في صيف عام ١٩٨١ ، دعاني الى بيتهم بمدينة كفري الصديق والرفيق آشتي شيخ عطا أحد الكوادر الفعالة في منظمة ” الصدى ” لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقي ، ومن مؤسسيها ، وكنت أحد أعضائها ، وصلت الى المدينة في ظهيرة قائضة الحرارة ، دلفت في لحظتها الى داخل سوق المدينة قاصداً مكان عمل الشهيد عمر أحمد إسماعيل ( شيروان ) في محل ” الكماليات ” بيع الملابس والعطور . بعد ساعات من الحديث حول أفاق الدراسة وهموم السياسة ، تدرجت بين أزقة المدينة وظني أن عيون الرقيب تلاحقني وعلى عتبة الباب رآني من بين فتحات باب البيت العليا ، وأستقبلني بأبتسامه هادئه ، وكأنه يعرفني منذ زمن ، كانت المرة الأولى التي ألتقيه ، وكأني أعرفه منذ زمن عميق ، فضلا أن ذاكرتي تختزن عنه تفاصيل مهمة وأحاديث طويله تطمأن النفس عبر ولده آشتي .
شخصية لايتصنع التكلفة وبعيداً عن الرسميات يدخل القلب بأول لمسة شغافه ، وفي اللحظة الأولى طبعت شخصيته في مخيلتي أباً ومناضلاً ورفيقاً ، وذو خلق رفيع وسيره حسنه ، دمث الاخلاق وحسن التعامل وأبن بار لمرحلة العراق السياسية وكيفية التعامل معها بعيداً عن الطفوليه والمغالاة . هو ….
الشيخ عطا الله جمال محمد علي الطالباني . تذكر سيرته الذاتية ، إنه ولد عام ١٩٢٥ في قرية زرداو التابعة لقضاء كفري . يعرف في الاوساط السياسية والمخيلة الشعبية ( شيخ عطا الطالباني ) . وهو الابن الوسط بين الأخوين مكرم الطالباني الوزير الشيوعي في فترة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ، حيث ولد عام ١٩٢٣ . وإحسان الطالباني مواليد ١٩٢٧ .
رحل الى السماء الشيخ عطا الطالباني في يوم ٤ آيار عام ٢٠٠٠ في مدينة السليمانية على أثر تعرضه لنزف في الدماغ وتوارى ثرى جسده بمقبرة ( مامه ياره ) في مدينة سليمانية ، وقد سبقته بسنوات رفيقة عمره أم كوران أثر عملية إغتيال قذره نفذت تحت ستار الليل ، وتركوا من حطام هذه الدنيا ثريات صالحة وأولاد بطاقات خلاقه . الدكتوره جوان ، الدكتور كوران ، الدكتور سوران ، الدكتور سيوان ، الدكتوره شيلان ، ورفيقي آشتي . توطدت علاقتي بالشيخ عطا ، وكان يشغل مدير بلدية كفري حينها من خلال نشاطي في منظمة ( الصدى ) ، والذي أرتبطت بها تنظمياً في نهايات السبعينيات في العاصمة بغداد ، وظل أرتباطي المباشر بالرفيق آشتي ، وهو أحد أبناء الشيخ عطا وهو المؤسس الرئيسي مع رفاقه محمد دانا جلال المفتي ، والذي رحل الى الآخره قبل عامين .والشهيد صارم حسن الزهاوي وهو من طلاب جامعة البصرة جاء الى بغداد وأختفى بها وبعد سنة من تأسيس منظمة الصدى والتي تأسست في نهايات عام ١٩٧٨ وبدايات عام ١٩٧٩ ، أنتقل الى الجنوب والفرات الاوسط بهدف توسيع الركائز والقواعد الحزبية ، إلا أنه أعتقل في العام ١٩٨١ ، ولم يبوح بأي سر من أسرار التنظيم ، فتمت تصفيته داخل أقبية الأجهزة الامنية ، والى اليوم لا داله على مصيره .
