كتابات : هادي الحسيني / أوسلو
منذ سنوات المنفى الطويلة كنتُ أقرأ للشاعر العراقي ( ناجي رحيم ) المقيم في هولندا العديد من القصائد المنشورة في بعض الصحف والمواقع الثقافية وكان له أسلوبه المميز المتفرد في كتابة نصه الذي يعلن إحتجاجه على الكثير من الأشياء وترافق هذه الإحتجاجات بعض السخرية اللاذعة وهو ينقلنا ما بين مدينته الجنوبية التي ولد فيها ( الناصرية ) التي أنجبت للعراق الكثير من الأدباء والفنانين والمبدعين في مجالات عدة ، وفي الناصرية أسس كلكامش ملك أور العظيم أولى حضارات العالم وفيها كُتب أول حرف بتاريخ البشرية . مدينة الشاعر تاريخ وإبداع وروح ضاجة بالحياة ، وثورات لا تتوقف أمام الظلم ، وحب لا ينتهي ، وفقر مستمر ، والفرات الذي يمرّ بين بساتين المدينة ، وأهوارها وقصب البردي ، والنفط ، والقيم والمثل العليا . من كل هذه التوصيفات يكتب ناجي رحيم قصيدته المغمسة بالألم والرفض والحرب والحب ، الألم المنبثق من ويلات الحروب التي لم تتوقف لعقود من الزمن في وطنه العراق الذي عانى كثيراً جراء سياسات أنظمة قمعية تتفاوت بدكتاتوريتها وأبدعت بنهب ثروات البلاد الغنية . الشاعر ناجي رحيم وبالرغم من حياة المنفى الطويلة التي عاشها لكنه ظل ومازال يحمل في داخله حبه لوطنه ويتألم لآلامه التي لا تريد أن تتوقف ، ويفرح لأفراحه بالرغم من إن العراق ومنذ أواخر عقد السبعينيات وحتى اليوم لم يطرق بابه الفرح ، ولوحتى في الخطأ ! كما لو كانت البلاد مكتوب عليها الحزن والموت . لقد نجح الشاعر عبر نصوصه التي كتبها بإيصال مأساة وأنين بلاده وتناغمها مع الحياة التي يعيشها في هولندا من خلال الطبيعة والهدوء والأمان وحرية الإنسان وحقوقه استطاع بأن يوظف الجمال والحق والعدل في البلاد التي يعيش فيها ويسقطه أمام الظلم والموت ومصادرة الحريات في بلاده التي ترزح تحت وطأة الحروب والفساد الذي طال كل مؤوسسات الدولة العراقية وأصبح العراقي الفقير لا يعرف طريقه للحصول على قوته اليومي في ظل أحزاب وميليشيات إستولت على الدولة برمتها وصادرتها ..الشاعر يحمل في دخله كل ذكرياته التي تركها داخل الوطن ، هو يحن الى الأم التي ظلت خالدة في روحه وتنير له بدعواتها طرق المنفى الموحشة ، وكذلك الأخوة والأصدقاء والحبيبة التي كانت تشعل له الشموع في دروب الحرب المظلمة .
في قصائد مجموعة ( كائنات ممنوعة من الصرف ) للشاعر العراقي ناجي رحيم الصادرة حديثاً عن دار ( خطوط وظلال ) في عمّان ، الأردن عام 2021 ، يكتب ناجي رحيم درساً شعرياً جديداً في النقد اللاذع للحياة وبلغة خالية من الشوائد والزوائد ، لغة صافية ، لغة تقود القصيدة بفكرتها ووحدتها الى عوالم غاية في الدقة والتصويب على أهداف رسمتْ في داخله منذ صباه وشبابه الأول عندما كان يقرأ العالم ، فالبيت والحرب والحب والحنين والمنفى والفقر والأحتجاج والإنتقاد وأشياء أخرى هي ثيمة قصائد مجموعة ناجي رحيم ( كائنات ممنوعة من الصرف ) .
يسبق القصائد جزء من دراسة قيمة للناقد العراقي الكبير الأستاذ ( ياسين النصير ) يتحدث فيها عن تجربة الشاعر ناجي رحيم وكيف لفت انتباهه حين أصدر مجموعة شعرية بعنوان ( سجائر لا يعرفها العزيز بودلير ) عام 2015 كمدخل مهم الى تجربة الشاعر التي تابع خطواتها منذ سنوات وصولا الى مجموعته الأخيرة ( كائنات ممنوعة من الصرف ) التي شدت النصير للكتابة عنها ، وكانت الدراسة تشبه النص الذي زاد من جماليات نصوص الشاعر في أغلب قصائد المجموعة ..
