السينما الفرنسية (28) “إدوار مولينارو”: أبحث عن شخصيات ثرية لإضفاء الصدق على مغامراتها

السينما الفرنسية (28) “إدوار مولينارو”: أبحث عن شخصيات ثرية لإضفاء الصدق على مغامراتها

 

خاص: قراءة – سماح عادل

يقول المخرج الفرنسي “بيار غرانييه – ديفير” أنه يرفض أفلام الحروب والعصابات، وأنه يحب اختيار الممثلين الذي يشتركون معه في بعض النقاط، وأن التقنية هاجس المخرجين الشباب. و يقول “بيار إيته” أن السينما أصبحت باردة لا تجعل القلب يخفق، مؤكدا على أهمية اقتسام الفرح، وسعادته بعدم اللهاث وراء النجاح التجاري. ويتحسر “إدوار مولينارو” على السينما الكلاسيكية التي انطفأت في الخمسينات، وأنه لم يعد يؤمن بالسيناريو الاحترافي وأنه يفضل الشخصيات على الحكاية.

نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.

بيار غرانييه – ديفير Pierre GRANIER – DEFERRE

“بيار غرانييه – ديفير” مخرج فرنسي، ولد سنة 1927.

من أبرز الأفلام التي أخرجها: (أكاذيب (1958)؛ صبي المصعد (1961)؛ مغامرات سالافان (1963)؛ تحولات حمار القبّان؛ باريس في شهر آب/أغسطس (1965)؛ الأبله الكبير (1967)؛ الفرس (1969)؛ القط (1970)؛ الأرملة كودرك (1971)؛ القطار (1973)؛ عِرق السادة (1974)؛ وداعاً يا “فرّوج” (1975)؛ الطبيب (1979)؛ قضية غامضة (1981)؛ نجمة الشمال (1982)؛ الرجل ذو العينين الفضيتين (1985)؛ دروس خصوصية (1986)؛ غرق ممنوع (1987)؛ النمساوية (1989)؛ الصبي (1994).

دروب الكتابة الخيالية..

يقول “بيار غرانييه – ديفير”عن كيف أتى إلى السينما: “في البداية كنت أرغب في ممارسة الصحافة، وتحديداً في مجال الريبورتاج. لكن حالتي الصحية حالت دون ذلك. عندئذ اكتشفت دروب الكتابة الخيالية. وكنت أظن أن في إمكاني خلق كل شيء. ومع مرور الزمن لاحت الأشياء أصعب مما كنت أتصور”.

وعن اختياره للموضوع وتحويله إلى فيلم يقول: “اعتدت اختيار حكايات الأبطال السلبيين، أو على الأقل أولئك الذين لا يحالفهم الارتقاء. أفضّل سرد حكاية شخص. وأتعب كثيراً. وبعد قضاء سنة كاملة في كتابة موضوع أتخلى عنه وأمر إلى إنجازه. وإذا أعجبني موضوع أنقضّ على إنجازه مباشرة. هناك أنواع لا أرغب في معالجتها: أفلام الحروب والعصابات. كما أرفض السيناريوهات التي تتطلب مني تقديم تنازلات.

أنا مولع بالمطالعة، لمجرد متعة المطالعة. وهي متعة كافية في حد ذاتها. عندما يأسرني كتاب لا أفكر في إخراجه فيلماً. وأفضل القصص الغرامية إجمالاً، أهم ما في العالم. وفي هذا المجال تفتنني قصص الحب الفاشل وتخيفني. أخشى كل ما يعبر عن الفشل بما في ذلك بلوغ نهاية الحياة”.

وعن معاييره في اختيار الممثلين يقول: “يتوقف ذلك على المعايير التي تناسب الشخصيات. لكن هناك أيضاً من أرغب فيهم لأسباب عاطفية، وهكذا ففي فيلم “القط” بقيت أبحث مطولاً عن شخصية تمكنني من إدراج جان غابان. لأن الموضوع يناسبه، ثم جلبت سيمون سينيوريه. ومن أجلها غيرت طباع الشخصية الأنثوية الأولية، مع أنني لم أكن راغباً في العمل معها منذ البداية. وكانت النتيجة رائعة. أحتاج، في الحقيقة، إلى العمل مع ممثلين يحركونني ويثيرونني. والاختيار، في نهاية المطاف، ما هو إلا مركزية للذات، إذ نتصور وجود نقاط مشتركة مع الذين اخترناهم”.

