اكثر من ثمانية عشر عاما وعمليات استهداف المواطنين والاحياء السكنية والاسواق والمؤسسات العامة بالصواريخ لم تتوقف ولا يوجد لها رادع.. البعض يتحدث من أن الدولة قوية ولديها ما يمكنها من السيطرة، لكنها لا تريد الصدام. وعلى ما يبدو أن مثل هذا الرأي، لا يعدو الا سلوكا ساذجا لتبرير أو تبسيط ما لا يمكن لدولة مؤسسات اتباعه. كما يبدو من جهة أخرى، ان هناك من هو اقوى من الدولة، ويمتلك ما لا تملكه، السلاح والمال والاخطر نفوذ منتسبي ميليشيات الاحزاب على السيطرات المنتشرة في عموم البلاد والتي تسهل عمليات الاختراق للقيام بعمليات إرهابية. آخرها تعرض مطار أربيل الدولي بكردستان العراق لهجوم للمرة الثانية يوم 15 أبريل، الجديد هذه المرة أنه نفذ بطائرة مسيرة. وحادثة انفجار سيارة مفخخة في سوق الحبيبية ببغداد يوم 16 أبريل أسفر عن مقتل أربعة أشخاص وإصابة 17 مواطنا، المصادر اعلنت ان المنفذ تابع لأحد فصائل الحشد وكان عازما على نقل العبوات من أجل استهداف التحالف. فيما أصيب خمسة أشخاص عراقيين بجروح في هجوم صاروخي جديد وقع يوم 18 أبريل على قاعدة بلد الجوية العسكرية التي تضمّ أميركيين.
وفي تحدٍ صارخ للدولة والمجتمع قامت في 25 آذار في العاصمة بغداد مجموعة ميليشياوية خارجة عن القانون تابعة لبعض أحزاب السلطة أطلقت على نفسها “ربع الله”، مدججة بالسلاح الثقيل وعجلات رباعية الدفع، بإستعراض يشكل نوعا من التمرد السافر على الدولة وهيبتها “المفقودة” أصلا. وليس كما صور على أنه رسالة تهديد للكاظمي.. السؤال: هل الله صاحب القدرة والعظمة بحاجة الى “ربع” يحموا جلاله في العلا وعلى كل شيء قدير، ومِن مَن، ولأي سبب؟، بيد أن هؤلاء من يريدون حمايته، هم أول من أساءوا الى دينه الحنيف على الأرض قبل السبيل الى الآخرة! وأول من اعتدى على قيّم الله وحماية مثله العليا “الدين القيم” و “دين الحق” و “الهدى والرحمة” وجاء في كتابه (ولدار الآخرة خير للذين اتقوا فلا تعقلون).. ثم لماذ يريدون توجيه تهديد للكاظمي؟، أفيعقل ذلك؟.. يا لعجائب هذا الزمان.!
بسبب عدم ردع الفصائل الخارجة عن القانون تحت ذريعة الخشية من “الصِدام”، تفاقمت الازمات والاوضاع، وبسبب غض النظر عن مظاهر استعراض السلاح وتهديد الميليشيات للدولة وتمردها على مؤسساتها وبالأخص العسكرية والأمنية والقضائية، أصبحت الفصائل المتهورة والمحمية من أذرع عسكرية محسوبة على الدولة قوة لا يستهان بها، بين صفوفها قتلة ومجرمين ومرتزقة، تحظى برضا العديد من الاحزاب الطائفية داخل السلطة وخارجها، سيما بعد الانتفاضة المليونية التي اطاح بها مقتدى الصدر بعد انسحابه من الخضراء عام 2016، تاركا الشباب الذين اقتحموا المنطقة المحصنة خلفه بعد ان ورطهم.. الأمر الذي كان يجب على السلطة آنذاك، القيام بحل جميع المنظمات والفصائل المسلحة مباشرة، بل ملاحقتها بعد انتهاء مهمة محاربة داعش وليس السكوت على تصرفاتها تحت ذريعة الحاجة اليها. اذ ان معظم الفصائل “قياداتها و منتسبيها”، مرتبطة باحزاب ولائية، أو محيط خارجي يحميها ويوفر لها المعلومات اللوجستية والسلاح، حتى أصبحت سلطة فوق سلطة الدولة ـ تتصدر المشهد السياسي والاقتصادي وتعمل لصالح تلك المنظومات وأحزاب الاسلام السياسي، بعيدا عن عقيدة الدفاع عن مصالح الشعب والوطن
السلطة كما تقر أحكام القانون الدولي للامم المتحدة، مسؤولة عن حماية الدولة وحفظ أمن مواطنيها. عليها ان تمارس جميع صلاحياتها لصيانة النظام وتطبيق القانون، بالوسائل التي يكفلها الدستور، بما في ذلك نزول الجيش لردع أية تمرد تقوم به قوى خارجة عن القانون ومؤسسات الدولة. عندما تخفق في تحقيق ذلك، تصبح بشكل وآخر، سلطة “متواطئة” لا تمتلك خصائص مقومات الحكم الاساسية، بذلك تكون فاقدة الشرعية القانونية والاخلاقية ـ او سلطة دون قواعد اختيار واضحة المعايير لحكم مركزي منضبط يضع مصالح الشعب والوطن فوق مصالح الاحزاب ويتيح مشاركة الموطنين في السلطة لمواجهة الخارجين عن القانون والاخطار التي يتعرض لها بلدهم.. بالمختصر: حينما لم يعد بمقدور الحكومة وفق معايير غير مسؤولة، معالجة الاوضاع المعقدة التي يعاني منها العراق والمجتمع، عندئذ على الشعب ان يتجه نحو التغيير السياسي الشامل لمنظومة الحكم. وأن لا يتساهل مع سلطة غير قادرة على توفير الامن ووضع حدٍ لانتشار السلاح وتركه تحت حماية “أحزاب السلطة” واستهتار الميليشيات وتمردها على الدولة وهيبة القانون كما يحدث لغاية الآن.. اذن لابد من استيعاب قيمة ما يتبادر للاذهان من تساؤلات، تضيئها بانوراما الاحداث: الشباب كان قد خرج للتظاهر السلمي خلال السنوات للمطالبة بحقوقه المشروعة، ما كان للحكومات المتعاقبة الا الدفع في كل مرة بقوات الامن والشرطة واحيانا بالجيش لقمع المتظاهرين والسيطرة على حراكهم بالقوة المفرطة. السؤال: لماذا لم تقم الحكومة بذات الأساليب والادوات لمواجهة الميليشيات المسلحة وحماية الدولة وأمنها على أقل تقدير؟. اذ ان تهديدها يشكل خطرا على استقلال البلد والمصالح الوطنية العامة والسلم الاهلي.. ونسأل أيضا: ماذا ستعمل الحكومة، ولا نقول السلطة، لان السلطة ليس بيد الحكومة ـ ماذا تفعل فيما لو حمل المتظاهرون السلاح وخرج معهم الشعب للدفاع عن الكرامة والحقوق المسلوبة وبطبيعة الحال، إستعادة هيبته الوطن وأمنه وأمن مواطنيه؟. وهو ليس أمرا مستحيلا أو غير وارد، كما وليس افتراضي.. فهل ستخشى الحكومة الصِدام وتخضع لارادة الشعب؟، بالتاكيد سوف لن يحصل!، لكن لمن سيترك الأمر؟.
واذا كان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وبعض القوى المدنية خارج السلطة يراهنون على الحوار مع المجموعات والفصائل المسلحة، كأنهم في دولة ديمقراطية تُحترم فيها لغة الحوار والراي الآخر، ويتحدثون بجمالية وشغف منقطع النظير عن “السلمية” التي تلقى تصفيات دموية، دون معاقبة مرتكيبها على مدى ثمانية عشر عاما. عليهم ان يبتعدوا عن الديماغوغية المفرطة ويكونوا اكثر موضوعية، لان قيّم الدولة ومصائر الناس من الامور التي تقتضي الحزم والارادة حتى وان كان مكلفا، لان اية كلفة باهضة، تنهي طبقة الظلم والفساد وتضع حدا للازمات السياسية والاقتصادية وتوقف الاضطرابات النفسية والمعيشية التي انتجتها سياسات تلك الطبقة والاحزاب الفاسدة وتموضعت معها بعض منظمات المجتمع المدني والقوى والاحزاب “العلمانية واليسارية”، ارخص بكثير من اطالة أمد “زعاطيط” السياسة وتسلط الاحزاب الطائفية والاسلام السياسي.. المسألة ليست لعبة روليت، انها مصير أمة، لا جدال فيها للخيار بين “الوطن” أو التبشير بعقيدة “الحزب” ومصالحه.
أن الاحداث الأخيرة والاستعراض المسلح للميليشيات، عرض امن الدولة والمواطنين للخطر، وشكل تهديدا غير مسبوق للسلم الاهلي والنيل من الارادة الوطنية. كان على الحكومة أن تواجهه بقوة وحزم لا ان تتذرع بانها لا تريد الصدام، حيث مثل هذه السياسة غير الرادعة تشجع الميليشيات واطراف الفساد والقتلة على التمرد والاستهتار بوقاحة أكثر. كما تشكل تحديات سافرة للحكومة والدولة والمجتمع. ردعها بحزم وقوة السلاح ومحاسبة من يقف ورائها أمر بديهيا، لا الاستخفاف كما جرت العادة. ذلك كارثة “ادارية مركزية” تثير العديد من علامات الاستفهام حول القائمين على ادارة الدولة وأطراف السلطة واحزابها التي ترعى الميليشيات وتسمح لها باقتناء السلاح وتقنينه. في كل الاحوال، الحكومة، مجتمعيا وسياسيا، المسؤول الاول امام القانون والدستور، وهي من عليها أن تراقب وتحاسب من يتجاوز عليها، وان لم تستطع القيام بواجباتها، فعليها الرحيل. بالمقابل على الشعب من الناحية الدستورية ان يتحمل المسؤولية الجماعية كونه “مصدر السلطات” وحافظها. وعلى “الاغلبية الصامتة” ان تخرج عن صمتها غير المقبول تحت ذريعة “السلمية” الزائفة، على الاقل أخلاقيا كما تقتضيه المصلحة الوطنية. اذ أن الصمت مقابل منطق الرصاص وصناعة الخوف والرعب وما يحدث على الصعيد الجيوديموغرافي، لم يعد مفهوما سلميا “معقولا”. وليس من المنطق ان تسيل دماء الابرياء قرابين للذود عن الانسان وحريته واستعادة الوطن ومستقبل الاجيال، فيما الاغلبية الصامتة تتربع من على التل تنتظر اللحظة الحاسمة لازالة الغموض عن دورها “الانتهازي ـ المنافق” للاسئثار بالسلطة مثلما من جاؤا على انقاض حكم صدام، تاركين ثورة الجياع وشهداءها خلف الاطلال دون مقابل.!