أراد الشاعر ناجي رحيم من عنوان مجموعته ( كائنات ممنوعة من الصرف ) أن يؤشر على أماكن القبح في هذا العالم المترامي الأطراف وكميات الحقد الكبيرة ، وما بين القبح والحقد دائما ثمة طيبة وجمال وروح تحاول أن تحلق في فضاءات ومديات الأمان والطمأنينة والحب وترسم الإبتسامة فوق شفاه هذا العالم الذي يعج بالمآسي والموت والمنفى والفقر والجوع والحروب التي ما أن تتوقف واحدة حتى تنشب أخرى وحصارات على الشعوب الفقيرة التي تم تدمير الإنسان فيها .. كل تلك الأمور تضغط على الشاعر ناجي رحيم وتجعله يلعن هذه الحياة ويلعن العالم بأسره عبر قصائد نثر إاذا جاز لي تسميتها بالقصائد الشجاعة في زمن الجبن والذل ..
أولى قصائد مجموعة ( كائنات ممنوعة من الصرف ) للشاعر ناجي رحيم هي بعنوان ( حديث ) الشاعر يُحدّث ذاته المنفية منذ زمان ومن المفارقات الكثيرة استقدام للزمن الذي مضى ، فتضطره بعض الوجوه التي لا تحسن التصرف الإمساك بحريته أو فرض نفسها الثقيلة على الآخر وأحيانا تشده سماع الموسيقى الى الإصغاء بصفاء عالٍ مستذكراً حياته التي عبرت الحروب وخنادق الموت على طول جبهات الحرب العراقية الأيرانية التي عاش فيها كجندي زج بالحرب ليلاقي الموت القادم من الشرق مع آلاف الشباب في ذلك الوقت ، الشاعر يعتبر في نصه حتى أخطائه هي موسيقى ، فمراجعة الخطأ بعد زمن من المؤكد تعيد ثقة الإنسان بنفسه ، وما كثرة أخطاؤنا في هذه الحياة التي هي الخطأ الأول ، والتي شبهها الشاعر مثل الجحيم للأحياء ، لكنه يحاول داخل النص أن يرسم لنا الجمال بكل عنفوانه من خلال لوحة فان كوخ التي رسم فيها لهبا أخضر أو رسم النهار بأكمله من تحت سماء مثقوبة ، هذه الاستعارة الجمالية داخل النص تحاول إزاحة الظلام المهيمن على روح الشاعر داخل القصيدة فتبدو الأشياء للوهلة الأولى أكثر جمالية ، لكن ما بين السطور يشير الى رماد وآلام لا يمكن للروح أن تتقبلها ، يقول الشاعر ناجي رحيم في قصيدة ( حديث ) ص 17 :
( تمُسِكُ بكَ كائناتٌ ممنوعةٌ من الصرف،
تُمسكُ بكَ موسيقى الأصدقاء، أخطاؤك أيضا موسيقى
تُمسك بك وتقودك إلى حفلةِ إصغاء،
تتمشّى فيها متذكّرا كيف مشى فنسنت فان خوخ إلى حقلٍ
كي يرسمَ لهبا أخضر،
يرسمُ نهارا كاملا تحت سماءٍ مثقوبة،
ثم يقطعُ أذنه ويبعثها بالبريد السريع،
خذه معك الآن في نزهة عسى أن يتعافى
هذا الحسّ المُدمّى،
الحياةُ جحيمُ الأحياء،) ..
