18 ديسمبر، 2024 9:12 م

أيام ثورة اكتوبر التي اندلعت في الخامس والعشرين من الشهر عام 2011 ، كنت مقيما في مصر للعمل وشهدت تفاصيل ماقبل الثورة وايام توتر الاوضاع الذي رافقها ،ما دعا زملاءنا المصريين الذين يتناوبون على العمل الى المبيت حتى يأتي بُدلاؤهم، لأنّ المجيء غير مضمون في ظل الأجواء التي سادت وانقطاع الطرق وعوائق عدة.

سألت (عمرو) وهو شاب مصري مكافح وزميل لنا ،كانَ عامل نظافة : كيف شايف الأمورياعمرو ؟ ماشية ازّاي؟ رايحه لفين ؟ أجابني : إن شالله خير يا استاز.. المهم ده ما يأثّرش على اقتصاد مصر ؟! فعلا دهشت! عامل بسيط يتقاضى مرتباً ضئيلاً يفكر باقتصاد مصر ! يفكّر باستقرارها وأمنها، بالسياحة فيها التي هي مصدر أساسي لدخلِها .

وانا أعيش بين أخوة مصريين شباب وبنات من مناطق وتخصصات وظروف مختلفة،فضلا عن اتصالاتي وعلاقاتي بنخب من الإعلاميين والأدباء والصحفيين من تلك البلاد الطيبة . اكتشف مع كل موقف بالتجربة والمعايشة حقيقة ربما انتبه لها الكثير ولم ينتبه لها البعض .. أنّ المصريين على اختلافاتهم ومستوياتهم المعيشية وميولهم الايديولوجية بل حتى عداواتهم فيما بينهم لأسباب سياسية ، جميعهم يحبون مصر (بطريقة واحدة) .مصر بالنسبة لهم هي الخط الأحمر للاختلاف، هي القاسم المشترك لجميع المصريين .

ربما يبدو هذا الأمر طبيعياً فكل شعب يحب بلده . نعم كل شعب في الأرض يحب وطنه .. لكن المختلف حين يحب افراد الشعب بلدهم بطرقهم الخاصة وليس بطريقة واحدة ، في مصر تجد مبارك والظواهري الذي يعاديه، تجد السيسي والأخواني الذي اطاح بسلطته، تجد العسكريّ والمدني، المسلم والقبطي، ابن القاهرة والاسكندرية والفيوم وابن سيناء والصِعيد وكل خلطة الاختلاف والتناقض هذه،كلهم يحبون مصر بنفس الطريقة وبذات المستوى من الحماس فيما نحب نحن بلادنا وحضارتها الأقدم من جميع العقائد والتفاصيل اللاحقة، ( بطرق مختلفة). حبّاً يتدخل فيه الميول والتبعية والانتماء الطائفي والديني والمناطقي كالريف والمدينة،نحب أفضليتَنا فيها أكثر مانحبها ذاتها، ولذلك للأسف لم يعد العراق ومصلحته قاسماً مشتركا للجميع. كل فئة صغيرة أو كبيرة لها عراقها الذي تحبُه وتكره (عراق) العراقيين الآخرين، بل تعمل على الحطّ من مكانته . ويمكنك ببساطة ان تتأملَ قائمة (العراقات) الكثيرة على وفق هذه الفرضية.

الإحساس بوحدة المكان ووحدة المجتمع شعور داخلي قبل أن يكونَ توافقا مع الآخر. قوة الوطن في القلب هذه تجدها في مصر ..مصر التي كلما ابتعدتَ عنها تعرف عظمتها وأثرها في الوجود ، وتعرفُ كلّما اقتربتَ منها جمال شعبِها واصراره على الحياة .وكأنّ كلّ مصري هو وريثٌ مباشر لطباع وابتكار وتحمل أولئك الذين بَنوا تلك الحضارة العملاقة. وأنّ أيّ مصري صغيراً كان أم كبيراً امراة، رجلا، فقيراً، غنياً، مواليا للسلطة أومعارضا لها، يخاف على مصر ويخشى اضعافَها ويعرفُ جيداً أنّ بلاده عظيمة محاطة بجميع أنواع الاعداء ودرجات العداء دون استثناء. وأنّها وحدها الضمانةُ الوحيدة لكرامته.

مناسبة هذا الكلام هي ماعليه مصر الأمس ومصر اليوم ، مصر المعنى وليست مصر السياسية ..مصر التي لم تبْقَ قومية أو دين أو عرق قريب وبعيد الا وغاصَ في عَسلِها وجرّبَ احتواءَها وسرقة هويتها، متوهمين طيبة أهلها غفولاً، وصبرَهم تهاوناً وذكاءَهم خداعاً، وأن الفرعونية الجبّارة الخالدة يمكنُ أن تتنازلَ عن انتسابها لنفسها.

الفرعونية العظيمة هذه نفخت في الروح من جديد وهي تعزف على اعصاب العالم موسيقاها وتعانق السماء برقصاتها الروحية لتوقظ بمصرية فصيحة ملكاتِها وملوكَها الاسطوريين من غفوتِهم الهانئة قليلاً بعد الاف السنين في متحف مصر القديم الذي ضاقت بناياتُه بعظمةِ نزلائه، لتنقل اقامتَهم في بهاء منقطع النظير الى ما يليق بهم في منتجع معماري فريد يليق بالخلود ، بحياة أبدية تسري في دماء مصر،وتنبضُ في عروقِ البشرية كلها الى الأبد.