وفي حديث شخصي . ذكر لي رفيقه آشتي حول شخصه وسجاياه . قال : كان قائداً ميدانياً صارماً ومبدئياً وشجاعاً بمعنى الكلمة .. وفي معظم لقاؤتنا ، كان يكرر دوماً اذا تم اعتقالي لاتخافوا سوف لن أنهار وأعترف عليكم تحت التعذيب تحت وطأة هؤلاء السفلة ، ولكن امنيتي منكم أن تستمروا بعدي وبدوني ، ويؤكد آشتي إنه كلام ألهمني حينها ، وكانت لي وللرفيق المرحوم محمد دانا قوة كامنة وخارقه ، ومحفزة لنا دوماً ”
في طيلة سنواتي الثلاثة في الجامعة وبحكم مسؤولية آشتي عن أرتباطي وشبكة علاقاتي ، كانت لقاءاتي مستمرة مع الشيخ عطا ، وكان بمثابة مرجع حزبي وسياسي وأمني حول نشاطات منظمة ” الصدى ” وكان يتمتع بحنكة سياسية وتفكير ميداني وعقل واقعي يسبق خطط وآلية عمل البعثيين في تعاملهم مع قوى المعارضة . في صدى حركة الانصار وعمليات الثوار في الجبل الى القصبات والمدن العراقية وسعير جبهات الحرب مع إيران ، أدت الى موجه من التململ بين أوساط الشيوعيين المقطوعي الصلة منذ الهجمة الشرسة نهاية عام ١٩٧٨ وفرط عقد الجبهة مع البعثيين ، رأت قيادة منظمة الصدى وكوادرها في مواكبة تلك التطورات وضخ دماء جديدة الى حركة الانصار من أجل توسيع قاعدتها ، توليت أنا شخصياً بالتحرك على بعض العناصر ومفاتحتها بالالتحاق الى الجبل مع الثوار الشيوعيين ، وقد تمكنت خلال فترة زمنية أن أرفد بعض الشيوعيين في الالتحاق بفصائل الانصار عبر قواعد ومحطات منظمة ”الصدى” وأخص بالذكر . خضر عبد الرزاق مقيم في السويد ، عبد الزهرة تيتو مقيم في المانيا ، طالب عبود جميل أستشهد بآخر أنفال حكومي عام ١٩٨٨ ، وحيد عبد الرحمن دبش مقيم في السويد ، فهد عبد الجبار عبود ( محمد عه رب ) أستشهد عام ١٩٨٤ في منطقة ( باني شهر ) في قاطع سليمانية بخطأ تكنيكي ، عندما أنفجرت عليه الرمانة اليدويه التي يحملها في حزامه . ومن خلال نشاطي هذا ، توطدت علاقاتي بالشيخ عطا من خلال ترددي الدائم على بيتهم ، وكنت أحياناً أقضي ليالي في مشتمل بيتهم الاثير ، وطعم مذاق الباميا من يد أم كوران ، وفي الهزيع الاخير من الليل كنا نقضي وقتاً ممتعاً تحت قمرية العنب في حديقة بيتهم ومرات مع بعض صحبه ورفاقه ، ويلقي عليه ما كتبه في دفتره المتواضع من خواطر وشجون حول حياة كوكب الشرق أم كلثوم وسجل أغانيها الطويل . قله الذين هم صادفوني في مسيرة حياتي السياسية يحملون عقلاً متواضعاً في التعامل مع الواقع ، كان أحدهم هو الراحل الشيخ عطا ، وفي المرة قبل الاخيرة ، عندما حانت ساعة الالتحاق مجبراً على ترك الأهل والمدينة والرفاق والجامعة صيف عام ١٩٨٣ ، وصلت الى بيتهم ، وكنت مهلكاً لتداعيات الموقف ، وفي اللحظة التي شاهدني بها على عتبة باب بيتهم قال لي ” هو أنت العربي الذي يبحثون عنك وحولك تحوم الاعترافات ”
بتجربته الطويلة في العمل السياسي المعارض تنعكس على تقبلك الحالة في مواجهة المستجدات ، وكأنه أمراً عادياً في المواجهة في أساليب النضال . في نفس اليوم نقلني مع عائلته في سيارته من مدينة كفري الى مدينة كركوك الى منطقة ” تكية الطالبانيين ” وهناك ألتقيت بآشتي ، ودارت بيننا حوارات طويلة وأفاق عمل في المستقبل ، وبعد أيام وصلت الى قواعد الانصار في قرى شهرزور ، وبادر الشيخ عطا في حمل حاله الى أهلي حاملاً بعض أشيائي ليطمنهم على وصولي بسلام عبر أبنة عمي ساهرة مجيد . بعد أربعة سنوات ونيف ألتقيته اللقاء الاخير في بيتهم أيضاً بمدينة ” كفري ” بعد أن نجوت بأعجوبة من قصة الاعتقال ونتونة زنزانتي رقم ثلاثة في الشعبة الخامسة ، هذه المرة طالت أيامي في بيتهم تعدت الى أسابيع وفي بعض أماسيها كنا نقضي وقتاً في مزرعته باطراف مدينة كفري مع رفيقه كريم كومنست ، تلك المزرعة التي تعرف بمزرعة الشيوعيين ، كانت محطة أستراحه وأختفاء للمناضلين والمقاتلين بها أستشهد عمر احمد إسماعيل ( شيروان ) عام ١٩٨٨ عندما حوصر داخل المزرعة من الجاش ومفارز الاستخبارات ، عمر كان أول إنتماء شيوعي له عبر منظمة الصدى .
