إن الظرف الذي يمر به العراق اليوم لهو أمر في غاية التعقيد والغموض، لتشابك حالاته وملفاته وأبجدية قراءته التي لا يمكن الإمساك بتلابيبها حتى وإن توفرت لدى المحلل الخبير ببواطن الأمور، مرجعية لا يستهان بها وقدرة تحليل واسعة وكفيلة بتفكيك أي حالة اشتباك، سياسية كانت أم اقتصادية أم أمنية وما الى ذلك من حالات تتحكم بوضع أي بلد بكل مساربه وتفاصيله ومكونات وجوده داخليا وخارجيا، ونحن هنا ومن باب الاقتراب لسريالية الأوضاع التي يمر بها العراق، لم يعد أمام المتابع الحريص لوضع النقاط على الحروف، ليعيد ترتيب الملفات رغم تقيداتها وغموضها وعدم استقرارها وافتقارها لأبسط حالات الموضوعية، مما حدا بأي متابع أن يرمي بشباكه على عواهنه، بعيدا عما هو مألوف من تناول موضوعي يمكن أن يريح الكاتب والمحلل والمراقب، الحامل لهموم الوطن، وهو يراقب ما يحدث من طلاسمية غير مفهومة على الاطلاق، وعادت كل المحاولات في تناول هكذا أمور ضربا من التخمين والمغامرة غير محسومة النتائج.
وما محاولاتنا في التصدي لما يجري في العراق، سوى مجرد تفريغ لاحتقان يتعاظم يوميا، لندلو بدلونا ونزيح عنا مسؤولية ألا نلوذ بالصمت ونبقى نتفرج لمهازل الداخل، لئلا يلومنا الآخرون بأن مهمة المثقفين لم تكن بمستوى ما يجري، وعليهم توجيه اقلامهم وهي سلاحهم الوحيد لمواجهة الحالات الشاذة والمخزية التي تقوم بها مجاميع مارقة نذرت نفسها لإيقاف أي تطور لإحداث نقلات نوعية لبلد يرزح تحت رحمة الطغاة والحاقدين والفاسدين والطائفيين وهلم عدا وتوصيفا لعقود من المحن والويلات والمغامرات والخيانات وتفاهة من يقود دفة الحكم وسلطة القرار.
وجوابا على السؤال الذي يتصدر المقال، يبدو للقارئ، أننا سنتوصل الى تصورات شبه ناجعة ممكن أن تزيح الغبار المتراكم منذ العام 2003 عن وضع العراق الغارق في الضياع والتشتت وغياب الرؤيا.
فالنسيج المجتمعي مفكك، وسلطة الدولة غائبة تماما، ومجموعة الأحزاب والكتل الإسلامية هي التي تتحكم بسلطة القرار، وكل حزب أو مكون أو كتلة لها فصيلها المسلح ومليشياتها المتحكمة بالأمن الذي تراه هي من أجل بقائها وبسط هيمنتها والتلاعب بمقدرات البلد من حيث وضع اليد على مصادر ثروته وخيراته والتحكم بالمطلق باقتصاده وغياب تنميته ولها القرار الفصل في وضع اليد على عائدات المنافذ وبيع البترول وتوزيع الوظائف على المطبلين لها من الأحبة والمصفقين، وتعطيل تحريك البنى التحتية وتعميق توجه الاقتصاد الريعي البعيد عن بناء البلد واحياء الصناعة التي اجهضوها والزراعة التي خربوها والسياحة التي اوقفوها والثقافة التي مسخوها وغيرها من الإجراءات التي حالت دون احداث نقلات نوعية في بلد يحتاج الى تدخل حاسم ونوعي في كل مفصل من مفاصله وإعادة بنائه فتركوا الحبل على الغارب، وكأنهم غير موجودين في بلد عريق وكبير في تاريخه وموقعه وهيبته وحضارته ووجوده الفاعل والمؤثر، بلد اسمه عراق كان كل من يسمع هذا الاسم المدوي ينحني اجلالا له ولماضيه المشرف.
ترى أي مخلوقات هذه التي حولت وتغالي في تحويل هذا الوطن العريق الى مجرد جغرافيا لأرضٍ قاحلة لا معنى لها بإشاعة كل حالات التردي والتخلف والمعاداة وإيقاف عجلة التقدم، والأنكى من كل ذلك، توظيف أسلحتها وتوجيهها صوب صدور من يعترض على افعالها وسلوكاتها وانفلاتها ودفاعها عن الفاسدين واعداء الوطن، بدعوى الدفاع عن المذهب وبيافطات ومسميات دينية، وحاشى للدين أن يبارك لهم افعالهم المرفوضة واللا إنسانية، كونه حالة روحية لا غير.
