أيقظت صدمة سقوط القدس غفوة العديد من الفقهاء والقضاة، وأدركوا حقيقة ذلك الغزو بعد أن هدد وجودهم ومكانتهم في مدن تلك البلاد فضلاً عن الأرض والعقيدة الإسلامية، ولذلك بادر فقهاء وقضاة الشام من دمشق وحلب وطرابلس للاستنجاد بالسلطة المركزية ببغداد، والإمارات المحلية باعتبارها تملك القوة العسكرية القادرة على مواجهة ذلك الغزو .
1 ـ استنجاد فقهاء وقضاة دمشق بخلافة بغداد:
لم تكن دمشق في البداية هدفاً لذلك الغزو، ولكن فقهاءها وقضاتها أدركوا خطورته على مدينتهم التي كانت لا تختلف عن القدس، فهي ملتقى لطلاب العلم والفقهاء والقضاة من أقاليم الخلافة الإسلامية كافة، وخاصة عندما عرفوا ما حل برفاقهم هناك، ولذلك اتفقوا على إرسال وفد من قبلهم عام (492 هـ/1098 م) برئاسة قاضي دمشق زين الإسلام محمد بن نصر أبو سعد الهروي (ت 519 هـ) إلى مركز الخلافة الشرعية بغداد، ومدن كبيرة في بلاد العجم، وشرفت له الحال؛ وعظمت رتبته وعلاجته كما يقول السبكي.
ولذلك كان اختياره إشارة واضحة لضخامة المخاوف والآمال التي كانت تجول بأذهان فقـهاء الشام وقضاتها ، وقد استقبله الخليفة العباسي المستظهر بالله (486 ـ 512 هـ /1091 ـ 1118 م) مع جماعته، وأورد في الديوان كلاماً عن حال المسلمين في القدس والشام، والتهديدات الصليبية لوجودهم، ولكن دون جدوى، ولذلك فكر القاضي الهروي في خطة ذكية لإثارة السكان في بغداد كوسيلة للضغط على الخليفة، حتى يرغمه في التفكير جدياً بطلبهم، ودعوتهم عن طريق استخدام الجوامع في بغداد مركز الرأي العام الإسلامي هناك، وهذه هي المرحلة الثانية من مهمتهم.
وقال ابن الأثير في ذلك: وورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد، بصحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمع، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذكروا ما داهم المسلمين بذلك الشريف المعظم من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفاء بن عقيل، وأبو سعد الحلواني إلى السلطان السلجوقي بركيارق في أصفهان مقر السلطة السياسية والعسكرية الفعلية لمساعدة فقهاء دمشق في طلبهم، ولكي يتخلص من عبئهم، ويحمِّله مسؤولية تلك المهمة، حتى إن اختياره لأولئك الفقهاء كان ذكياً هو الاخر، لأن البعض منهم تشير ألقابهم إلى أن أصولهم من مناطق فارس، وبلاد ما وراء النهر ـ دامغان ـ ميافارقين ـ زنجان، وأنهم لربما بإمكانهم التأثير في سلاجقة فارس، لإمدادهم بالقوة العسكرية، فالدامغاني ولي قضاء نيسابور، والشاشي ولد بميافارقين، ودامغان لم تبعد كثيراً من أصفهان، ولكن هدف الوفد كان بعيداً عن التحقيق، وعند وصول ذلك الوفد إلى مدينة حلوان علم بمقتل الوزير السلجوقي مجد الملك البلاساني، واختلاف سلاطين السلاجقة ببلاد فارس حول حكم المنطقة، وبذلك عاد الوفد من بغداد دون أن يكمل نجاحاً ، وعاد القاضي ورفقته بغير نجدة ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ودافعت دمشق عن نفسها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً كما سيأتي بيانه بإذن الله وفي عام (513 هـ/1120 م) عندما حاصر الصليبيون دمشق أرسل أميرها وفداً آخر للخلافة العباسية في بغداد، لطلب نجدتها مرة أخرى.