وعن إدارة الممثلين وكيف يحصل منهم على ما يريد يقول: “بالنسبة إلى شخص مثل جان غابان لابد من تركه يتصرف. ما إن يكون على السكة حتى تجد نفسك مكتفياً بالنظر إليه يتقدم. أما سيمون سينيوريه فلابد من الإحاطة بها ومساعدتها حتى اللقطات الأخيرة. ثم هناك ممثلون، مثل شارل أزنافور الذي لا يمتلك أي تكوين مهني في التمثيل، يتطلب الأمر توجيههم في أدق تفاصيل حركاتهم”.

وعن الشعور بمسئولية إزاء الجمهور يقول: “أعتقد أنه لا يمكن الشعور بهذه المسؤولية إلا تجاه الذات. وهي تتغير وتتوقف على شخصية المخرج. في ما يخصني أحرص أن تكون أفلامي نظيفة خالية مما يشين. ولابد أن نكون متفهمين للجمهور دون استسلام للسهولة.

في الحقيقة أفكر في الجمهور كثيراً لأنه يقدم أفضل مكافأة للمخرج، ولكل أشكال الفن. وكلنا يسعى إلى تحقيق شعبية واسعة. ويحتاج المرء منا إلى دخول بيته مرفوع الرأس أمام زوجته وعائلته وأبنائه.

في هذا المجال تختلف السينما كثيراً عن الرسم. فالرسام الذي لا يبيع لوحاته يدرك أن ثمة إمكانية لرواجه، ومعبده، ربما حتى بعد موته. أما الأفلام فهي تتلاشى بسرعة إذا لم تعرف نجاحاً في وقتها. لذلك قد تموت قبل صاحبها. وهذا ما يجعلني أكترث بالجمهور”.

وعن الأهمية التي يعطيها للتقنية يقول: “من الطبيعي أن معرفة مجمل التقنية تسهل ممارسة المهنة. أنا معجب جداً بالمخرجين الذين تظهر تقنيتهم وتُدرك بطريقة معقولة على الشاشة. أعرف أنها إنجاز لنصف العمل، أما أنا فأحاول محوها قدر الإمكان. التقنية هاجس المخرجين الشباب مع أنهم لا يحتاجون إليها في أغلب الأحيان، على العكس من أبناء جيلي الذين لا يفكرون إلا في أفلامهم”.

التعبير عن الخوف..

ويجيب عن سؤال تبدو، عبر هذا الكلام، محترساً من السينمائيين الشباب، هل هذا مجرد انطباع؟: “أرى أن عمر الشباب ميزة وليس وظيفة. ويأتي وقت يتوجب فيه على كل واحد إما أن يظل طفولياً، أو يصير راشداً. والحال أن هناك ارتكاساً لدى الشباب يدفع بهم إلى الرغبة في ملازمة مرحلة الطفولة. إنهم يخافون المنعطف كما هو شأننا. غير أنهم لا يسعون إلى التعبير عن ذلك الخوف. فلا يتمكنون، بالتالي، من السيطرة عليهم. هم مسيّسون أكثر منا إجمالاً. وهذه ملاحظة مهمة جداً بالنسبة لمستقبل البلاد”.

وعن اعجابه بالمخرجين الآخرين يقول: “هناك سينمائي أكنّ له كل إجلال: إنه أورسن ويلز، ولن أتوصل إلى قامته. ومن بين الفرنسيين الذين أفضّل الحديث عنهم هناك جان لوك غودار. فهو يثير الكثير من اللغط لأول وهلة، ثم نتفهم أهميته وتأثيره في التقنية. ولابد من مراعاة عدم اكتمال مشروعه بعد. أحب كذلك ما ينجزه فرنسوا تروفو. أما اندفاعاته العاطفية فتزعجني قليلاً. وتعجبني صرامة ألن رينيه. كلن إذا كان لابد من الاعتراف بتأثير ما، فقد تأتّى من السينما الفرنسية لمرحلة ما قبل نهاية الحرب. خصوصاً مع مارسيل كارني وجان رينوار. ذلك أن أفلامهم التي سبقت الحرب هي التي كوّنت لدي رغبة في ممارسة الإخراج”.