ننقل هنا هذه الفقرة للرفيق رائد فهمي من لقاء أُجري معه مؤخرا، يشخّص فيها بعض الخلل في بنية الدولة العراقية وطريقة الخروج من المحنة التي يمر بها العراق، فيقول:
” الفساد أصبح عقبة في طريق اي نمو، البناء السياسي في البلد والمؤسسات الغائبة… كل هذه اصبحت حالة بالغة الهشاشة، لذلك نقول ان التغيير أصبح ضرورة ملحة ومفترق طرق. ما لم يحدث التغيير فسيظل البلد يسير تحت رحمة نفس النهج المدمر، نهج المحاصصة والفساد، ونهج التفريط بموارد البلد. وهذا يؤدي الى معاناة بالغة الخطورة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وبالتالي ففي ظل هذه الاوضاع، يرسم حزبنا سياساته وتوجهاته ويحدد المهام الملحة والتحديات التي أمامه وأمام الوطن”.
هنا ينبغي التفكير في التخلص من هذه المحنة التي تضرب بقوة وتتعمق في العراق، مثل المحاصصة التي دمرت النسيج العراقي، والطائفية التي مزقت اللحمة الوطنية، وإشاعة الفساد المتنامي بشكل خطير وباستهتار ما بعده ضياع، وانتشار السلاح المنفلت وغير المنفلت الذي يصول ويجول ويهدد المجتمع العراقي بكامله، وكأننا عدنا الى عهد الطاغية وفصائله المجرمة، بأفعالها البلطجية المعروفة للجميع، ووضع اليد على الاقتصاد العراقي الذي تذهب حركة أمواله لجيوب الفاسدين والاذرع المسلحة ومن ورائها كبار الناهبين من متسيّدي سلطة القرار، وهكذا بات تعدد مساوئ الأوضاع أمرا متعبا ويشتت من يريد وضع اصبعه على الخلل.
إذن ما عاد امام العراقيين، وخصوصا شباب ثورة تشرين المباركة وكل المتضررين من هذه السياسات الهوجاء وغير المسؤولة وغير المدركة لخطورة افعالها، ما لهم من حل الا السعي الحثيث والمتواصل بالتغيير الجذري، لإزاحة تلك الحالات الشاذة والشائنة والتي اذا ما بقيت جاثمة على صدور العراقيين وتتحكم بمقدرات البلاد وخبزة العباد، فأن تتمة الخراب قادمة لا شك في ذلك، بعد أن يشعر المخربون بأن لسعة الحريق قد وصلتهم، ليحملوا اثقالهم للهروب من المساءلة الشعبية والتي ستكون مريرة عليهم.
ونحن هنا نرفض بالمطلق المواجهات الدموية التي لا تُبقي ولا تذر، إنما بأسهل وانجع الطرق المتيسرة لدى العراقيين، تلك هي صناديق الاقتراع التي من شأنها أن تزيح الغُمة الجاثمة على صدورهم، شريطة السعي بالضغط على الحكومة، وعلى رأسها رئيس مجلس الوزراء، على سحب السلاح بالكامل وأينما كان، وإيجاد هيئة انتخابات وطنية نزيهة وبإشراف دولي بتدخل فاعل ومؤثر، وحصول الناخبين على البطاقة البايومترية وهي اشد ما يخيف المزورين، وقبل كل شيء، اصدار قوانين صارمة تجرّم توظيف الأموال لاستمالة وشراء ضعاف النفوس، وغيرها من الإجراءات التي ستحقق نقلة نوعية في تنظيف الوضع السياسي وازاحة النتن الذي سعى ويسعى لبسط سلطته لتخريب ما تبقى من أمل لإعادة العراق لوضعه الطبيعي.
هنا نؤكد وبقوة على التلاحم الجماهيري وتكثيف التقارب المجتمعي بين كافة القوى الحية في المجتمع المدني، وإيجاد مشتركات أساسها لّلحمة الوطنية والمصالح العليا، إذا ما أريد للتغيير الحقيقي أن يحصل في العراق، وما الحراك الذي تقوده القوى المدنية الحية مؤخرا، إلا خطوات مباركة ينبغي أن تتكثف وتتوسع لتساهم في نشر الوعي المثمر للتغيير، ونحن بانتظار الخروج من هذه المحنة التي تتعاظم يوميا، وسيكون العرس الوطني لولادة عراق جديد.