخصوص شهادة المفكر والمعلم الحاج ابي ياسين فطلب مني الحضور في مكتب حركة الدعوة الاسلامية من اجل التحضير لاقامة مجلس تابيني يليق بالشهيد والصفوة الطاهرة التي استشهدت معه .كلفني الحاج ابو صفاء ان اكون عريف حفل التابين على قاعة شركة نفط الجنوب بالبصرة وكان حفلا تابينيا حاشدا ومهيبا حضره العديد من الوزراء والمسؤوليين والشخصيات والمفكرين والشعراء حيث استطعت بتوفيق الله ادارة الحفل بالشكل المطلوب ، وكان الى جانبي مسؤول اعلام البصرة انذاك المرحوم ابو كرار(عبدالحسين خزعل ) الذي اغتيل بعد سنة تقريبا من قبل مجهولين .
لم استطع ان اكتم حزني وغضبي ولم اجد من الومه او اصب عليه جام غضبي سوى الاخ والصديق محمد جاسم خضير المكصوصي الذي كان وزيرا للهجرة والمهجرين وعتبت عليه كيف يتركون الحاج ابا ياسين بدون حماية ودون اي غطاء امني ولكنه لاذ بالصمت ودموعه تنسكب امامي .
كان بالفعل يوما مشهودا وصعبا وقاسيا جدا اصبت خلاله بالاسهال وارتفاع درجة الحرارة ، وقد نصحني بعض الاخوة بالعودة الى طهران لان وضعي الصحي والنفسي كان منهارا جدا لفقدي اعز واخلص انسان عشت معه وعاشرته طيلة ثلاثة عقود تقريبا.حملت معي حقيبة احزاني وكنز ذكرياتي لاعود بالحافلة الى طهران بعد ان اجتزت الحدود مع العراق وكنت مريضا جدا وحرارتي اشبه ماتكون بجهنم ، ساعتها رايت في عالم الرؤيا الشهيدين ابو ياسين وابو محمد العامري وهما يقتربان مني ، وانحنى علي الشهيد ابو ياسين بابتسامته الوضاءة المعهودة ووضع يده الطاهرة على راسي وقال لاتقلق ياابا جهاد فانت محفوظ وسترافقك السلامة وستبقى نافذة العطاء باذن الله ، ساعتها استيقظت من اغفائتي واذا انا اشعر وكأن كل الالام والحرارة قد ذهبت وان جسمي قد اصابه البرد والسلام .
استيقظت وكنت اتمنى ان لا استيقظ ، حيث ما زلت اشعر واحس بطراوة واريج يد وبركات الحاج ابي ياسين ترافقني وتفتح امامي كل صعوبات ومنعطفات الحياة . اتذكر الحاج ابا ياسين كيف كان يدخل السرور على قلوبنا بكلماته الدافئة الحنونة وبمواقفه الرائعة وبتفهمه الابوي ، وكيف كان يداري مسيرتنا الرسالية والكتابية بيسر ولين وتأني، وكيف كان يستقرأ الفكر والسياسة والحياة بحسه العفوي وبصيرته الاستشرافية ، وكيف كانت مسيرته مترعة بالعطاء والخير والمحبة والسلام .
…