في قصيدة ( بيت رحم الكائنات ) يحاول الشاعر أن يصف لنا حاله عندما كان شاباً في مدينته ،في البداية يصف لمة العائلة العراقية من أب وأم وأخوة حين يجتمعون في غرفة واحدة ينامون فيها ويأكلون ويشربون ويقرأون واجباتهم المدرسية ، دقة الوصف بأن هذه الأجساد ليست جثثاً هو تشبيه رائع ، فأغلب العوائل العراقية في السابق كانت تعيش هذه الحالة سواء في العاصمة بغداد أو محافظات العراق الأخرى بسبب الفقر والعوز . ثم يستذكر الشاعر قُبلته الأولى وهو صبي خلف الباب الحديدي لبيتهم ، ولهفته ولهفة الحبيبة إليه في تلك الأيام الجميلة رغم بساطتها والفقر الذي يعيشه الإنسان العراقي لكن لها طعم ومذاق طيب لا ينسى وفيها روح مفعمة بالمحبة والإخلاص والتسامح وتلك صفات مجتمعة لدى الإنسان في العراق ، ولهذا حين يهاجر الشاعر العراقي من وطنه وبيته تحت ضغوطات سياسية كانت أو اقتصادية أو غيرها تتعالى لديه الشكوى في نصوصه ومجمل كتاباته بعد أن ينال منه (الهومسك ) يتمنى العودة الى البيت ، فتزداد قوة الحنين ويرفض كل مغريات الغربة ويصبح بيت العائلة البسيط حلمه الأول . هذه علامات واضحة تظهر عند أغلب العراقيين المهاجرين لكن الشاعر ناجي رحيم تمكن من تجسيدها بفكرة رائعة وقدمها لنا عبر نصه الجميل ( بيت رحم الكائنات ) كما نقرأ في المقاطع الأولى من القصيدة في ص 25 :
( ليست نسيانا ليست عبورا
ليست جثثا هي بيت رحم الكائنات
أوّل قبلة لصبي خلف باب حديديّ
لهفة فتاة إلى موعد أخضر
هموم أرواح نزفت في قرون
حشود تلتقي في غرفة كونية
تتسامر في حياة تدور على نفسها
وعلى الداخل إليها
تدور على كوكب يسبح في فراغ ) ..
وفي قصيدة ( فراشة الهدوء ) يروي لنا الشاعر ناجي رحيم مرور الزمن في المنفى الذي يلفه السكون المطلق ، في هذه البقعة من أوروبا التي يقطنها الشاعر يحمل ذكرياته في قلبه وفكره وفيها معالجات تشبه الدواء الذي يكفي لمعالجة قطيع من حيوان الوعل ، ترميز في كل سطر من القصيدة حتى يصل بنا الشاعر الى أصابعه التي تضرب بحب على حروف لا تكتبه ، وهنا يقصد كيبورت الكومبيوتر الذي تطرقه أصابعه وتكّون جمله في الكتابة ، لدى الشاعر ذكرياته الطويلة التي لو كتبها ستكون أكثر من كتاب ، لكن لم يحن أوان كتابتها بعد ، قد يكتبها في فترة وجيزة وبسرعة فائقة ذات يوم ، فمخزن الكاتب من الذكريات والشعر والأفكار التي تدور في رأسه لا يعرف موعد كتابتها ، لكنه سيكتبها حتماً ذات يوم ، وفي داخله ايضا ثمة أصحاب يكتبون ، المكتبة تجلس بهدوء مثل الفراشة في داخله كما وصفها وجعلها عنوانا للقصيدة ففي فراشة الهدوء يقول ناجي رحيم ص 39 :
( السّاعاتُ تنسابُ وأنا أُطاردُ فراشةَ الهدوء
لا، لستُ مريضا،
أنا في العالم فقط،
معي ذكرياتٌ ما زالت صالحة
و دواء يكفي لقطيعٍ من وعول،
لستُ مريضا أنا في العالم فقط،
أصابعي تطرق بمحبّة على حروف
لا تكتبني،
في قلبي كتب سيأتي أوانها،
كلّ خضّة كتاب،
في قلبي أيضا أصحابٌ يكتبون،
مكتبة تجلس بهدوء وتكتب سِيَ ) ..
