19 ديسمبر، 2024 2:11 ص

رحلةُ العودة من العالم السفليّ

رحلةُ العودة من العالم السفليّ

الظلام سفينة تستعجلُ ركوبها الأجساد المنهكة القابعة وراء الصمت تستحثّ خطاها عواصف سرّية دوّاماتها تستند على تخوم الذكريات الخاطفة ما أقسى فقدانها منذ البداية , مضحكة أخرى تمارس خرابها المكشوف بقسوة لا تخلو من الإستهزاء والمكر والدهاء , هي حكاية مستمرة الحبكة منمنمة ككرنفال نعيشها في كتاب مجهول ..!!! .

حينما تناثرت من حولي وأبتعدت ذرات الأوكسجين , شعرت بأنّ سقف الغرفة التي كنت محجوراً فيها مع حاسوبي وكتبي وأوراقي قد بدأ يقتربُ منّي بخبث وأصرار حتى جثم فوق صدري , لم أستطع أن أصرخ وأستغيث , لأنهم جميعاً كانوا ( يتعاركون ) مع ضيف خبيث حطّ رحاله في أجسادهم . لمْ أدرِ مالذي حدث بعد أن أغمضت عينيّ وشعرت بأنّني للتو قد خرجت من سجن كان يضيق عليّ بالتدريج , وأحسست بحرّيتي تعود لي مرّة أخرى , فها هي تسير معي وأنا فوق عربة نقل المرضى داخل ممرّات المستشفى . فجأة , أنفتحَ باب هاااااائل ووجدتني أدخل من خلاله ومعي الكثير من أمثالي الذين عرفوا الحقيقة وأستسلموا لأقدارهم المكتوبة , وأُغلق وراءنا الباب بأحكام وأنتهى كلّ شيء , في الخارج بقي الكثير ينتظرون أن يفتح الباب مرّة أخرى ليدخلوا , وبقي أهلي وأصدقائي ينتظرون عبثاً عودتي , كنت أسمع اصواتهم وهم ينادون عليّ : كريم .. عدْ لنا نحن ننتظرك .. مازال لدينا الكثير . وعندما أستياسوا من عودتي , عادوا جميعاً يحملون أحزانهم وذكرياتهم الجميلة معي , أمرأة واحدة قرّرت أن تبقى وتنتظرني وتنتظر عودتي , كنت أسمعها تقول : كريم أرجوك لا تتركني وحيدة في هذا الفضاء الموبوء , بينما صديقي الشاعر عدنان الساعدي بقي هو الآخر ينتظر , وكان ينادي عليّ : أخوي كريم سابقى هنا لنْ أبرح مكاني , لابدّ أن تعود , بينما صديقي وجد الروح كان ينفث الأمل من خلال كلماته التي بقيت ترنّ في اذني , وسعد ياسين يوسف صديقي الآخر كان ينادي عليّ من بعيد : ايّها السومريّ عدّ لنا فمازال للشعر معك بقيّة كثيرة , أما صديقي علاء ابو مريم كنت أشعر بحزنه العميق وهو ينادي عليّ : أيّها المعلّم كلنا ننتظر عودتك فلا تتأخّر علينا أيّها الحبيب .

أنّه الظلام الدامس والعتمة الثقيلة وجدتهما بعدما أغلق وراءنا الباب , كنت أسمع صوتاً يقول : 58 سنة , عندما فتحت عيني وسط هذا الظلام كانت هناك عبارة مضيئة مكتوب فيها ( الباب الخامس ) , كنت خائفا مما يجري حولي , فجأة حطّت على كتفي يد حانية برّدت هذا الخوف , فاذا هي يد أمي ( نورة ) , يااااااااالهي ..!!! , كم أشتقت الى رؤيتها والى رائحة ( شيلتها ) السوداء التي تفوح دائما برائحة الطيبة والمسك و( السِعْدْ ) , كان وجهها حزينا هذه المرّة , لم تقلْ سوى : مالذي جاء بك مبكراً الى هنا ..؟؟!! . فنظرت الى يميني فإذا بوجهي أبي ( كاطع ) يقطع عنّي لحظة الذهول والقلق , لمْ ينبس بايّ كلمة , ولمْ يفعل سوى تعليق الكثير من الأثقال فوق ظهري , حتى أحسست بأنّني سأسقط على الأرض منها , أمسكاني وسارا بي في موكب حزين وسط هذه الجموع وهذا الظلام ومن هول ثقلها , في الطريق كنت أستشعر بوخزات كثيرة في جسدي وبشيء يكمّم فمي , وشيئاً يضغط على صدري بقوّة , ( آني أخاف من جكّةْ الأبرة ) , ( ثلاثون عاماً وأنت تجكّْ الناس بالأبر وتخاف منها , ذقْ الأن ما كنت تخشاه ) .