رويت له في تلك الايام تفاصيل المشهد وظروف أعتقالي وأساليب التعذيب القذرة وطرق مواجهتها في التمسك بالثوابت المبدئية بعدم ألحاق الاذى بالآخرين ، وأن تكون حياً وشاهداً على مرحلة تاريخية صعبة ومعقدة في حياة العراقيين ، كان يصغي لي بأنتباه حول أدق التفاصيل مع أشادة كبيرة بموقفي على أقل تقدير في الحفاظ على حياتي وحياة الآخرين ، وهو الذي مؤمن بالواقعية السياسية في التعامل اليومي مع أساليب النظام الدموية في تسقيط الشيوعيين والطرق الناجعة في مواجهتها . يقول لينين ” الثوري من يراوغ شرطيه ” .
في سنوات لاحقه من النضال وتجربة المهجر ، وبغض النظر عن كل مالحق بالشوعيين العراقيين من تصفيات وسجون وتسقيط وكوارث على يد زمر البعثيين وأجهزتهم القمعية . كان هناك أستعداد كامل عند قيادة الحزب الشيوعي في الحوار مع النظام والعودة الى مواقع الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وبشروطهم الى حد أيام قليلة من عمر النظام قبل سقوطه على يد الامريكان ، وأن كانت هناك أعتراضات من قبل بعض المسؤولين الشيوعيين تعود لارتباطات ومصالح خاصة ليس الا …” وفي العام ١٩٨٩ كادت أن تصل الى نهاية فصولها . لو أطلق سراح ( البيان المحبوس ) ، على حد وصف الراحل آراخاجادور له ، عندما حمله الراحل عبد الرزاق الصافي من براغ الى دمشق يحمل صيغة إعلان حول المفاوضات واللقاءات التي شهدتها العاصمة براغ بين قوى المعارضه بشقيها العربي والكردي والنظام عبر الوسيط الشيوعي مكرم الطالباني .
الشيخ عطا الطالباني يحمل سجل نضالي طويل ومهم وفي فترة تاريخية بحاجه الى توثيقها من خلال الوقوف على أهم محطات حياته النضالية وتحديداً من تاريخ فرط عقد الجبهة مع البعثيين نهاية عام ١٩٧٨ الى حين رحيله عام ٢٠٠٠ ، عقدين من النضال والمواجهة الحقيقية مع أساليب النظام في عقر داره ، وكنت شاهداً على تلك المرحلة التاريخية من النضال من خلال نشاطي وعملي الحزبي في منظمة الصدى منذ مطلع الثمانينات في ظروف غاية في الصعوبة وحافات الموت .