وفي قصيدة ( ممنوعة من الصرف ) ، يشبّه الشاعر روحه بالقصور العامرة المؤثثة بأرقى الأثاث ومزينة بأجمل أنواع الزهور ، فالبلد الذي يقيم فيه الشاعر هو بلد الزهور والورود الأول في العالم ، ثمة أراضٍ شاسعة لزراعة أنواع الزهور بلوحات باهرة في الجمال ، هكذا أحس الشاعر بروحه التي سرعان ما شبهها بالحدائق صاحبة الوجوه ، فالكثير من حدائق دول أوروبا فيها نصب وتحف وتماثيل فنينة تزين هذه الحدائق فجاء تشبيهه متطابقا بالتمام مع حدائق من وجوه هي كائنات صامتة ، كائنات لا تنطق ولا تتحرك ولا تسبب أي إشكاليات او أحزان للسكان بل العكس تماما . ثم ينقلنا الشاعر ناجي رحيم في هذا المقطع من قصيدة ممنوع من الصرف ويشبّه روحه بالمقبرة ! نقلة مخيفة ، هكذا تبدو لي ، الإنسان حين يكون منفياً وبعيداً عن أهله وأصدقائه يمرّ في ساعات عصيبة بين الحين والآخر فتزداد قوة الحنين والشوق في داخله ويشعر وهو ينظر الى كل شيء جميل من حوله ولا يعير له الأهمية ، روحه معلقة هناك في مدينته الناصرية ولهذا شبهها بالمقبرة ، المقبرة الساكنة بهدوئها المخيف ، أحيانا نقول على المدن الصغير في أوروبا حين تغلق أبواب محلاتها في بداية المساء ولا تجد احدا في الشارع من المارة نشبهها بالمقبرة ! فالروح حين تكون غريبة فعلا تشبه المقبرة ، وكما قال الشاعر العراقي الراحل ( جبار الغزي ) في كلمات أغنية كتبها ظلت علامة فارقة في تاريخ الشعر العامي العراقي وهي بعنوان ( غريبة الروح ، لا طيفك يمر بيها ) فيقول الشاعر ناجي رحيم في المقطع الأول من قصيدته ( ممنوعة من الصرف ) ص 45 :
( روحي قصورعامرة بغرفٍ وأثاثٍ وزهور،
روحي حدائق من وجوه،
روحي مقبرة ) ..
ولعل قصيدة ( أغنية البجعة ) التي نوه لها الشاعر في هامش القصيدة بأن العنوان مأخوذ من قصيدة لشاعر روسيا ( سيرغي يسنين ) الذي ترجمه الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر.
قصيدة يسنين بعنوان ( أغنية الكلبة ) ، والمقطع الأول من القصيدة الذي ضمنه ما بين القوسين فهو للشاعر ناجي رحيم من ديوانه السابق ( سجائر لا يعرفها العزيز بودلير ) . يسرد لنا الشاعر عبر هذه القصيدة الطويلة نسبيا أغنية البجعة ، الشاعر حتى في نومه يرتكب الأخطاء وفي الصحو يعتذر عن تلك الأخطاء من دون أي فائدة ، لكنه يباهتنا بجملة يختتم فيها مقدمة القصيدة حين يصف نفسه بالأحمق الذي نسى أن يعتذر من ذاته ويسحب اعتذاراته ! مفارقة في السرد الشعري المنضبط بحرفية عالية وبروح الشاعر الخلاقة للجمال بالرغم من الحزن الذي يخيم مثل أمرأة ثكلى على مشهد القصيدة الطويلة حين يقول في ص 70 :
)حتّى في نومي أرتكب أخطاء )
اعتذرتُ كثيراً عنها، لا ينفع ،،،
الأحمق نسيتُ أن اعتذرَ منّي وأسحب اعتذاراتي ) ..
وفي مقاطع أخرى من قصيدة ( أغنية البجعة ) يستعيد الشاعر حياته فترة الثمانينات أيام الحرب العراقية الأيرانية التي أشتعلت محرقتها لمدة ثماني سنوات ، كانت الحياة تشبه الموت سواء كانت في المدن أو في جبهات القتال حيث ينتقل الموت ما بين ملاجىء الجنود ومواضعهم وخطواتهم ويتربص لهم . صوت نباح الكلاب يتعالى في صباحات المدينة الغارقة بالحزن والخوف على مصير أبنائهم المرابضين في جبهات القتال ، كان الشاعر ناجي رحيم يصف مشهد خروجه من بيت أهله بمحلة الشرقية في مدينة الناصرية ، وهو الناقم على مشهد الحياة برمتها ومثله مئات الآلاف من الجنود ، يرمي الشاعر عظمة تحفة ، كما وصفها الى الكلاب السائبة ويستذكر آخر مجاميع الشاعر سركون بولص التي صدرت بعد وفاته عام 2007 بعنوان ( عظمة أخرى لكلب القبيلة ) . يذهب الشاعر فجراً بإتجاه الخطوط الأمامية لجبهة القتال فيستقل السيارة الذاهبة الى البصرة أو العمارة حيث تشتد المعارك عند الحدود ، لكن المشهد المثير الذي يجعل من الشاعر بعد نبح الكلاب أن ينبح خلف الكلاب لاعناً ذلك اليوم الذي جاء بنظام قمعي يعشق الحروب ويعشق تدمير البلاد ، كما في مقاطع قصيدة ( أغنية البجعة ) في صفحات 72 – 73 :
( هذه استعاراتٌ بجعيّة،
جلدها لا يرتدي عظاما ويخرج للنزهة، يا للفتح المبين،
ترمي لكلبٍ بعظمة، تحفة!