وعن حلمه كسينمائي، وطموحه الأكبر يقول: “لدي فكرة موضوع أحتفظ بها لنفسي وأفكر في إخراجها مستقبلاً. وأحياناً أقول إنني أكسل من أن أخوض تلك التجربة جدياً. ثمة مواضيع وٍ”ثيمات” وحكايات يحافظ عليها المرء طيلة حياته لأنه يخشى الإخفاق فيها. عندما أنشغل بمشروع قيد الإنجاز أكفّ عن التفكير في أي موضوع آخر، ولاسيما إذا كان مشروعاً قادماً. أحب التأريخ في الحياة مثل ذبابة على سطح الماء. فالمرء يتعرض للغرق قليلاً، لكنه يشاهد مرور الكثير من الأشياء الجميلة مع التيار: سفن أو حطام. لا أحب التفرج على حياتي منظمّة مسبقاً”.

 

بيار إيته Pierre ETAIX

“بيار إيته” مخرج فرنسي، ولد في روان 1928. بدأ العمل في السيرك ومسرح المنوعات. كما عمل مع المخرج “جاك تاتي” في إعداد بعض المشاهد المضحكة والمقالب في فيلم “عمي” على وجه الخصوص.

بدأ بإخراج فيلمين قصيرين: القطيعة (1961)؛ عيد ميلاد سعيد (1962) الذي حصل به على أوسكار من هوليود سنة 1963. أما أفلامه الطويلة فهي: العاشق (1962)؛ يويو (1964)؛ ما دامت الصحة بخير (1965)؛ الحب الكبير (1969)؛ أرض النعيم (1971)؛ السيد متقدم في العمر (1987) عن مسرحية من تأليفه). نشر مجلداً مصوراً تكريماً لـ “ملوك” الضحك من شارلو، إلى لوريل وهاردي، ومن جاك تاتي إلى جيري لويس.

الشك قاتل..

يقول “بيار إيته”، عن بدايته: “عندما بدأت بالعمل في (الميوزيك هول) مسرح المنوعات، أصبت بخيبات متتالية وفشل محبط، رغم اقتناعي بجودة أفكاري ودامت تلك الحال بضع سنوات حتى جاء اليوم الذي ألحقني فيه جاك تاتي بـ “يوم احتفال” الذي سيعرضه في قاعة الأولمبيا. يوم الافتتاح غصّت القاعة بالمتفرجين وانفجر الجميع بالضحك وتملكني الفرح والغبطة. كنت محقاً إذن.

الشك قاتل. لكن لابد من مقاومته بقوة الإرادة والقناعات. وهذا هو الدرس الذي قدمه لنا بوالو: “أعد نسيجك مئة مرة إلى النول” لا تعيش الفكرة إلا إذا عملت من أجلها”.

وعن كيف استجاب إلى نداء السينما يقول: “سنة 1981 أعدت اكتشاف ميلياس. فأدركت مدى تأثيره فيّ. أفلامه لم تتلاشى كقيمة. هو الذي ابتكر الفرجة السينمائية حقاً. ما يعجبني فيه أن بداياته كانت مجرد شعوذة وخداع”.

وعن الإعجاب بآخرين يقول: “يصعب الحديث عن الإعجاب. كما لو أنك تسألني عما إذا كنت أفضل بيكاسو على ليوناردو دفنشي. أحب جميع كبار السينما لأسباب مختلفة. والأقرب هم الملائمون لذوقي ولتنوعاته العميقة. ويمكنني على كل حال ذكر لوريل وهاردي. فأنا أحبهما بوله. الضحك عندهما تلقائي. وقد يأتي عبر التكرار الذي يأتي بالمفاجأة. والجمهور يضحك لأنه لا يكون مدركاً قبل جزء من الثانية أنه سيضحك.

لابد من مبرر لإضحاك الناس، والسر الأكبر هو في معرفة إطلاق الطفولة المطمورة في أعماق ذواتنا. الطفل يضحك لأشياء كثيرة، تكون نشازاً أو مصيبة. من دون أن يدل ذلك على الخبث وحب الأذى. ويتمتع لوريل، في ردود فعله، بسلوك غير متوقع، لا يمكن توضيحه أو تحليله سيكولوجياً. نعم أحب لوريل وهاردي لأنهما يمارسان فكاهة خالصة، متأتية من حلبة السيرك، ويجعلانها ترتقي إلى مراتب أعلى.

لكنني أحب بوستر كيتون أيضاً، كل مقلب من مقالبه يتضمن سيناريو قصيراً حقيقياً. وهناك أيضاً هاري لانغدون الذي ازداد تعلقي به بسبب سوء تقدير مواهبه”.

