عجيب أمر هذا المخلوق المسمى إنسانا ،،،ذلك العالم الغريب الذي يستمر في اكتشاف مجاهل ذاته حتى الرمق الأخير وهو يختزن مشاعر الدهشة مما يحمل ولا يعرف من تحولات لم يحسب لأغلبها حسابا ،وهي تداهم لحظات مجتزأة من عمره،،
وهكذا كنت أواجه بدهشة من لم يكتشف شبرا من ارض الذات المجهولة المسماة نفسا خبر رحيلك الذي لم احسب له حسابا في يوم من الأيام،،لا لأنك عصية على الموت بل لانني عصية على التصديق ان حياة مثلك يمكن ان يطويها الموت يوما،،
– لقد توفيت نجمة قبل أسبوع،،أجرت عملية جراحية فاشلة،،و،،
كالصاعقة نزلت تلك الكلمات التي تهادت من بين شفتي محدثي العراقي في احد صباحات عمان التي كثر حضورها في عمري في الآونة الاخيرة،،سقطت من بين أصابعي حبة الزيتون المر ونبت في لحظتها غصن شوك اخر في بستان أحزاني الذي تتسع مساحاته بالفقد يوما بعد اخر،،
كل الأسئلة الغبية التي تحضرنا لحظة الفجيعة كانت تتسارع على لساني ممتنعة عن النطق،،واحترت باي مشاعر تتقطع القلب أبادر محدثي،،حتى لاذت كلماتي بالصمت،،
هل يعقل ان تقرري الرحيل من غير تخطيط ضاربة بكل المواعيد العفوية التي رتبناها للعودة الى مدينة سكنتنا منذ قرون ونقشت في القلب اوشام ذكريات التجوال الذي لا ينتهي في شوارعها التي تعرف كل اسرارنا،،
فهناك في قلب الحزن المتواري خلف الصخب الشعبي لازالت تسكن لحظات الكشف العفوي للأشياء ،،للأرواح التائهة في زحمة خطاها،،ولكل جمال كان يتوارى مكرها خلف البؤس الذي يأكل أرواح الناس التي يتفنن في طحنها الحصار القاسي،،ذلك الذي اختزن لسنوات طويلة حصارات توارت خلفها الشكوى الممنوعة خوفا من بطش الطغيان،،
كنا نتأمل يا نجمة كل سقوط للأرواح في زوايا الفقر في الأحياء التي تختبيء خلف البنايات والشواخص الجميلة في مدينة اعتادت ان تخدع عشاقها وموهوميها ومجانينها،،نبهتني يوما الى تلك المفارقةالمبكية التي كانت تكمن في تداخل الأحياء الراقية بالمحلات الحقيرة الملئى بالمحرومين والمشردين الذين اعتادوا ان يكونوا معالم مألوفة على الأرصفة والزوايا،،تماما كندوب تشوه وجه بغداد الذي كان يشبه وجه المهرج الضاحك الذي يخفي أحزانه تحت أقنعة خادعة،،كنا نتقاسم الحب المرفوض لمدينة تيه أكلت تاريخا من العشق والانتقام والزهو والسقوط والانتصارات والهزائم وكل المتضادات التي كانت تنبض في أحشاء حضارات تتعاقب في رحم الأزمان،،
كنا نبكي ونضحك من غير مواعيد،،نتقاسم أرغفة الفرح العابر في امتداد الشوارع التي تحتضن اللحظات،،
اذكر يوما حين ذهبنا في عصرٍ صيفي هربا من توهج حر الجدران في السكن الداخلي ولم نعرف الى اية جهة تتشتت خطانا،،ووجدنا انفسنا في وجه مرقد موسى الكاظم(ع) بلا سابق موعد،،نتأمل أفواج الزوار التي كانت تتقاسم اوجاعا مشتركة عند ولوج الأبواب الضخمة المفضية الى صحن الحضرة،،يا للأرواح المتعبة التي لا تنتهي أفواجها ،،يحمل كل منها وجعا شخصيا لحبيب مفقود وشهيد وأسير عان في محارق حروب لا تنتهي،،او طفل مات مختنقا بجوع فطري لعلبة حليب او قارورة دواء عز على المسحوقين شرائها،،وبكينا في وسط الحضرة حين وجدنا امرأة تحمل طفلا يصارع الموت البطيء بلا أمل في القلب،،تغسل بالدمع كلمات التضرع المشدودة بحبال اليأس،،
كنا نقتسم الدمعات يا نجمة،،، تحفر في شحوبنا أخدودا يسكنه الحزن الأزلي والفرح الساخر الذي يمر على عجل ،، نصنع فرحا وهميا يتخطى حد الإدراك،،نؤلف نكاتا في ليلات الحر على سطح صيفي تتقاسمه الجثث المرهقة للزميلات بعد نهار دراسي متعب،،نضحك خلسة ،،ونسميهن بأسماء حركية تحاكي الاطباع التي كانت تصل في غرابة تفاصيلها حد المفارقة الساخرة،،او تذكرين العذراء،،تلك ال(نسرون) التي حرفنا اسمها بسبب طقوسها الغذائية العجيبة،،وشراشفها البيضاء التي تحتل حبال الغسيل مفترضين أنها لفائف طفل تخفيه في مغارتها العجيبة في ذلك المكان النائي تحت السلم،،
او تلك الفارة التي رسمتها على الحائط المقابل لسريري يوم طلبت مني ان نتبادل الأسرّة لليلة واحدة لانني جلبت شرشفا أعجبك،،وحلمتِ يومها أنها تركض وراءك ،،
يا نجمة،،من سيلبي مواعيد التيه في مدينة الأحزان،،وانت لملمت على عجل قبل الخمسين أوراقك ومضيت،،تاركة اوجاعا تشبه أوجاع الكونشيرتو الذي احببتي يوم قضينا نهارا صيفيا نبحث عن محل بيع أشرطة السيمفونيات في الباب الشرقي،،ووجدناه بعد عناء،،عدنا نحمل تاسعة بيتهوفن وأخرى لم نعرف اسمها لفاكنر،،وفي واحدة من احلى المفارقات التي عدنا فيها من مشوار الترف السمفوني اشترينا كيسا من الباقلاء من عربة بائع متجول في باب المعظم في واحدة من مرات لا تحصى من التمازج الغريب بين المتناقضات التي اعتدنا صناعتها لتضيف لأيام حياتنا المتعبة معنى لم نألفه،،،!!!
سكتت اوتارك يا قيثارة الحزن البغدادي الأزلي بلا سابق اشعار،،وتمزق صوت الألحان،،
من يا نجمة سيكتب عنا قصصا وحكايا في دفتر يوميات الحزن الذي قررت ان تملئيه بمن تحبين،،من يذكرني قصة وجد لا تعرف نهاياتها أبوابا مغلقة في وجه الآتي،،من يا قيثارة صحبي وعزف أحبتي في اخر أيام الياسمين في حديقة العمر التي قاربت مواسمها على الرحيل،،،