لا أدري هل هي )عظمة أخرى لكلب القبيلة( *،
كتابٌ من بوحٍ صافٍ صار نباحا
أجل يا بجعة هو فعلا نباح خالص،
ليس جلدا للذات ولا يعنيني إن كان كذلك أيضا
أو ماذا ستهضم حوصلتك،
كي تكتمل الصورة سأعيد الآتي:
في حرب ثمانين، من قرفي وخوفي وحزني،
من بيتنا في محلّة الشرقيّة في الناصرية عبر شارع عشرين
أترنّح فجرا صعودا إلى الكراج – ومثلي ملايين يا بجعة- كي
ألتحق إلى الجبهة، كلاب مزبلة في أعلى الشارع تهدّد وتنبح،
وقفتُ، ثم بأعلى صوتي نبحتُ
وركضتُ خلف الكلاب، أركض وأنبح، أركض وأنبح،،،
ثمّ:في هذا الليل
بي رغبة أن أهصرَ عنق هذا الزمن
بي رغبة أن أصرخَ في بلعوم العصر
بي رغبة ) ..
وقبل سنتين ترحل شقيقة الشاعر التي تصغره بعدد من السنوات وهو في منفاه الهولندي ، وكم يكون وقع فقدان الأحبة من الأهل خاصة ثقيل على النفس ومثل الزلزال الذي يحاول تدمير النفس البشرية المختنقة بمنفاها وتستلم لمثل هكذا خبر ، الوجع يبرز في تضاريس وجه الشاعر وفي قلبه وفي أصابع يده التي تجبره على كتابة الرثاء فيتبخر الوجع من مساماته ويرفض المصافحة مع الحياة التي مقتها ورفض قوانينها بعد كل هذا الخراب والدمار ، الشاعر لم يرفض قوانين الطبيعة المفروضة والتي لا مفر منها ، لكنه يرفض قوانين المتسلطين على رقاب هذا العالم ويتحكمون بالحروب والحصارات والجوع والقتل والدماء ، يرفض الشاعر تجار الموت وتجار الدين وتجار الحروب ، نرى مشهد انفعالي واضح الرؤيا في تلك القصيدة التي هي تعبِّر صادق عما يجول في داخله وهو يسمع خبر رحيل شقيقته ، يقول الشاعر العراقي ناجي رحيم في قصيدة ( وجع ) ص 140
( لا وجعَ يرسمُني الآن
أوجاعُ العالمِ كلّها تتبخّرُ من مساماتي،
لن أتصالحَ معك أيّتُها الحياة،
أباشرُك ببصاقيَ المقدّس،
بصاقي المقدّس على سادتكِ وآلهتكِ وأصنامك،
كلُّ يومٍ لي صراعٌ مع مخبوءٍ ينزّمن أبطيكِ العفنين،
سأكتبُكِ وأحذفُ، أكتبُكِ وأحذف،
أطشُّك بمساميرَ تلهثُ في روحي،
أيّتها العاهر لن أنحني لن أنحني لإلهٍ كسيحْ ) ..
يبقى أن أقول ان قصائد الشاعر ال 45 فيها طروحات جريئة جداً بالرغم من الحزن والموت والألم والحروب والمنفى لكن ثمة جمال وحب يطوف ما بين كل هذا الخراب الاسود الذي عاشه الشاعر وعاشه معه مئات اللآلاف من العراقيين ، قدم لنا الشاعر ناجي رحيم في كتابه ( كائنات ممنوعة من الصرف ) صورة حية للمشهد العراقي الملتبس وللمنفى الجميل الذي يضيق في صدور المنفيين …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب : كائنات ممنوعة من الصرف ب 220 صفحة ومن القطع المتوسط
الشاعر : ناجي رحيم
الطبعة الأولى 2021
دار خطوط وظلال للنشر / عمّان ، الأدرن
أوسلو / 28/ 04/ 2021