ويجيب عن سؤال هناك ساحران آخران لعبا دوراً مهماً في عملك: جاك تاتي، وجيري لويس الذي اختارك لتشاركه في تمثيل شريطه الذي بدأه سنة 1974 ولم يعرض بعد “اليوم الذي يبكي فيه المهرج”؟: “طبعاً. لكن هناك أيضاً وودي ألن الذي استطاع التطور نحو فكاهة ملائمة لزمنه. إنه يعكس مرحلة. وفي ايطاليا يوجد من أعتبره في عداد الكبار: موريزيو نيكيتي. وقد أبدع في شريطيه “راتاتا نبلان” و”لص الصابون” ولديه إحساس بنوع من الحنين إلى الماضي، رغم أنه ماض قريب. أما وجهة نظره في مهنتنا فهي صحيحة وحارقة، فقد أدرك إلى أي مدى يمكن للتلفزيون والإعلانات التي تتخلل الأفلام أن تقتل السينما نهائياً”.

سينما باردة..

وعن كيف يرى السينما الراهنة يقول: “أشعر بالرعب، ذات يوم سألني كوليش عما إذا كنت مواظباً على الذهاب إلى قاعات السينما. فاعترفت له بأنني بت أفعل ذلك نادراً. فرد بحماسته المعتادة: “أشعر، في كل الأحوال، أن جميع الأفلام تطول ساعة إضافية غير ضرورية”.

في الواقع كل الأفلام صارت جيدة الصنع لكنها لم تعد مقنعة. لا ينبغي الخلط بين الدقة والوسائل المتاحة وبين المهارة. سينما اليوم باردة حتى لا نقول متجمدة. لا تتوصل إلى جعل القلب يخفق. اليوم صرت أفكر في مغادرة القاعة بعد الدقائق العشر الأولى”.

وعن عقيدته السينمائية يقول: “بسيطة جداً. السينما تتطلب المحبة لا الذهاب للإطلاع فحسب. كما تتطلب التذوق لا بلع الأشرطة. أفضّل الحرفي الذي يجيد مهنته على العبقري الذي لا يعرف ماذا يفعل… لا شيء أسوأ من صورة سيئة التأطير. إن السهولة تشير إلى نهاية الحضارة تماماً مثلما قتلت الروح المادية الحب. أعرف أنني أحاول اجتياز العالم والحياة مثل دون كيشوت تقريباً. اعتقد أن تقاسم الفرح أفضل من تقاسم الأشياء. هذا الاعتقاد هو ما أطبقه عند إنجاز فيلم آملاً أن يقضي المتفرج أمسية لطيفة”.

وعن كيف يتم التعبير عن ذلك تقنياً يقول: “ببساطة شديدة. لقد أجببت هيتشكوك تحديداً لجودة التقنية عنده. لا يمكن للمرء ابتكار مهنة بل ينبغي أن يتعلمها. شخصياً بدأت بالتمرن على كل أشكال التعبير الفني: الموسيقى، الرسم، التصوير الفوتوغرافي، الألعاب البهلوانية، الإيماء…”.

وعن أهم العراقيل التي ينبغي التغلّب عليها يقول: “أفظع ما في هذه المهنة هو الخيانة. وليست مسؤولية الجمهور. لقد أجبر الجمهور على الضياع وفقدان الوجهة. لم يعد يرى بعينيه. وهذا ما يدعوه كوليش “البياض الأشد نصاعة من الأبيض””.

وعن رأيه في أولى محاولاته السينمائية من خلال فيلمه القصير الأول “القطيعة” يقول: “رغم العنوان المنذر، ظلّت عنه ذكرى جميلة، بل حماسية. لكن كل ذكرى تتضمن قليلاً من الحزن”.

وعن مشروع حول جوزفين بوآرني الذي كان لديه سنة 1981 يقول: “لقد فُتِنْتُ منذ زمن بعيد بشخصية الإمبراطورة جوزفين. لم أكن أفكر في إخراج فيلم هزلي. يمكن تقديم شخصية نابليون الأول كرجل متورط في مشاكل عاطفية. وكانت رسائله الغرامية المرسلة إلى جوزفين ملأى بالأخطاء اللغوية. وهذا لا ينقص من قيمتهما أو من حبهما.

