قبل أيام ، أطل علينا من إحدى الفضائيات ، من يدعي انه ” ناشط مدني” أو ممن يدعمون توجهات شباب تشرين ، وقد أشار في مضمون ما تحدث عنه، برغم أن ” كرشه ” يتقدمه، الى أن كل الافكار والعقائد التي ظهرت منذ عقود مضت ، حسبما يزعم، قد سقطت كلها وتلاشت، ويذكر منها : منظري الشيوعية وفكرها الماركسي والقومية واحزابها العروبية والدينية والليبرالية ، ولم يعد من وجهة نظره، سوى توجهات شباب تشرين ، بأنها هي الكفيلة بحل إشكالات الواقع العراقي، وهنا لابد وأن نشير الى جملة معطيات ، لا تتفق مع وجهة النظر هذه..ندرجها على الشكل التالي:
1. أن نشأة الأمم وتطور أجيالها لايمكن أن تنهض وان تستمر بدون ” إطار فكري ونظري ومنهجي” يتلائم وعقيدة تلك الأمة أو الدولة التي يراد لها أن تنهض، والفكر عموما ، هو الذي أسهم ببلورة نشأة الأمم وتطورها ، وهو من وضع لها ستراتيجية تحركها وتقدمها ونهوضها، وبخاصة اذا كان الفكر يولد من رحم الأمة ومن منهجها العقائدي الذي آمنت به على أنه قدرها الذي لايمكن أن تحيد عنه، وهو ما هيىء لها أن تترسخ عقائدها ، بالرغم من كل ما واجهها من أساليب تآمر وتكالب قوى ، حاولت أن تحول دون تقدم بعض الأمم الحية، وبخاصة أمتنا العربية والاسلامية التي ، تكاد تنفرد من بين كل الأمم ، بأنها هي التي بقي فكرها متوهجا على الدوام، وهي قد غرست جذور فكرها في أعماق الأرض ، وليس بمقدور كائن من يكون، إقتلاع هذا الفكر او إجتثاثه ، كونه لايخص جيلا بعينه او مرحلة تاريخية بعينها، بل هو قدر حتمي فرضته طبيعة الأمة العربية ذات الهوية الإسلامية، وان الحركات الاسلامية أو حتى القومية التي شوهت بعض مضامينها، لايمكنها ان تستمر في حملات التضليل، دون أن تسقط خارج التاريخ، إن وجدت فيها النخب المثقفة أنها بدأت تنحرف عن خط توجهها بما يسبب أضرارا كبيرة بالمستقبل العربي.
2. بالرغم من أن هناك دولا تقدمت وسارت في ركوب التقدم المذهل بدون تاريخ وفكر أصيل ، الا أن تلك الدول ما إن تشيخ وتهرم، حتى ينتهي دورها ، لأنها بلا عقائد فكرية تستلهمها الأجيال، وهي كمن وضع بيتا بلا أساس قوي ، ما إن يتقدم به العمر ، واذا به يتهاوى ويصبح من ذكريات الماضي، أما الأمم الحية ذات التاريخ الفكري الغاطس في أعماق التاريخ والمتجذر في عقل الامة وفي وعيها وروحها ، فهي تبقى تشع بنورها ، ويمكن ان تولد من جديد وتنهض كلما تعرضت الى ” كبوة ” هنا أو تحد خطير، وليس بمقدور أحد أن ينكر دور قوميته التي ولد بين أحضانها ، او ينسلخ عنها، والأمة العربية وحتى الأمم الفارسية والهندية وأمم الغرب الحية ، ذات الارث التاريخي، لابد وان يكون لها حضور مستقبلي ، تخدم أجيالها، وبدون الفكر والقيم الروحية لن يكون للانسان من طعم او قيمة إعتبارية يفخر بها ، لتكون له معينا وزادا روحيا في الملمات تعينه على النهوض، عندما يسترجع قواه، ليعلي مسيرة شعبه وأمته وينهض بها نحو الأعالي.
