عندما نستحضر مقالات العملاق محسن حسين الذي خط لنفسه نهجا مختصا بتاريخ العراق الحديث بشكل ممتع ومشوق، او حسن العلوي وفكره الذي يزخر به واراءه الجريئة بغض النظر ان كنا نتفق او نختلف معه، او المقالات الساخرة التي كان يكتبها الصحفي الساخر داود الفرحان، يصيبنا الغثيان من ما تسمى مقالات عصرنا الحاضر التي يكتبها البعض (اؤكد على البعض)، لفقدانها ابسط مقومات البنية الصحيحة للمقال.
وهناك جيل اخر يعدون امتداد لهؤلاء العمالقة ويمكن ان نفخر بهم كفخرنا بالذين قبلهم، مثل مقالات الدكتور طه جزاع، واسلوبه الاكاديمي الممتع، والمحلل البارع حمزه مصطفى، وصاحب الخزين الثقافي التراثي رباح ال جعفر، وكذلك لا ننسى كاتب عمود (نص ردن) في صحيفة المدى الاستاذ علاء حسن.
المؤسف بالامر ان ما دون هؤلاء، حبس ما يسمون بكتاب المقالات انفسهم بين جدرات المواقف لارضاء الجهة الفلانية او العلانية للتقرب منها، باسلوب فاقد للفكر والمعرفة والخزين الثقافي، وخاصة بما يخص الصراع بين امريكا وايران ومدى علاقة العراق به.
لكن عندما نتوقف عند مقالات الاستاذ رباح ال جعفر، تشعر بانه سلك مسلك خاص به وسد فراغ كبير للصحافة العراقية واتصالها بالمجتمع، وهو الاسلوب التاريخي التراثي، الذي لم يغور في بحوره الا عدد قليل مثل الدكتور علي النشمي، وفي الاونة الاخيرة المحامي طارق حرب الذي اختص بالتراث البغدادي على وجه الخصوص.
عندما تطلع على مقالات ال جعفر اول ما تشعر به هو سعة الثقافة الى حد الامتلاء والتخمة، وكأنه لم يترك كتابا او تراثا للعراق والعرب الا واطلع عليه، والاجمل ان ال جعفر لم يترك فرصة لكل خزينه الثقافي الا وربطه بعصرنا الحالي والاحداث التي تجري فيه باسلوب شيق، وبعضه مشاكس بالمباشر او بالتلويح.
ان هذه الثلة المثقفة الخيرة مثل ال جعفر، جديرة بان تكون الوجه الحقيقي للثقافة العراقية، وقدرتها ليس على مجاراة الثقافات الاخرى بين دول المنطقة فحسب، انما التفوق عليها، فالكاتب الحقيقي عندما يكون عراقيا يختلف ان يكون من جنسية اخرى، فالحديث عن العراق يعني الحديث عن العلم والثقافة والتراث والتاريخ، وعندما يكون كاتبا كبيرا بمستوى ال جعفر عراقيا، فيعني انه الاجدر بتمثيل هذا البلد العظيم.
وهنا لا يسعني الا ان الفت انظار الطبقة المثقفة العراقية، الى متابعة كل هؤلاء، وبالذات ال جعفر ليستمتعوا بهذا الكم الهائل من المعرفة التي اغدقوا بها علينا، وبينوا الوجه الحقيقي للمثقف العراقي، الذي بوجودهم لا يموت بوسط الكم الهائل من ما يسمون انفسهم كتاب.