لكنني لم أعد راغباً في السينما. لماذا؟ لأن الإنتاج الفرنسي لم يعد ينظر إلى الفيلم إلا باعتباره “سلعة” وهم يوفرون لك الإمكانيات ويحرمونك من ترك بصماتها الخاصة. كذلك الشأن بالنسبة للتلفزيون الذي بات يشارك في الإنتاج لأسباب خادعة. أنا سعيد بعدم اللهاث وراء النجاح التجاري، وهذا ما لم أتورط فيه مطلقاً. وليس التخلي عن السينما من باب الشعور بالمرارة. لقد اتخذت قراري بكل وضوح”.

وعن إمكانية التراجع يقول: “عندما كنت أصنع أفلاماً، التقيت، طيلة حياتي، بأناس غير أنقياء، أو متصلبين في قضاياهم وأعمالهم. لكنهم كانوا يحافظون على بعد إنساني ولا يرتقون بالخيانة إلى مستوى الديانة. وأنا لم أعد قادراً على معايشة تلك الخيانة المنهجية”.

لا أزعج أحداً. بل أنا محظوظ بوجود أناس يأتون إليّ تعبيراً عن المحبة والود. تلك هي القيم الحقيقة في نظري. أنا ممتنّ لمن أحبوا أفلامي. ولا أستطيع تحمل كره الجمهور. أما الآن فسوف أواصل المهنة نفسها عبر وسائل تعبير أخرى. أرسم، أكتب…”.

وفي كلمة أخيرة يقول: “كل شكل من أشكال الفكاهة يثير اهتمامي ما دام مرتبطاً بعصره، عاكساً للحياة اليومية. وكل ما هو غثّ ينتهي بسرعة. مازلت أحب هذه المهنة لأن لدي اقتناعاً عميقاً بأن لا شيء يضيع إلى الأبد. سوف يأتي آخرون. كما يظل جمهور السينما في حاجة دائماً إلى التسلية. كل ما يؤسفني هو ما طرأ من فساد على الروح الاحتفالية”.

 

إدوار مولينارو Edouard MOLINARO

“إدوار مولينارو” مخرج فرنسي، ولد في بوردو سنة 1928. بدأ بإنجاز أفلام وثائقية: (الرصيف ج4، بيوت بالتسلسل، الحصان الحديدي، البينيسيلين، الشرف سليم، البحر يرتفع نحو روون).

وأخرج الأفلام الطويلة: (الظهر إلى الجدار (1957)؛ شاهد في المدينة (1959)؛ فتاة للصيف (1959)؛ موت بال (1960)؛ أرسين لوبين (1962)؛ حمقاء جذابة (1963)؛ المطاردة (1964)؛ رأس الجاسوس (1966)؛ أوسكار (1967)؛ هيبرناتوس (1969)؛ عمي بنجامان (1969)؛ الحرية مردفة (1970)؛ المندرينة (1971)؛ المزعج (1973)؛ الرجل المستعجل (1977)؛ لا تكف عن الكلام أمرك يهمني (1979)؛ قفص المجنونات (1) و (2) (1978 – 1980)؛ مقابل مليون لم يعد لك شيء (1982)؛ على اليسار أثناء الخروج من المصعد (1988)؛ العشاء (1992). وللتلفزة: (الشفقة الخطرة).

حب السينما..

يقول “إدوار مولينارو” عن الدروب التي سلكها نحو الإخراج: “أعتقد أن موهبتي، إذا كان بإمكاني استخدام هذه الكلمة، كانت عميقة بقدر ما كانت حقيقية. فمنذ طفولتي تعلقت بحب السينما. وفي سن العاشرة كنت أمتلك آلة بث. وأعرض أفلاماً في المنزل على أصدقائي الصغار الذين كانوا يساهمون في المصاريف لاستئجار الأفلام. وذات يوم مرضت فمارست ابتزازاً على والديّ كي يشتريا لي كاميرا.

في السادسة عشرة أخرجت أفلاماً عائلية حين كان ينبغي على كل واحد أن ينثني لأوامري كمخرج! وأدى بي ذلك إلى الانخراط في حلقة السينمائيين الهواة، بينما كنت أعد لامتحان الباكالوريا في قسم الفلسفة. أما المرحلة اللاحقة فكانت مرحلة نصف الاحتراف مع تجربة إخراج الأفلام القصيرة. إذن هناك أعوام كثيرة خلفي في تجربة السينما ولم أعد مبتدئاً مع الأسف!”.