وترأس هذا الوفد القاضي عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي الدمشقي الذي كان انذاك شيخ الحنابلة بالشام إلى الخليفة المسترشد بالله (512 ـ 529 هـ) ، وذلك لمكانة العائلة الشيرازية بدمشق انذاك لكونها تحتل زعامة الفقه الحنبلي في تلك المدينة، وتدير العديد من المؤسسات الدينية في القضاء والوعظ والتدريس، وإمامة الجوامع، وعلى الرغم من أن القاضي الشيرازي قد تمكن من مقابلة الخليفة العباسي في بغداد، الذي خلع عليه، ووعده بالإنجاد، إلا أن مهمته لم تأتِ بالشيء الجديد كما هي الحال بالنسبة لمهمة زميله الهروي، ويبدو: أن الخلافة العباسية كانت عاجزة لا تملك شيئاً غير الوعود بالمساعدة، ولعل القاضي الشيرازي أدرك هو الآخر عجز السلطة السياسية، والشرعية في بغداد، ولجأ للاعتماد على النفس، والعودة إلى دمشق، وتعبئة سكانها للدفاع عنها، حيث كان له مجلس يعظ فيه للجهاد، ويلقى تأييداً من حكام المدينة حتى وفاته عام (536 هـ) .
2 ـ القاضي الأمير فخر الملك بن عمار، والاستنجاد بالإمارات المحلية، وخلافة بغداد في بداية الغزو الصليبي لبلاد الشام:
هادن فخر الملك الغزاة، وأمدهم بالمال والمرشدين ليبعدهم عنه، لكن ما أن تحقق هدفهم في أخذ بيت المقدس، حتى تفرغوا له، وحاصروا طرابلس، وتوجه ابن عمار في طلب النجدة من الإمارات المحلية في مدن الشام والجزيرة، واستطاع أن يقاوم الحصار، وراسل السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه شارحاً له حالة طرابلس، وأحوال بلاد الشام أمام مخاطر ذلك الغزو .
وتتابعت المكاتبات إلى السلطان محمد بن ملكشاه من فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس بعظيم ما ارتكبه الإفرنج من الفساد في البلاد، وتملك المعاقل والحصون بالشام والساحل والفتك في المسلمين، ومضايقة طرابلس، والاستغاثة إليه، والاستصراخ، والحصن على تدارك الناس بالمعونة، ولم يكن من أمر ذلك السلطان إلا أن يبادر بالكتابة إلى أميريه في الحلة حيث الأمير سيف بن صدقة، وجكرمش أمير الموصل، وحثهما على نجدة ابن عمار، وتقويته بالمال والرجال على الجهاد، وأنه سيمنحهما منطقتي الرحبة وما على الفرات؛ إن هما ساعداه .
وأرسل السلطان محمد حملة بقيادة (جاولي سقاوة) بحجة أنها متجهة لنجدة ابن عمار في طرابلس، فاستولى على الموصل بدلاً من نجدة طرابلس، التي لم يتوجه إليها إطلاقاً ، وأدرك القاضي ابن عمار عجز القوى الإسلامية المحلية كلها عن نجدته، وقرر التوجه بنفسه إلى بغداد مقر الخلافة العباسية، ووصل الأمير محملاً بالهدايا والتحف الثمينة ، ورغم الحفاوة التي استقبل بها في بغداد إلا أن رحلته لم تحقق نجاحاً في الأهداف التي سعى من أجلها، كما هو الحال لمدينة دمشق، وقاضييها الهروي، والشيرازي .
3 ـ استنجاد فقهاء وقضاة حلب بخلافة بغداد:
وكان لعائلة ابن أبي جرادة الدينية المتولية أمر القضاء والإمامة بحلب دور في تحمل تلك المهمة في طلب نجدة من بغداد، عندما تعرضت حلب هي الأخرى بحكم موقعها الاستراتيجي لخطر الغزو الصليبي عام (504 هـ/1111 م) ، فقد أرسلت وفداً من الفقهاء وأعيان البلد، والذي يبدو كان برئاسة قاضي حلب أبي غانم هبة بن أبي جرادة إلى بغداد، وكان يعتقد بتحقيق هدفه في نجدتها، لأن وجوده بحلب كان بسبب علاقته الوطيدة بالسلطة الشرعية ببغداد .
