23 نوفمبر، 2024 10:45 ص
Search
Close this search box.

المَواكِبُ الحسينيّة ؟!

المَواكِبُ الحسينيّة ؟!

(رحمَ اللهُ محي ذكرَنا..آلَ البيت) ـ الإمام زين العابدين (ع)
الـمَوْكِبُ: بابةٌ من السَّيْر.
وَكَبَ وُكُوباً ووَكَباناً: مَشَى في دَرَجانٍ، وهو الوَكَبانُ.
والـمَوْكِبُ: الجماعةُ من الناس رُكْباناً ومُشاةً، مشتق من ذلك.
وفي الحديث: أَنه كان يسير في الإِفاضةِ سَيْرَ الـمَوْكِب؛
 الـمَوْكِبُ: جماعةٌ رُكْبانٌ يسيرون بِرِفْقٍ، وهم أَيضاً القومُ الرُّكُوبُ للزينة والتَّنَزُّهِ، أَراد أَنه لم يكن يُسْرعُ السَّيْرَ فيها.وجمعه مَوَاكِبُ.
وتقول: واكَبْتُ القَوم إِذا رَكِبْتَ معهم، وكذلك إِذا سابَقْتَهم.
ووكَبَ الرجلُ على الأَمر، وواكَبَ إِذا واظَبَ عليه. (1)
والحالة هذه ؛ فالمواكبُ الحسينية المنتشرة في العراق هذه الأيام لها تاريخٌ طـويل .. منذ أن استشهد الإمام الحسين (ع) على أرض كربلاء المقدسة عام 61 هج هو وإخوانه وأبناؤه وأصحابه النجباء الأوفياء ، الموفين لعهد الله تعالى ونبيهم (ص) بمناصرة آل البيت عليهم السلام والقيام مع ثوراتهم حيثما قاموا ويقومون ، ومنذ أن وصلت سبايا آل بيت رسول الله (ص) من العراق إلى الشام ، فبكاهم الشاميون وناحوا على مصيبتهم المفجعة، ومنذ أن عادوا إلى المدينة المنورة ـ مدينة جَدِّهم (ص) ـ حيث استقبلهم أهل يثرب بالطيبة والمشاركة الوجدانية والمواساة ، فأقاموا المآتم متحدّين سلطة بني أميّة الجائرة .. بالسرِّ والعلن .
 في العراق ، وهو مهد مجلس العزاء والسبايا ، والحزن والألم ، والبكاء والنواح والمواكب الحزينة على الإمام الحسين وخاصة في مدن العتبات المقدسة في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء ، تقام هذه المجالس والمجتمعات وتسير المواكب على أتم وجه في العشر الأولى من أيام وليالي محرم ، وفي سائر أيام شهري محرم وصفر ، وفي بعض أيام الأسبوع ،وفيما يلي أقوال بعض الكتاب في ذلك :
 1 ـ جاء في الصفحة «164» من كتاب « نهضة الحسين » السالف الذكر عن إقامة المأتم على الإمام الحسين في العراق خلال هذا القرن بقلم نجل المؤلف السيد جواد الشهرستاني ما نصه :
 « ومما تجدر الإشارة إليه على أثر تطور العزاء الحسيني واتساعه عن طريق اللطم والضرب بالسلاسل وما إليها ، وما أظهره شباب الكاظمية عام 1360 هـ ـ 1941 م إلى المرحوم الوالد السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني من تأثرهم لهذا التطور المشين ، والذي يكمن وراءه من الإضرار بهذا العزاء وبأهداف سيد الشهداء عليه السلام ، فاقترح عليهم تطويره إلى إقامة حفلات وإلقاء قصائد تشيد بالذكرى وتؤبن شهداءها ، وتبنى هذا الأمر لعدة سنوات ، ساهم فيها كثير من أعلام العراق ، وأساتذة الجامعات وقادة الرأي وشباب البلد ، من شعراء وخطباء ، كان لها أكبر الأثر في جذب النفوس إليها ، ساهمت بنقل هذه الحفلات حية عبر الأثير عن طريق الإذاعة من صحن الإمامين الكاظمين صبيحة العاشر من محرم في كل عام ، وكان يحضرها عشرات الآلاف من المستمعين إلى جانب الهيئات الرسمية ، وممثلي الدول الإسلامية ، مما أعطت أروع صورة محترمة عن هذه الذكرى إلى المستمعين ، وكان الشعراء والخطباء يتبارون في الرثاء والإبداع فيه ، مما تغذي الفكر الإسلامي والشعر العربي بأسلوب لم يكن معروفاً من قبل .. ويوجه الرأي العام إلى أسرار نهضة الإمام الحسين والعوامل النفسية والروحية التي حملته للصمود والاستشهاد … » الخ .
 وبعد أن يصف الكاتب السيد جواد مواكب العزاء في العراق ، ولا سيما في مدن العتبات المقدسة فيه ، وما يجري فيها من مراسيم وعادات أدخلت على هذه المواكب والتعازي والمآتم خلال القرون الثلاثة الأخيرة ، يقول في الصفحة «168» من الكتاب ما عبارته :
 « وكانت الهيئات الرسمية في العراق وإيران والهند والباكستان تحضر هذه التعازي وتشهد ما يجري فيها كل عام ، وتتخذ كافة الاحتياطات الأمنية فيها حتى تنتهي هذه المراسيم بسلام .
 وفي سنة «1936 م» ، وعلى أثر حدوث اصطدامات دموية بين المواكب العزائية ، أصدرت وزارة ياسين الهاشمي في العراق أمراً بمنع إقامة التشابيه ومواكب السلاسل والتطبير منعاً باتاً .. ومنع لعدة سنوات .