عند نهاية الطريق فُتح باب آخر مكتوب عليه ( الباب الرابع ) , حينها تخلّى عنّي والديّ وتركاني مع الآخرين ندخل من هذا الباب , خفّت قليلاً الحمولة التي كنت أحملها , وشعرت بشيءٍ من الحيوية تعود إليّ , كان هناك نسيم قد مرق في رئتي أنعش جسدي المنهك , حالما دخلت أستقبلتني جدّتي ( حدهن ) صاحبة العيون الفيروزية والعمامة السوداء الكبيرة , أحتظنتني بشعف وقالت لي : ها ولكْ كريّم , جدّهْ شجابك هنا , ليش مستعجل .. بعدك حلو ومدوكن كما كنت ..؟؟!! , وكان يقف بقربها جدّي عبدالله الذي لمْ أرهُ في حياتي أبداً , لمْ أرهُ إلاّ من خلال صورتهِ الشمسيّة التي قام والدي بتكبيرها لدى رسّام محترف في الباب الشرقيّ وعلّقناها في بيوتنا نحن أحفاده تبرّكاً بهِ , فهو ( الزاير عبدالله ) الذي زار الأمام الرضا في خرسان ضمن حملة على راجلة أستمرت زمناً طويلاً , يقول عنه والدي انّ المرأة التي تعسّر في ولادتها كانوا يستعيون بعمامته البيضاء ويضعوها فوق بطنها فتولد بسرعة . كانا قد أمسكاني من ذراعيّ وسارا بي وسط الظلام , كنت أسمع حفيف أجنحة رقيقة تحلّق حولي واصواتاً لا أكاد أميّزها تقول : بسرعة أرجوكم , العلاج الروسيّ في الوريد , حقن هيبارين تحت الجلد لئلا يتجلّط الدم , فيال سفتراكسون 1000 ملغم صباحاً ومساءً , فيال باراسيتامول , جهّزوا أكثر من قنينة أوكسجين , ضعوا قنينتان عند رأسه وثالثة عند الحمام لئلا يختنق ونفقده . عند نهاية الطريق فُتح باب كبير آخر مكتوب عليه ( الباب الثالث ) , وتركتني جدّتي ( حدّهن ) وجدّي عبدالله , لا أدري أين سأذهب وسط هذا الظلام ومَنْ سيكون دليلي فيه , فجأة ظهر رجل وقور لا أعرفه أقترب منّي وأمسك بي مطمئناً ومهدّاً من روعي وقال لي : أنا جدّك ( عليّ ) لا تخفْ يابني , لمْ يبقَ أمامك الكثير , ولكن لماذا يا بني تستعجل الذهاب , ألا تدري بأنّ الذاهب في هذا الطريق لنْ يعود , فقلت له : أ لهذا حزننا سرمديّ..؟؟!! . فقال لي : نحن المخلّدون في العالم السفليّ . رفع عنّي بعضاً من الأثقال التي كانت قد كسرت ظهري , فأحسست بحيويّة الشباب وعنوانه تعود إلى جسدي وتدفّق مستمر من نسيم عليل يُنعشُ كلّ جسدي . أوصلني جدّي ( عليّ ) إلى ( الباب الثاني ) وقال لي : أدخلْ يابني من هذا الباب ستكون سعيداً . أُغلق ورائي الباب وكنت أسير مع الجميع وسط الظلام و فأنبرى لي من بين الجميع رجل وقورٌ لا أعرفه وأقترب منّي قائلاً : مرحباً بك يا بنّي , لا تخفْ انا جدّك ( داوود ) اخبروني بمقدمك فحضرت لأهوّن عليك بعض آلآمك , وورفع بعضاً من اثقالي ورماها جانباً وقال لي : أنت متعب جداً باثقالك هذه , ستشعر بالتحسّن القليل الآن , وفعلاَ وجدت نفسي أفتح عينيّ من جديد , كانت غرفة أنيقة بيضاءة الجدران وسرير مريح وتلفاز يبثّ الموسيقى و وبجانبي ولدي ( أنور ) ينظر إليّ بحزن وقلق , شعر ببعض الطمأنية وهو يراني أفتح عيوني بعد ثلاثة ايام من الأغماء , وقال لي : أبي , هل أنت بخير ..؟؟ , فأومأت له بأنني مازلت حيّاً . اغمضت عينيَّ من جديد وذهبت مع جدّي ( داوود ) وسط الظلام , ليتركني عند ( الباب الأول ) , وقد عدت أكثر شباباً وحيوية وسعادة وأنا ألتقي برجل وقور آخر لا أعرفهُ , حالما رآني أبتسم في وجهي وقال لي : مرحباً بك يا بني , أنا جدّك ( سلمان ) , تعال معي لتجتاز هذا الباب وتستعد للمصير الذي ينتظرك . رفع عن كاهلي كلّ الأحمال التي كنت أحملها , كان ولدي ( انور ) يعصر البرتقال ويسقيني به مستبشراً , وكان يُطعمني كالطفل ويُجبرني على تناول الطعام الذي فقدت شهيته وطعمه ورائحته , وكان يأتيني صوتها من بعيد حزينا ضعيفاً غارقاً بالدموع والتوسّل والدعاء : كريم , الله يعينك , كن شجاعاً فأنا أنتظر عودتك , لا تتأخّر عليَّ , فانت الوحيد الذي أحبّ وأريد , كريم لا اله الاّ الله , فاقول مع نفسي : محمد رسول الله . أوقفوني طويلاً أنتظر عند ( الباب الأول ) , فلا يجوز المرور من خلاله دون دليل أو ضامن , كنت وكأنّني أشرب الأوكسجين شرباً , والتهم الطعام بشراهةٍ , وكانت تدخل جسدي كميات كبيرة من الأدوية , بقيت وحدي أنتظر عبثاً مَنْ ياخذ بيدي ويخلّصني من هذا الأنتظار , كنت أريد الخلاص بسرعة لما عانيته في طريق رحلتي الطويلة هذه , إلى أن جاءني شخص لا أعرفه , أقترب منّي وهزّني بعنف من كتفي قائلا لي : مَنْ الذي جاء بك إلى هنا , يا لكَ مِنْ أحمق يستعجل اللاعودة ..!! . أعاد تعليق جميع الأحمال التي تخلّصت منها أثناء الطريق , ودفعني بعنف قائلاً : عدْ لمْ يعد لك من مكان هاهنا . وإذا بي خارج المكان , وأشعة الشمس اللاهبة تشوي الوجوه , لا أدري إلاّ والسيّارة تقف أمام باب بيتنا الذي لمْ أتوقع العودة إليه مرّة أخرى , كان أحفادي يرقصون حول السيّارة ويحملون البالونات الملوّنة و( يطشّون الواهلية فوق السيّارة ) , كنت أشبه بالعريس الذي زُفَّ إلى عروسهِ , لمْ يُسمح لي أن أترجّل من السيّارة , وخشيت أن أهلي مازالوا يخشون منّي كوني مصدر عدوى لهم , لكن أخيراً فُتح الباب وسُمحَ لي بالدخول , كان ينتظرني خروف قامت أبنتي ( أيمان ) بشرائه وذبحهِ تحتَ قدمّي , وكان أيضاً زوج من الأوّزات أبنتي ( زينب ) هي الأخرى أشترتهما فداءً لي , بينما أبنتي ( نورا ) قد هيّأت لي مكاناً هادئاً ( وطشّت ) أكثر من كيلو ( واهلية ) فوق رأسي وفوق الفراش , بينما بقيّة بناتي ( زينة ودينا وليلى ) قد عادت لهنّ صحتهنّ وكنّ بأستقبالي مع زوج أبنتي ( ايمان ) كان ( ضياء ) قد اخذ دور القيادة مع زوجتي أثناء فترة غيابي , لكنني أفتقدت أبنتي الصغيرة ( زهراء ) و وتداركت زوجتي الموقف قائلة : ( زهراء ) هي الآن تتصل بك على الواتس آب , لقد بقيت تبكي عليك مادمت أنت ترقد في المستشفى , كنت أرى صورتها في الموبايل ودموعها تجري , فلوّحت لها علامة النصر فابتسمت وسط فرحة أطفالها , فقالت لي زوجتي بحسرة وألم وحزن عميق : ( ليش هيجي سوّيت بنفسك كريم ..؟؟؟!!! ) , فقلت لها : ( موبيدي , أحبها والعباس أبو فاضل , أحبها هواي , شلون بيّ ) , فضحكت غامزة قائلة : تالله ستبقى تحبّها حتى تكون مجنوناً حقيقاً وأنا أزورك في مستشفى الشماعية .

أحدث المقالات

أحدث المقالات