حدثني في سنوات لاحقه زميلي في الاداب/ قسم اللغة الانكليزية دارا أحمد ، والذي يقيم حالياً في السويد وكان يحمل الرقم ١٤ في أول دوره لانتخابات مجلس نواب في أقليم كردستان عام ١٩٩٢ عن قائمة الشيوعيين . وفي سلسلة أحاديث شخصية يذكر لي عام ١٩٨٠ وصلني أبلاغ عبر التنظيم في الوقت الذي كنت به أقود خط حزبي خيطي خاص بي، أن أتصل بك لأجل أنضمامك الى التنظيم .. فتفاجأت لاني حسب علمي أنك داخل التنظيم حسب الخطوط الموزعة لاساليب التنظيم وتحوطاً للطواريء المحتملة . ترددت في الحديث معك لعدة تحوطات وتخوفات لاننا في مربع دراسي واحد وفي حالة اللقاءات المتكررة ربما يلفت النظر لعناصر أجهزة النظام داخل الحرم الجامعي .
في قراءتي الاخيرة لكتاب ” صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره ٌ للبريفسور طارق يوسف إسماعيل وفي عرضه لتاريخ الشيوعيين ونضالاتهم التاريخية لم أجد أشاره واحدة لمنظمة ” الصدى .. ودورها النضالي في مرحلة هي الاصعب في تاريخ العراق السياسي ، وكان لها ثقلها الثقيل في الشارع وأضابير أجهزة النظام والتي قلبت حساباتهم في وهمهم للقضاء على الشيوعيين . الركائز الأولى لمنظمة ” الصدى ” أنطلقت في بغداد ( كليات المستنصرية وبغداد والتكنلوجيا ) ، وكذلك في كركوك وكفري والسليمانية وأربيل والبصرة وبعض القرى في مناطق كرميان . وبادر آشتي الاتصال بالحزب عام ١٩٨٠عن طريق فخر الدين نجم الدين الطالباني ( مام صالح ) ، الذي كان سكرتير محلية كركوك ، وقد وثق مام صالح في أوراقه لاحقاً في إبلاغ قيادة الحزب برسالة آشتي حول تنظيم منظمة ( الصدى ) ، وقد سنحت لي فرصة شخصياً باللقاء بمام صالح في العام ١٩٨٣ في منطقة هزارستون بجبل سورين مع الرفاق نوري أبو صباح ومام فتاح ، ونقلت لهم صورة واقعية عن آلية عمل منظمة الصدى وأتساع رقعة تنظيمها في عموم العراق ، حيث ألتحق بها أعداد كبيرة من الشيوعيين مقطوعي الصلة بعد أن فرطت عقد الجبهة مع البعثيين ، وفقدوا بوصلة الاتصال بالحزب بعد أن تركت قيادته العراق بإتجاه المهجر .
وفي أول خطوة عملية وجريئة ، أقدمت عليها منظمة الصدى للاعلان عن تشكيلها وزعت بيان باسم الحزب الشيوعي العراقي ، لكن دون علم قيادة الحزب لعدم وجود أي اتصال ، حيث تم استنساخ بخط اليد ٥٠٠ نسخة في بغداد وتم توزيعها داخل جامعة بغداد والمستنصرية والتكنلوجيا ، وعدد من اعداديات الثورة وشارع فلسطين وعلى باصات مصلحة نقل الركاب وعدد من المحلات ، وقبل توزيع البيان تم عرضه عبر آشتي على الدكتور مكرم الطالباني وأستحسن مضمونه ، وهذا يعتبر أول نشاط شارك به معظم التنظيم . وقد قام أعضاء التنظيم حملة تبرع من الناس المتعاطفين مع الحزب والمحسوبين على ملاكه وخلال ثلاثة شهور جمعنا ٧٧٥ دينار عراقي . كانا الشيخ عطا وأخيه مكرم عون لنا في العمل ربما أستثمرنا علاقاتهم الواسعة مع رجالات الدولة بتمريرهم لنا بعض أفكار السلطة وخطط تحركها ضد الشيوعيين وتسريب لنا قوائم الاعتقالات ممن في نية السلطة في اعتقالهم ، وكانت علاقة الشيخ عطا مع البعثي القيادي رشيد الطعان ، والذي كان مدرجاً ضمن لعبة الورق الامريكية بحدود مناطق كفري ، وكلر . وجلولاء ، والمقدادية ، في الصد عن ملاحقة الشيوعيين والعلم المسبق بنية السلطات في قائمة إعتقالات جديدة مما نجا أكثر من رفيق ناشط من الاعتقال وأختفى عن عيون الرقيب والبعض ألتحق بالجبل .