 إلا أن الجهات الرسمية عادت سنة «1947 م» فسمحت لمواكب التطبير بالظهور ، وكذلك مواكب الضرب بالسلاسل .. وتوسع الأمر وشمل مواكب الشبيه ، حيث أخذت بالظهور من سنة «1952 م» في العراق . ومع توالي السنوات توسعت وأخذ الشبيه شكله الموسع في السنوات الأخيرة في مختلف أنحاء العراق ،إلى جانب الأقطار الإسلامية المذكورة، وجاء في هامش الصفحة نفسها قوله :
 وتقام مجالس العزاء الحسيني إضافة إلى شهري محرم وصفر في شهر رمضان ، وذلك في لياليه وفي سائر أيام السنة على سبيل النية والنذر لحاجة من الحاجات قضاها الله ، فيقيم صاحبها مجلس عزاء ليوم واحد ، أو لثلاثة أيام في الأسبوع ، أو عشرة أيام ، أو أكثر حسب ما نوى ، وتوزع فيها الخيرات للفقراء والمساكين . وكثيراً ما يرافق مجالس العزاء الحسيني إطعام أو خيرات للحاضرين.
 2 ـ نقلت « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء صفحة «380» عن الكاتبة الانجليزية المس « فريا ستارك » في كتابها « صور بغدادية » في فصل النجف ، عند ذكر قصة مجزرة كربلاء ، قولها :
( وهي من القصص القليلة التي لا استطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء … )الخ .
 3 ـ جاء في الصفحة «371» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء في فصل : « كربلاء في المراجع الغربية » ما لفظه : وقد كتب عن مأساة كربلاء كذلك ، ومحرم الحرام بوجه عام ، المستر « توماس لايل » الذي اشتغل في العراق معاوناً للحاكم السياسي في الشامية والنجف ، في 1918 ـ 1921 م ومعاوناً لمدير الطابو في بغداد ، وحاكماً في محاكمها المدنية ، في كتابه « دخائل العراق » ما يقرب من عشرين صفحة ، وهو يقول بعد أن شهد مواكب العزاء ولطم اللاطمين فيها :  ولم يكن هنالك أي نوع من الوحشية أو الهمجية ولم ينعدم الضبط بين الناس . فشعرت ـ وما زلت أشعر ـ بأنني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الإسلام ، وأيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس ،والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وجها توجيهاً صالحاً ، وانتهجا السبل القويمة ، ولا غرو ، فلهؤلاء الناس عبقرية فطرية في شؤون الدين » الخ .
 4 ـ جاء في الصفحة «193» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء ، ما نصه أيضاً :
 فيليب حتى وكربلاء : وقد أورد الأستاذ فيليب حتى أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة برستن بأمريكا ، ذكر كربلاء في مواضع من كتابه المشهور « تاريخ العرب » باللغة الانجليزية . ففي الصفحة «183» يقول ما ترجمته :  إن حشود الزوار التي ما تزال تتدفق إلى مشهد علي في النجف ومشهد ولده الحسين ـ سيد القديسين والشهداء عند الشيعة ـ في كربلاء القريبة من النجف ، والمسرحية الدينية التي تمثل سنوياً في العاشر من محرم في العالم الشيعي بأسره ، كل ذلك يشهد على أن الموت قد ينفع القديس أكثر من الحياة »  وبعد أن يوجز الأستاذ « حتى » قصة استشهاد الإمام الشهيد وصحبه وآله يقول :
 « وقد أوجد المسلمون الشيعة ـ إحياء لذكرى استشهاد الحسين ـ عادة مراسيم الحزن في العشرة الأولى من محرم الحرام سنوياً ، ووضعوا مسرحية عاطفية دينية تؤكد صراعه البطولي وآلامه . وهذه المسرحية الدينية السنوية تمثل في فصلين ، يعرف الأول « عاشوراء » : يمثل في الكاظمية على مقربة من بغداد ، إحياء لذكرى المعركة ، والفصل الثاني بعد العاشر من محرم بأربعين يوماً في كربلاء ، وعنوانه : مرد الرأس » (1) الخ . وبمناسبة ذكر يوم « مرد الرأس » ويوم الأربعين ، أقول : إن إحياء ذكرى هذا اليوم ـ الذي سبق وفصلت الكلام عنه في فصل سابق ـ يقام في أكثر المدن في البلدان الإسلامية ، وخاصة التي تسكنها الجاليات الشيعية ، ولكن مظاهر إحياء هذه الذكرى تتجلى أكثر فأكثر في مدينة كربلاء التي حدثت فيها المجزرة الفجيعة . وأنقل تالياً أقوال بعض الكتاب في وصف ما يجري في هذا اليوم بكربلاء :
 جاء في الصفحة «146» من كتاب « تاريخ كربلاء وحائر الحسين » للسيد الجواد الكليدار عن هذا اليوم الحزين قوله : زيارة الأربعين : وهي في يوم 20 صفر من كل سنة وهي من أعظم زيارات كربلاء ، إذ تحتشد فيها مئات الألوف من الزائرين ، الذين يشدون الرحال إليها من مختلف الأقطار الإسلامية القريبة والنائية ، فيزورها خلق عظيم ، على الأخص من المدن العراقية من الشمال إلى الجنوب ، فتسير فيها المواكب العظيمة باسم « موكب الأنصار » يتراوح عدد من يسيرون في كل موكب فيما بين خمسمائة وألف نسمة . فيخرج كل موكب من العزاء بكل سكينة ووقار ، في مظهر من الحزن العميق البادي على الوجوه ، حاسري الرؤوس وحافيي الأقدام ، ومرتدين الملابس السود علامة الحداد ، يبكون ويلطمون على الصدور والخدود ، يعزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل سبطه الحسين عليه السلام محتجين على جفاء الأمة له ، وتخفق الرايات السود شعار العزاء والحزن أمام كل موكب ، وقد كتب عليها ـ بالكتابة الواضحة ـ اسم الموكب والبلد الذي ينتمون إليه » .  ـ جاء في الصفحة «165» من كتاب « نهضة الحسين » وصفاً لبعض أنواع المواكب الحسينية في العراق المعروف بالشبيه يوم الأربعين ، أدرج خلاصته تالياً :
« وهناك لون آخر من العزاء الحسيني المسمى بالشبيه . وقد ظهر بادئ الأمر في القرن العاشر الهجري على هيئة حصان مغطى بكفن مدمى وفيه بعض النبال ، يتقدم مواكب اللطم كأنه حصان الحسين عليه السلام بعد المعركة … ثم توسع إلى خيول متعددة على نفس الشاكلة ترافق المواكب .. ثم ظهرت شخصية الحر الرياحي ومعه بعض قادة الجيش الأموي برفقة هذه الخيول أمام المواكب ، وظهرت شخصية الإمام علي بن الحسين السجاد في حالة رجل عليل مكبل بالأغلال على صهوة جواده ، وسط الموكب يوم الأربعين من صفر ، يردد ما قاله حين دخل المدينة .. والناس تلطم من فرط التأثر لمشهده ، ثم تطور بالتدريج إلى ظهور الهوادج والنساء فيها كأنهن السبايا عائدين من الشام عبر العراق إلى المدينة ، ويمرون بأرض الطفوف في كربلاء يوم زيارة الأربعين .. والجماهير الغفيرة تلطم متأثرة من هذا المنظر المفجع يتذكرون الموقف نفسه .. ثم تطور هذا العزاء بتوالي السنين بظهور أشخاص يتقمصون دور أصحاب الحسين وعدد من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتقدمون مواكب العزاء ، ومعهم شبيه قادة الجيش الأموي .. وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري ، برزت شخصية الحسين وسط الشبيه ، يتقدم موكب العزاء ومن خلفه شخصية أخيه العباس » . ويستطرد الكاتب كلامه ويقول :
 « وتطور موكب الشبيه الذي كان يأخذ مسيره عبر الشوارع والطرقات ، ومن وسط الجموع الغفيرة من المشاهدين إلى الساحة الرئيسية في المدينة ، أو إلى وسط الصحن في المراقد المتبركة حيث تجري هناك صورة مصغرة لتلك المعركة التاريخية .. وبتوالي السنين توسع هذا اللون من العزاء إلى إقامة صرح له وسط الصحن أو الميدان ، وبجواره خيام تمثل خيام أهل البيت » . ثم يتوسع الكاتب إلى شرح هذا اللون من المواكب العزائية والمآتم الحسينية ، مما لا أجد حاجة إلى نقلها كلها ، لأنها معروفة لدى قراء العربية بأقطارهم المختلفة .. كما أن مثل هذه المواكب تسير في كثير من البلدان الإسلامية وخاصة إيران والهند ، ولكن بصورة أضيق أحياناً ، وبشكل أوسع حيناً آخر . ومن أهم المواكب العزائية التي تؤم كربلاء في اليوم الثاني عشر من المحرم كل عام ـ أي اليوم الثالث على قتل الإمام الشهيد وصحبه ـ مواكب عزاء سكان قرية « طويريج » الواقعة على بعد عشرة أميال شرقي مدينة كربلاء ، على شاطئ نهر الفرات ، والتي تعرف بالهندية . إذ منذ الصباح الباكر في هذا اليوم تحتشد مواكب هذه القرية ، مهرولة بجموعها نحو كربلاء وكلما اقتربت من هذه المدينة التحقت بها جموع بقية عشائر وسكان القصبات والدساكر والتجمعات العشائرية التي تمر بها ، فيتألف منها حوالي مائة ألف نسمة ، من الرجال والنساء ، والشيوخ والشباب والأطفال ماشين على الأقدام ، يصلون كربلاء عند زوال ذلك اليوم ، وهم ما بين معول وصارخ ، وباك ومفجوع ، ولاطم . ويشترك معهم في ضواحي مدينة كربلاء سكانها ثم يدخلون صحن الإمام الحسين ، ثم يدورون حول ضريح الإمام الشهيد ، ثم يتوجهون إلى ضريح أخيه العباس ، وبعدها يمرون ببعض شوارع المدينة إلى أن يصلوا إلى محل مخيم الإمام الحسين عليه السلام وهناك يعيدون ذكرى فاجعة الطف ، ثم يتفرقون .  أما منشأ هذا الموكب الذي يرتقي بتاريخه إلى أكثر من ثلاثة قرون ، فهو أن المشتركين فيه يعتقدون بأنهم يمثلون أفخاذ بني عامر من عشائر بني أسد الذين حضروا ساحة القتال عصر اليوم الثاني عشر من المحرم سنة 61 هـ ، بعد أن غادرها جيش ابن سعد في اليوم الحادي عشر منه ، متوجهاً إلى الكوفة ومعه الرؤوس والسبايا ، ودفنوا أجداث الشهداء بعد أن بقيت هذه الأجساد ليلتين وثلاثة أيام في العراء ، وهذه المواكب التي تفد بجموعها على كربلاء ، وتشترك في هذا اليوم في مأتم الإمام الشهيد ، إنما تحيي ذكرى أجدادها الأشاوس من عشائر بني أسد .