3. ليس هناك اي شك بأن ثورة تشرين الشبابية الحالية ، هي إنتقالة نوعية ، لكنها بقيت أحيانا ، وكانها أرادت أن تتنصل عن كل تاريخها ووهجها الفكري والقيمي الذي سبقهم بقرون، وتنكرت لكثير من تاريخ أمة ونضال أجيال، وكأنها هي الوحيدة التي ستقود مسيرة الأجيال الى النهوض، دون ان تستند على أساس فكري يضع لها إطارا منهجيا لفكرها الثوري، الذي يواجه أشرس معركة في تاريخ العراق، وهم من أعادوا لنا الثقة بقدرتهم على تحقيق تقدم ملحوظ بمسار تاريخ العراق والمنطقة، الا انه ما إن خمدت حركة الاحتجاجات وحاولت الحكومة وجهات سياسية قمعها واطفاء جذوتها، حتى فقد الكثيرون الأمل بأن يتحقق شئ ملموس، ينحو باتجاه تغيير يعيد التوازن الى المعادلة العراقية التي أصابتها حالات إختلال وهزات عنيفة، حالت دون تمكن الأجيال العراقية من استعادة دورها ، كما طغى العامل المادي والمصلحي والمطلبي المؤقت على قطاعات من شباب تشرين وحولتهم بعض القوى من ثوار أنقياء الى باحثين عن أطماع شخصية، واستغلت الحكومة والجهات السياسية توجهات من هذا النوع، كي تخلق حالة إنشقاق في التوجهات لدى الشباب الثائر، بأن غلبت مصالحهم الشخصية والتلويح لهم بوظائف وفرص عمل، بعد أن شعرت تلك الجهات بأن بقاء هذا المد الجماهيري سيشجع على إتساع قاعدته وربما ستهتز عروشهم وتتقهقر، حتى راحت تبحث عن وسائل تخدير وتضليل وحرف عن المسارات، لتفرق الساحات وتفرغها من جمهورها، وهو ما نراه يحدث في عموم ساحات العراق، بالرغم من أن أحرار الناصرية كانوا الأشد وطاة في بقاء مرتكزاتهم أقوى واكثر قدرة على إثبات وجودهم، وبخاصة أن الناصرية كانت على الدوام هي موئل انطلاقة الأفكار الثورية ، ومن أرضها خرجت آلاف النخب الفكرية التي اضاءت مسيرة الشموخ العراقي، وهي بالرغم مما أصاب ساحتها من فتور، الا أن وهجها سيبقى قويا، وشعلتها لن تنطفيء، مادام فيها أحرار يحملون الراية، وقد أثبتوا أنهم الاكثر صلابة من بين كل الساحات التي ما إن تعيد الناصرية وهجها ، حتى تشتعل بقية الساحات القريبة، ويستعيد شباب تشرين بعض إنطلاقتهم، وبسبب حدة ما يواجهونه من ارهاب وتطويق وقتل وترويع، نرى أن هناك حالات خور وفتور، تسود بين آونة واخرى، لإفتقارهم الى مرتكز فكري يوحد صفوفهم، ويحافظ على هويتهم العراقية العروبية، ليتجه بها الى حيث يطمح العراقيون ، بأن يروا أجيالهم الشبابية الجديدة، وقد أعادت لهم الاعتبار لشعبهم، لكي لايقال أن العراق أصبح الآن خارج التاريخ.
وما اردنا ان نقوله في خاتمة هذا الاستعراض ان الشباب يبقى في كل الاحوال بحاجة الى منظرين للفكر والتوجهات ، وان يتأطر الفكر ضمن سياق فكري لاينقطع كليا عن الماضي وينحاز للحاضر وحده، ولابد للفكر ان يتبلور ضمن توجهات الشباب وممارساتهم ، لكي يكتسبوا قوة روحية وقيمية تمنحهم زخما أكبر في المواجهة والقدرة على الثبات، إن ارادوا ان تكون لهم دالة يحفظها لهم التاريخ، بأنهم كانوا مشاعل انطلاق ، بنت اساسا فكريا راسخا للأجيال، وليس بمقدور أي كان ، ان يزحزح من مكانتهم ودورهم، وهم إن واجهوا كبوة او تراجعا في الدور، فإنهم سرعان ما يستعيدون دورهم، ويكون لهم شأن في مستقبل هذا الشعب الذي يعلق عليهم الآمال بان يكونوا هم القدوة في إحداث التغيير المطلوب.