وعن سينمائيين آخرين يعترف بدورهم الحاسم في تطور السينما ولا يخفي إعجابه بهم يقول: ”    لا أنظر إلى مهنتي في إطار ثقافة سينمائية عامة. وقد أضع ثلاثة سينمائيين في مقدمة الجميع: أورسن ويلز، ايزنشتين، فيديريكو فلليني. هؤلاء هم الأقرب إلى ما أحبه. وأعترف بنوع من التقدير لموجة السينما الجديدة، الانجلو – سكسونية. وفي هذا المجال تظل عناويني المفضلة هي Love إخراج كين راسل، و M. A. S. H بإخراج روبرت ألتمان. وعلى هذا المستوى ينبغي الاعتراف بأننا مازلنا متأخرين عما يجري فيما وراء المانش والأطلسي. مرت القاطرات أمامنا وبقينا على الرصيف. ويمكن القول إننا فوّتنا عشرة قطارات، روحاً وشكلاً.

في فرنسا، كانت لنا سينما كلاسيكية عظيمة انطفأت جذوتها في الخمسينات. مذ ذاك ظهرت “الموجة الجديدة”. ولا شك أنها ضرورية، غير أنها حطمت كل شيء من دون تفكير جدي في إعادة البناء”.

وعن كيف ينظر إلى مهنته كمخرج يقول: “أعتقد أن الإخراج ليس مهنة في حد ذاته. الأهم من ذلك أن يكون للمرء ما يقوله. حتى التقنية يمكن امتلاكها في ساعتين إذا ما توافر الإيمان والإرادة. لذلك فالإخراج، بما هو كذلك، لا وجود له. ومن أجل الشروع في إنجاز فيلم يفضل أن يتحلى المرء منذ الانطلاق بمزايا إنسانية حقيقية. نحن المخرجين، لسنا سوى أسلاك ناقلة”.

ويجيب عن سؤال لكن، أليست التقنية حاجة ضرورية في كل الأحوال؟ كيف ينجز المرء فيلما إن لم يكن على دراية بشروطه المعرفية؟: “في هذا المستوى، تكون التقنية، فعلاً، أبسط درجات اللياقة التي يتحلى بها المخرج إزاء الجمهور. لكن جهلها لا يكتسي أية أهمية. أما إذا تم استيعابها فإنه يغدو من المأساوي عدم معرفة استغلالها، ومعرفة حدودها، والتصرف فيها. صحيح أن البعض يستبدلها بالحيل والتصنّع والحذلقة. وهذا مثار ريبتي، أو بالأحرى حذري تجاهها، إذا تم نزعها أو استخراجها من الكل الذي يشكله الفيلم”.

عذاب الورقة البيضاء..

وعن إمكانية أن يكتب بنفسه أحد سيناريوهات أفلامه يقول: “قد لا أتجرأ على قول ما أريد قوله، حياءً أو ربما كسلاً أيضاً. والحقيقة أنني قد أفضّل السجن على كتابة سيناريو أو مواجهة عذاب الورقة البيضاء. إن الوفاء للعمل الإبداعي يجمع بين الصعوبة والشغف. دائماً أشعر بالحاجة إلى الاقتراب من أحد المؤلفين. لم أعد أؤمن بالسيناريو الاحترافي. وأنا، بشكل عام، أفضل الشخصيات على الحكاية. لا يمكن إدهاش أيٍّ كان بمناظر طبيعية خلابة وركض خيول.

أما ما عدا ذلك فأنا لست متحفظاً على أي نوع من أنواع الأفلام. وأبحث دائماً عن شخصيات أكثر ثراء تثير اهتمامي وتدخل قلبي كي أسعى إلى سرد حكايتها وإضفاء الصدق على مغامراتها الباطنية أو الخارجية”.

السيناريست المحترف..

وعن فيلم يكن له محبة خاصة بين أفلامه السابقة يقول: “نعم، في هذا المنظور يمكنني ذكر “موت بال” و”فتاة للصيف” و”عمي بنجامان” ولتكن هذه فرصة كي أؤكد من جديد حاجتي الدائمة إلى التعاون مع مؤلفين حقيقيين، مع كتّاب، على مستوى كتابة السيناريو. حقاً، أنا لا أؤمن بالسيناريست المحترف.