وأمام فشل ذلك القاضي وجماعته في عدم التمكن من مقابلة الخليفة العباسي المستظهر بالله أدركوا حقيقة ضعف ذلك الخليفة عن قرب، وأن السلطة الفعلية ليست بيده بل بيد السلطان السلجوقي، لذا بدؤوا به أولاً بإثارة السكان ضده، حيث دخلوا الجامع الذي يقرب إلى داره يوم الجمعة، فأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه..، وصاحوا بما لحق الإسلام من الإفرنج، وشرحوا للناس ما حل بإخوانهم المسلمين في حلب وأعماله، ومدن بلاد الشام من تدمير وخراب على أيدي الغزاة الصليبين ، مما أدى إلى استجابة الناس وشحذ همهم، لكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى مقر السلطان بركيارق، الذي منعهم حرّاسه من مقابلته، غير أنه أوعز إلى حرّاسه ليبلغوهم: أنَّـه سيرسل قواته لإنجادهم .
وقرّر فقهاء حلب التوجه مرّة أخرى إلى الخليفة المستظهر بالله نفسه: فاندفعوا إلى دار الخليفة بعد أن دخلوا جامع القصر، ومنعوا الناس من الصلاة وشرحوا أمرهم لهم، فثار الناس من حولهم ، وكان ذلك الأمر قد أجبر الخليفة العباسي على ضرورة مقابلتهم، وقولهم له: أما تتقي الله أن يكون ملك الروم أكثر حمية منك للإسلام، حتى أرسل إليك في جهادهم .
وهنا يشير النص السالف الذكر إلى أن وجود فقهاء حلب ببغداد عام (504 هـ/1111 م) ، قد تزامن مع وصول وفد الدولة البيزنطية إلى بغداد أيضاً؛ للتفاهم مع الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي حول إمكانية توحيد جهودهما لمواجهة الخطر الصليبي لبلاد الشام، مؤكداً للجانب الإسلامي بأن الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومنيوس قد منعهم من العبور إلى بلاد المسلمين وحاربهم ، ويفهم من هذه الرواية أن الجانب البيزنطي أراد الاستعانة بالجانب الإسلامي لمواجهة ذلك الخطر الصليبي، خاصة بعدما نقض الصليبيون الاتفاقية المُبرمة مع البيزنطيين عام (490 هـ/1096 م) ، والتي تضمنت إرجاع الممتلكات البيزنطية في بلاد الشام في حالة استعادتها من الجانب الإسلامي.
على أية حال لم يكن فقهاء حلب أوفر حظاً مع خلافة بغداد عن بقية وفود المدن الشامية الأخرى رغم ما أشار إليه ابن كثير: أن فقهاء بغداد وعلى رأسهم الفقيه (ابن الدغواني) قد استجابوا لفقهاء حلب، وقرروا الخروج معهم لجهاد الصليبيين في بلاد الشام، ولما علموا بما الت إليه تلك المدن من وقوعها تحت الغزو الصليبي رجعوا إلى بغداد، ولم يفعلوا شيئاً ، ومهما يكن من أمر تلك الرواية يبدو: أن فقهاء حلب قد سئموامن نجدة الخلافة في بغداد، وتوجهوا للاستغاثة بالإمارات المحلية لنجدتهم .
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة إقرا، القاهرة، 2006، ص 675-670
ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ط دار الفكر، بيروت، 1398 هـ 1978 م. (8/408).
جمال محمد سالم خليفة، موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي (492 ـ 660 هـ) ، مركز جهاد الليبيين للدراسات، الطبعة الأولى 2000 م. ص 79.