 ويذكر المعمرون إن مبدأ هذا العزاء شرع منذ أكثر من 300سنة ، حيث أخذت العشائر القاطنة في المنطقة الواقعة بين الحلة وكربلاء ، بالقرب من قرية « طويريج » ، تأتي عند زوال اليوم الثاني عشر من المحرم كل سنة إلى كربلاء ، وتشترك في العزاء الحسيني على شكل جماعات صغيرة .وكان العلامة السيد محمد المهدي الطباطبائي بحر العلوم ، المتوفى سنة 1212 هـ في النجف ، يتقدم في بعض السنوات هذه الجماعات النائحة في وفودها على كربلاء ، وعندما سئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب : إنه رأى في المنام الإمام الثاني عشر صاحب الزمان «عج» مشتركاً في هذا العزاء ، فآثر أن يكون من المشتركين فيه .
كما ذكر أن بعض كبار الشعراء ـ كالكعبي ـ وعظماء المجتهدين من فقهاء الشيعة ، كالشيخ زين العابدين المازندراني وغيرهما كانوا يشتركون فيه من ضواحي مدينة كربلاء . ولقد تطور هذا العزاء المتحرك من تلك المسافات البعيدة إلى أن أصبح كما هو عليه الآن ، وأطلق عليه اسم عزاء « بني أسد » .7 ـ يقول الدكتور السيد علي الوردي في الصفحة «386» من كتابه « مهزلة العقل البشري » حول مجزرة الطف والعزاء الحسيني ، ما نصه :  لم يكد معاوية يموت حتى حدثت حادثة هزة المجتمع الإسلامي هزاً عنيفاً ، تلك هي مأساة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي . وهذه الحادثة أنتجت آثاراً اجتماعية بالغة قلماً تجد لها مثيلاً في التاريخ » . ويستطرد الكاتب فيقول :  كانت شهادة الحسين تتمة لشهادة أبيه العظيم . وقد يصح أن نقول : إن مأساة كربلاء أضافت إلى مأساة الكوفة لوناً جديداً ، ولولاها لما أحس الناس بأهمية تلك المبادئ الاجتماعية التي نادى بها علي في حياته . فقد صبغ الحسين مبادئ أبيه بالدم ، وجعلها تتغلغل في أعماق القلوب تغلغلاً عميقاً … » . ويواصل الكاتب كلامه في الصفحة «387» ويقول : « يحتفل الشيعة في أيامنا هذه بمقتل الحسين احتفالا ضخماً ، فهم يذرفون فيه الدمع الغزير ويلطمون الصدور والظهور ، ويجرحون الرؤوس . ولنا أن نقول إن احتفال الشيعة هذا قد أمسى طقوسياً » الخ .
 8 ـ بحث الدكتور علي الوردي في بعض فصول كتابه « دراسة في طبيعة المجتمع العراقي » موضوع التوزيع الطائفي في العراق ، وتطرق خلاله إلى اشتراك الطائفة السنية مع الشيعة في العزاء الحسيني ومواكبه ، فقال مثلاً عند إشارته إلى التوزيع الطائفي في منطقة ديالى صفحة «236» ما نصه :
 « وربما جاز القول بأن التعايش السلمي في منطقة ديالى بين الطائفتين غير قليل وليس في النادر أن نرى محلة سنية تشارك محلة شيعية في بعض مواكبها ومجالسها الحسينية ، وقد تشاركها أيضاً في تقديس مراقدها وأئمتها » . وعندما تطرق الكاتب إلى هذا التعايش في مدن المنطقة الرسوبية في العراق كمدينة الناصرية في الصفحة نفسها قال :  فأخذوا ـ أي أفراد الطائفة السنية ـ يشاركون في مواكب الشيعة ويحضرون مجالسهم . وربما أخرج بعضهم مواكب خاصة بهم . وهذا يدل على أنهم سائرون في سبيل التشيع تدريجياً … » الخ . ثم يصف الكاتب في الصفحة «237» من كتابه هذه المواكب ويقول :
) فقد اعتاد الشيعة في العشرة الأولى من شهر محرم أن يخرجوا بالمواكب العظيمة إحياء لذكرى مقتل الحسين . وهذه المواكب تسير في الطرقات وفيها الأعلام والطبول والبوقات ، وتقرأ فيها القصائد العامية الحزينة وتلطم فيها الصدور ، أو تضرب الظهور بالسلاسل ، وفي اليوم العاشر تخرج مواكب التطبير ( الخ .
 ثم يستطرد الكاتب فيقول : « ومجالس التعزية ، فإن كل وجيه أو غني من الشيعة يميل إلى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الحسين لمدة عشرة أيام ، خصوصاً في شهري محرم وصفر من كل عام . ومن يشهد هذه المجالس ، ويستمع إلى القصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء فيها ، والى وصفهم مقتل الحسين وأولاده وأخوته وأقربائه ، يحس بالميل إلى البكاء … » الخ .
 9 ـ جاء في الصفحة «69» من كتاب « السيد محسن الأمين ، سيرته ـ بقلمه وأقلام آخرين » وهو المجلد الأربعون من موسوعته « أعيان الشيعة » عند وصفه بعض عادات النجفيين التي شاهدها أثناء إقامته الدراسية في النجف خلال العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ووصفه مجالس العزاء وإقامتها فيها من قبل الرجال والنساء قوله :  والنساء أيضاً يجلسن للعزاء منفردات عن الرجال ، ولهن نوائح صناعتهن النياحة على الأموات وعلى الحسين عليه السلام في أيام عاشوراء وغيرها ، ومنهن من تنشد الشعر الزجلي ارتجالاً ومجالسهن منفردة عن مجالس الرجال ، وكانت رئيستهن نائحة تسمى ملا وحيدة ـ بتشديد الياء ـ وكانت تنشد الشعر الزجلي للنياحة ارتجالاً ، ولها مجموعة كبيرة من إنشائها في الحسين عليه السلام » .

 في سورية ولبنان وتوابعهما ، فإن النياحة على الإمام الحسين الشهيد كانت في مد وجزر ، منذ أن وطئت أقدام السبايا بالشام سنة 61 هـ ومثولها بين يدي يزيد ، كما مر تفصيل ذلك في فصل سابق . وقد أخذت الأوساط الشامية وغيرها من المدن السورية واللبنانية منذ ذلك التاريخ تقيم المآتم والمناحات على فاجعة كربلاء في الدور وأماكن العبادة المخصصة لها بصورة علنية أو سرية حسب الظروف التي تفرضها السلطة القائمة والحكومة المسيطرة على الحكم من إطلاق الحرية للجاليات الشيعية أو الضغط عليها . ومن الملوك الذين تنفس الشيعة الصعداء على عهدهم في هذه البلاد الملوك الحمدانيون الذين كانوا على مذهب الشيعة ، والذين لهم مواقف مشهودة في خدمة هذا المذهب ، وخاصة على عهد الملك عبد الله بن حمدان ، الذي كان له السهم الأوفر في إقامة معالم هذا المذهب في المناطق التي كان يملكها أولئك الملوك الشيعة .
 ومما ساعد على انتشار مذهب الشيعة في هذه البلدان ، وخاصة في القرون التي أعقبت القرن الثالث الهجري ، قيام الحكم البويهي في العراق وإيران ، والحكم الفاطمي في مصر ، والحكومات التي أعقبت الحكم الحمداني في سورية ولبنان وما جاورهما ، كبني مروان وغيرهم من الأمراء ، وحتى حلول الحكم العثماني ، وكلما اشتد ساعد الشيعة في هذه البلاد كلما انتشرت شعائر إقامة العزاء الحسيني والنياحات عليه ، خاصة في بيروت ، ودمشق ، وحلب ، وصور ، وصيدا ، وطرابلس ، وبعلبك ، والنبطية ، وبنت جبيل وغيرها من القرى والدساكر .  أما على العهد العثماني فقد أخذ ضغط السلطات العثمانية يشتد على الشيعة في مدن سوريه ولبنان الكبرى ، مما اضطر أفراد هذه الجالية إلى الانسحاب منها والهجرة إلى الأقطار المجاورة أو إلى القرى النائية في منطقة جبل عامل التي أصبحت بصورة تدريجية مقراً رئيسياً للشيعة في البلاد السورية واللبنانية ، وصاروا يقيمون فيها مراسيم العزاء الحسيني ومواكبه النياحية في شهري محرم وصفر وسائر أيام السنة .
 وفيما يلي نبذ مما عثرت عليه في بطون الكتب عن هذه النياحات على عهد عزة الشيعة في تلك الديار :
 1 ـ جاء في الصفحة «69» من كتاب « خطط جبل عامل » لعلامة الفقيد السيد محسن الأمين ، ما عبارته :  ويوجد في حلب مشهد ينسب إلى الحسين عليه السلام وله أوقاف جمة يصرف ريعها على الإطعام يوم عاشوراء ، وهي باقية إلى الآن ، لكن أهل حلب يصرفونه على الإطعام في ذلك اليوم بعنوان أنه يوم عيد لا يوم حزن . والظاهر أن هذه الأوقاف من الشيعة الذين كانوا بحلب ، أما المشهد فلا نعلم أصله ، وربما كان من زمن سيف الدولة » .
 2 ـ وجاء في الصفحة «149» من الكتاب نفسه ، ما لفظه :  حسينيات جبل عامل ـ جمع حسينية ـ وهي : بمثابة تكية منسوبة إلى الإمام الحسين السبط الشهيد ، لأنها تبنى لإقامة عزائه فيها . وأصل الحسينيات من الإيرانيين والهنود ، بنوها في بلادهم ، وبنوها في العراق أيضا ، ووقفوا لها الأوقاف ، وجعلوا لكل منها ناظراً وقواماً . وهي : عبارة عن دار ذات حجر وصحن فيها منبر يأوي إليها الغريب ، وتقام فيها الجماعة ، وينزلها الفقراء ، ويقام فيها عزاء سيد الشهداء في كل أسبوع في يوم مخصوص وفي عشرة المحرم ، وتختلف حالتها في الكبر والصغر ، والإتقان وكثرة الريع ، باختلاف أحوال منشئيها . وهذه لم تكن معروفة قبل عصرنا في جبل عامل … » الخ .  ويستطرد الكتاب فيقول :
 وأول حسينية أنشئت في جبل عامل ، هي « حسينية النبطية التحتا » ثم أنشئت عدة حسينيات في صور ، والنبطية الفوقا ، وكفر رمان ، وبنت جبيل ، وحاروف ، والخيام ، والطيبة ، وكفر صبر ، وغيرها .. » . الخ وتجمع الشيعة في جبل عامل وقراه ساعد كثيراً بمرور الأيام على انتشار مجالس العزاء الحسيني وإقامة النياحات فيها ، إحياء هذه الذكرى المؤلمة على طول السنة ، وخاصة في شهري محرم وصفر ، وبالأخص العشرة الأولى من المحرم .
 3 ـ جاء في الصفحة «215» من الجزء الأول ، من كتاب « هكذا عرفتهم » لمؤلفه جعفر الخليلي ، عند تعرفه على العلامة السيد محسن الأمين ، ووصف مواقفه الإصلاحية في الشؤون الدينية ، وخاصة في موضوع العزاء الحسيني عليه السلام ثم زيارته له في مدينة دمشق في إحدى زياراته لسورية قائلاً :
 ودعاني السيد محسن في تلك الزيارة لحضور مجلس من مجالس المآتم الحسينية تقام في تلك الليلة بدمشق فقلت له :إنني أشكوا التخمة ، لكثرة ما حضرت هذه المجالس وما سمعت من أحاديثها قال : ولكنك ستسمع في هذا المجلس مالم يكن قد سمعت … وسترى خطباء جدداً أعددتهم لمثل هذا ، وأنا أسعى لإعداد المزيد منهم . ثم قال : وإنني ألزمك بالحضور في هذه الليلة ، فإياك أن تتخلف ، ولكني خرجت ولم أعد .
 وبعد يومين أو ثلاثة زرته في بيته المذكور فلامني على عدم حضوري المجلس في تلك الليلة … » الخ .
 4 ـ ولا زالت شعائر إحياء هذه الذكريات الحزينة تقام في كثير من الأنحاء والمدن في سوريا ولبنان ، وخاصة الأخيرة منها ، وبالأخص المناطق التي تقيم فيها الجاليات الشيعية ، كجبل لبنان ، وبيروت ، ودمشق ، وتقام هذه المآتم عادة في العشرة الأولى من محرم ، وتتجلى بأسمى مظاهرها يوم عاشوراء ، الذي تقام فيها الاحتفالات الحزينة الشاملة وخاصة الحفلة التي تقيمها الجمعية الخيرية الإسلامية العاملية التي يحضرها كبار الشخصيات الرسمية والأهلية في لبنان ، وتلقى فيها الخطب التي يستعرض فيها الخطباء الحادث المؤلم في كربلاء وملابساته ، وما جرى فيه من ظلم وتعسف على آل بيت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم .  وفي سنة 1393 هـ ـ 1973 م ، قررت الحكومة اللبنانية جعل يوم عاشوراء ـ أي العاشر من محرم كل سنة ـ عطله رسمية في جميع أنحاء لبنان ، تعطل فيها جميع الدوائر الرسمية ، والمؤسسات الأهلية ، والأسواق والأعمال . وهذه هي المرة الأولى في تاريخ لبنان تقدم فيه حكومة لبنان على جعل يوم عاشوراء الحسين يوم عطلة رسمية .. كما أفادت الأنباء أن سكان مدينة ( النبطية ) في لبنان التي يقيم الشيعة بصورة خاصة في محرم كل سنة فيها ذكرى مهيبة لمصرع الإمام الحسين عليه السلام قد طبروا رؤوسهم هذه السنة يوم عاشوراء ، وذلك ضمن شعائر الحزن الذي أقاموه ، والمواكب العزائية التي سيروها في ذلك اليوم الحزين ، وقدر عدد المطبرين (400) رجل .ـ جاء في الصفحة «25» في كتاب « السيد محسن الأمين ، سيرته » السالف الذكر عند وصفه لدراسته الأولية في بنت جبيل سنة 1301 هـ ووصول الشيخ موسى شرارة إليها من النجف في تلك السنة قوله : وأحيى ـ أي الشيخ موسى ـ إقامة العزاء لسيد الشهداء ورتب لذلك مجالس على طريقة العراق » . ثم يستطرد السيد الأمين في الصفحة «26» من الكتاب واصفاً المجالس العزائية التي تقام ليلاً في هذه المدينة اللبنانية لإحياء ذكرى استشهاد الحسين وذلك في العشرة الأولى من محرم كل سنة ويقول :  وفي اليوم العاشر منه تعطل الأعمال إلى ما بعد الظهر ويقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتى بالطعام إلى المساجد ، وفي الغالب يكون من الهريسة ، فيأتي كل إنسان بقدر استطاعته ، فيأكل منه الفقراء ، ويأكل منه قليلاً الأغنياء للبركة ، ويفرق منه على البيوت . كل ذلك تقرباً إلى الله ـ تعالى ـ عن روح الشهيد أبي عبد الله الحسين عليه السلام . أما القرى التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر على قراءة المقتل يوم العاشر ويقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر ، كل ليلة شيئاً ـ حتى يكون الباقي إلى يوم العاشر خاصة بالمقتل وحده . وكانت المجلس التي أنشأها الشيخ موسى على ما فيها من عيوب أصلح بكثير مما تقدمها . وكانت مبدأ الإصلاح لمجالس العزاء الحسيني … » الخ . وجاء في الصفحة «73» من الكتاب نفسه عند بحث الأمين موضوع عودته من النجف إلى دمشق في شعبان سنة 1319 هـ وإحساسه بلزوم قيامه بالإصلاحات الدينية والاجتماعية فيها قوله :
 « 3 ـ مجالس العزاء ـ أي العزاء الحسيني ـ وما يتلى فيها من أحاديث غير صحيحة وما يصنع في المشهد المنسوب إلى زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم في قرية راوية من ضرب الرؤوس بالسيوف والقامات وبعض الأفعال المستنكرة ،وقد صار ذلك كالعادة التي يعسر استئصالها ، لا سيما إنها ملبسة بلباس الدين » .  ويستطرد في كلامه ويقول في الصفحة «75» منه : « أما الأمر الثالث وهو إصلاح إقامة العزاء لسيد الشهداء عليه السلام فكان فيه خلل من عدة جهات » . وبعد أن يفصل الكلام عن أسلوب إصلاح هذا الخلل يقول في الصفحة «77» من الكتاب :  وكانت هذه الأعمال تعمل في المشهد المنسوب إلى السيدة زينب بقرب دمشق .. » الخ . لقد نقلت هذه النبذ عن الإمام الثقة السيد محسن الأمين لتأكيد الدلالة على أن إقامة المأتم الحسيني ومراسمه والنياحة على الإمام الحسين عليه السلام كانت مستمرة في دمشق ولم تنقطع منذ سنة «60 هـ» التي أتي بالسبايا إليها بعد قتل الحسين عليه السلام في كربلاء كما مر في صدر هذا البحث .
أما في سائر بلدان الجزيرة العربية وأقطارها كاليمن ، الذي كان أهله أول من تشيع لعلي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم السلام والحجاز ، وحضر موت ، والكويت ، والبحرين ، ومسقط ، وعمان ، وقطر ، والإحساء ، والقطيف ، وبقية النواحي ، فإنه وإن لم يكن تقام شعائر الحزن على الإمام الحسين بصورة موسعة فيها ، كما هي الحالة في العراق ولبنان والأقطار الإسلامية الأخرى ، إلا أن مجالس التعزية التي تنشد فيها المراثي ، وتتلى من على المنابر قصة المجزرة المفجعة في كربلاء ، من قبل خطباء المنابر ، في الحسينيات ومحلات العبادة والدور ، تعقد طوال أيام شهري محرم وصفر ، وخاصة في العشرة الأولى من شهر محرم كل سنة ، من قبل الشيعة فيها . وغالبية هؤلاء الخطباء يفدون على هذه البلدان من العراق وإيران ، وبالأخص على الكويت ، والبحرين ، ومسقط ، وقطر ، وقطيف ، التي تسكنها جاليات شيعية كبيرة قبل حلول شهر محرم بعدة أيام ، استعدادا للاشتراك في تلك المجالس الحزينة ، وسرد قصة مقتل الإمام الشهيد وصحبه وآله . وأما مشاهد السبايا والهوادج ، واللطم ، والضرب على الرؤوس والوجوه والصدور ، فقليلاً ما تبدو للشخص في هذه البلدان ، لو استثنيا يوم عاشورا فقط .  وقد وصف بعض الكتاب وخاصة الإفرنج منهم ما شاهده من هذه المشاهد المؤلمة والمظاهر الحزينة ، في كتاباتهم ومذكراتهم ، أنقل منها نبذة على سبيل المثال :  ـ جاء في الصفحة «380» من « موسوعة العتبات المقدسة » الجزء الأول ـ قسم كربلاء ـ نقلاً عن الكاتبة الانجليزية « فرايا ستارك » في كتابها « صور بغدادية » عما شاهدته في الكويت من مجالس التعزية التي تقيمها النساء فيها ، بعد أن تصف هذه المجالس ، قولها :  ويؤخذ الأطفال الإيرانيون الموجودون في الكويت إلى الملاّ في يوم العاشر من محرم ليمرر تحت ذقونهم إمراراً رمزياً سكينته الكبيرة ، دلالة على فروض التضحية والفداء » . ثم تعقب الكاتبة على ذلك قائلة :  وهكذا تمر الحقيقة الناصعة من الميثولوجيا إلى الديانة الحقة ، ومن الديانة إلى التصوف . ومن المفيد أن تجدهم يتمسكون اليوم بهذه الطقوس البسيطة التي تدل على أول يوم فتحنا فيه أعيننا للوجود في هذا العالم ، لئلا ننسى الأخوة الإنسانية » .
 في الأردن وفلسطين وإن لم تسكنها جاليات شيعية تقوم بأداء شعارات الحزن والنياحة على الإمام الحسين عليه السلام فيها حسب العرف المتبع عند الشيعة لكن العادة جرت عند الأسر العريقة من مختلف الطوائف الإسلامية منذ عهد بعيد وحتى الآن بالإنفاق على الفقراء والمعوزين يوم العاشر من المحرم « العاشوراء الحسيني » بما يتوفر لديها من الطعام ، كما تطبخ في هذا اليوم طبخة حساء تتألف من بعض البقوليات والحبوب والبصل ثم تعرض على كل عابر للتناول منها ولو قليلاً جداً ، ويفرق منها على البيوت ، والجميع يتناولون ولو ملعقة منها للبركة والثواب ، وكثير من العائلات تعطل أعمالها اليومية في هذا اليوم الحزين ، وتمتنع خاصة عن عملية الغسيل ، منتهجين في ذلك نهج السيدة الجليلة أم سلمه زوجة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حينما نعي إليها الإمام الحسين عليه السلام . (2)
ما أحرانا اليوم ؛ ونحن موطن المأساة والحزن والفاجعة ، أن نستلهم من تلكم الذكرى الأليمة أعظم الدروس وأدق العبر، بالسير على النهج الرسالي للإمام الحسين ، الذي لم يخرج أشراً ولا بطراً ، ولكن خرج لطلب الإصلاح في أمّة جده رسول الله (ص) .. ما أحرانا اليوم ؛ ونحن نعيش الحرية الفكرية .. حرية المعتقد .. حرية الطقوس .. حرية المناسك .. حرية الممارسات النبيلة الواعية ، التي من الحريِّ أن تتجلى هنا في العراق بأبهى صور التجلي ، التي تعكس رونق المذهب الذي سار عليه الحسين (ع)  وأتباعه المخلصين .
المصيبة ؛ إنّما حدثت في العراق ، لأنَّ أهل العراق هم أرضية المشروع الإصلاحي الذي أسسه الإمام علي (ع) عندما نقل الخلافة الإسلامية من المدينة المنورة إلى الكوفة عاصمة الخلافة الإسلامية الجديدة في العراق .. اعتزازاً منه (ع) بأهمية هذا الموقع الجغرافي .. بنبل أهله .. بشهامتهم .. بحبهم للنهج الذي دعا إليه ، مجدداً عهد رسول الله في إحياء الدين الحقّ بالصراط المستقيم .
وإنَّ من يقول ؛ إنَّ أهل العراق قتلوا الحسين (ع) مخطئ وظالم أهلنا .. أهل النخوة والغيرة ، فأهل العراق هم أول من سارعوا لنصرة الحسين ، وهم أول من دعا الحسين (ع) لقيامه الإصلاحي العظيم ، وإلا لذهب الحسين إلى اليمن وأعلن ثورته ، لكنه القدر الرباني الذي رسمه الله له وشرّف أهلَ العراق به ، أهل العراق أولئك الذين لم يحالفهم الحظ في نصرة الإمام الحسين عليه السلام .. أولئك الذين وصلهم الخبر متأخراً هم أوّل من لطم ..هم أول من ضرب رأسه بسيفه .. هم أول من أدمى ظهره بلجام حصانه ، منهم بدأ ضرب السيوف على الرؤوس .. منهم بدأ اللطم على الصدور .. منهم بدأ الضرب بالألجمة على الظهور .. ومنهم انتشرت في العالم .
وعندما لا يكون الهدف من إحياء ذكرى فاجعة كربلاء هو إدماء الرؤوس واللطم على الصدور وسلخ الظهور ، فحريٌّ بأهل العراق أن لا يقفوا عن أحزانهم ، بل؛ أن يوجهوها نحو البديل الأفضل .. نحو الانتظار الصادق لوارث عهد رسول الله والآخذ بثأر أبيه الحسين الإمام المهدي المنتظر(ع) ، ولن يكونَ الانتظارُ حقا مالم يكنْ الجوهرُ حقّ .
ما نراه اليوم ؛ من تزاحم المواكب العامرة بالطعام والشراب والقراءات والمجالس ومكبِّرات الصوت، حريٌّ بها أن تكون عامرةً بالألفة والتآلف والمحبة والمواكبة والمواظبة بالسير على طريق الموكب الحسيني الواحد ، بينما نرى التنافس على أشدّه ، بأنْ يظهرَ موكبُ فلان أفضلَ من موكبِ فلان ، وأن يكون عزاء العشيرة الفلانية أكبر من عزاء العشيرة الفلانية ، وأن تكون كراديس الظهور في العاشر من محرم حسب الأسبقية والأولوية وحسب الجاه ، وكأن الحسين (ع) أستشهد لكي تتبارى عليه المواكب هنا وهناك بنزعة حُبِّ الظهور والتباهي!!!
من المؤسف حقاً ؛ أن نرى موكبين لا تبعدهما غير خطوات ، لم يتحدا بموكب حسيني واحد ، فكيف سيتحدون بهدف رسالي واحد .. كيف سينضوون تحت راية حسينية واحدة ، والرايات تحمل أسماء عشائرهم ولا تحمل أسماء شعائرهم !!؟
هذه الفرصة التاريخية ؛ التي يرفل فيها العراقيون الشيعة ، يجب أن تُستثمر أيّما استثمار . أن تُستثمر للتعبير عن وحدة المذهب والدين ، والوحدة الوطنية ، وأن يَستحضرَ العراقيون الشيعة بأن الحسين (ع) لم يكن حصّتهم لوحدهم ، فالحسين ابن بنت رسول الله (ص) نبي المسلمين كافة .. ابن فاطمة الزهراء (ع) سيد نساء العالمين  .. ابن علي بن أبي طالب (ع) خليفة المسلمين.. وهو سيد شباب أهل الجنّة بإجماع المسلمين .
وعندما تكون الذكرى حكراً على الشيعة حسب ، سوف لن تستنفذ ثورة الحسين أغراضها !!!
الحسين الذي خاطب المعسكر الأموي قائلاً : (إنْ لم يكن لكم دين ،وكنتم لاتخافون المعاد ، كونوا عرباً كما تزعمون ، أنا الذي أقاتلكم وتقاتلوني ، وليس على النساء قتال !).
لماذا تحرقون الخيام .. لماذا تقتلون الأطفال .. لماذا تمنعون الماء عن عيال وحرم رسول الله (ص) النبي العربي الهاشمي المدني المكي .. نبي الإسلام الذي باسمه بالزيف تدّعون فتحكمون .
لم يكن خطاب الإمام الحسين (ع) يوم عاشوراء عام 61 هج طائفياً .. لم يكن شيعيّاً .. لم يكن سنيّاً ، بل ؛ كان إسلامياً محمديا ، فليكن خطابنا إسلامياً محمديا ، ولنقطع الطريق على الجيش الأموي الإرهابي القادم من المشرق والمغرب، فهو القائل : (إنْ لم يستقم دين محمد إلاّ بقتلي ، يا سيوف خذيني !).
بسم الله الرحمن الرحيم
( ربِّي لا تذرْ على الأرض من الظالمين ديّارا، إنك إنْ تذرهم يُضِلّوا عبادَك ، ولا يلدوا إلا فاجراً كفـّارا)
صدق الله العلي العظيم والعاقبة للمتقين اللهم آمين !!!  
* * *
(1) الباحث العربي
(2) مؤسسة الإمام علي عليه السلام ـ لندن

أحدث المقالات

أحدث المقالات