وأعترف بأنني من بين الأفلام العشرين التي أخرجتها، لم أختر حقاً سوى الثلث. ولا يمكن التوصل إلى حرية إنجاز الأفلام التي أحبها إلا بعد تحقيق نجاحات تجارية. فالمرء يحتاج بين الفترة والفترة إلى إخراج أفلام تسرّه، حتى وإن تم ذلك بطريقة أنانية، كما حدث معي في شريط “الحرية مردفة”. من المهم تحقيق التصالح مع الذات، على الأقل بين فترة وأخرى”.

وعن أخراجه لفيلم “أوسكار” يقول: “أحتاج إلى العمل. العمل. العمل. لا أؤمن بالانعزال في قصر عاجي. لاشك أن هناك أنواعاً لا أجيدها. وفي مثال “أوسكار” أعترف بأنني قدمت فيه مسرحاً أكثر مما قدمت سينما”.

وعن موقفه كسينمائي يقول: “لا أنتظر شيئاً من الخلود. لكن ما دمت أمارس هذه المهنة ينبغي أن أظل ضمن التيار، وإلا ضعت، وغرقت. لا يمكن الزعم بممارسة مهنة إلا بالمحافظة على الوظيفة، على العمل المستمر”.

وعن وجود موقف خاص إزاء التلفزيون يقول: “أعتقد أننا، السينمائيين جميعاً، مدعوون اليوم أو غداً، إلى التعامل مع التلفزيون، بل أننا مجبرون على ذلك. فالناس قللوا من توجههم إلى قاعات السينما. وازدادت صعوبات العيش في المدن. لم يعد أحد راغباً في الخروج ليلاً. حتى أفلامنا السينمائية سوف تبث من خلال التلفزيون. زد على ذلك أن التلفزيون في فرنسا يعاني من احتكار شنيع بحيث يمكن تشبيه الوضع باحتكار أمير وحيد لمطبعة غوتببرغ في ذلك العصر. والحال أن وسائل التعبير ينبغي أن تكون في متناول الجميع.

ولا أنكر أن مجرد عرض M. A. S. H في التلفزيون، على سبيل المثال، لو كان مبرمجاً الآن، لما وجدتني معك حالياً. سوف يأتي الوقت الذي يتم فيه تكبير شاشات التلفزيون إلى أقصى حد ممكن. وتوجد حلول لهذه المشاكل، كما في كتاب ألدوس هكسلي Brave New World”.

وعن السينما المفضلة لديه، و التي ربما يفضلها جمهوره أيضاً يقول: “أرغب في إخراج فيلم عن شخصيات راهنة، أعرفها، وأحاذيها كل يوم، وأحبها. أحب التصالح مع ذاتي. ولا يمكن للمرء أن يظل مشابهاً لذاته ما دام الزمن متحولاً، حتى التناقض مع الذات هو إمكانية، فرصة، طريقة لنا كي نكون أصدق، ربما…”.

وعن طريقته في اختيار الممثلين وإدارتهم يقول: “لا يرتكز معياري في الاختيار على ما يُزعم أنه موقف مهني احترافي. أحتاج إلى التفاهم مع الممثلين. فالممثل هو شخص ستتقاسم معه فترة من حياتك. أحتاج إلى بعض الراحة، والتعاون معهم. والجانب الحرفي لتفاهمنا وانسجامنا يثير شغفي. إنه احتفال صغير نعيشه معاً. هذا هو معيار اختياري للممثلين”.

وعن التفكير في الجمهور يقول: “لا يمكننا التكهن مسبقاً بما يجعل الجمهور يرتاد السينما أو يقاطعها. وأنا، على أية حال، لا أشرع في إنجاز فيلم وأفكر في الجمهور. وإذا شعرت بمسؤولية ما أثناء التصوير، فهي مسؤولية تجاه نفسي أولاً. ويظل هاجسي هو الإعجاب بما أنجزه. نحن السينمائيين، لسنا مهمين كثيراً بالنسبة للفيلم، الأهم هو رد فعل الجمهور أمام ما يعرض على الشاشة”.

وعن وجود صنف من الأفلام يملك قناعة بعدم إخراجه يقول: “أنا ذو مزاج فضولي. ولاشك أن هناك أنواعاً لم أخلق لها. وهي أنواع أجهلها. وفي هذا المجال لدي أوهام كثيرة يتوجب علي التخلص منها. بعد هذه الملاحظات، يمكنني التعبير عن ولعي بالإمبراطورية الثانية، إذ شكلت عصراً في منتهى الروعة. وكم تثير إعجابي الحياة الباريسية كما وصفها كل من أوفنباخ وزولا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة