عند دراسة العلاقة بين السياسي والمجتمع العراقي بعد العام 2003 ارىمن الضروري دراسة هذه الحال والبحث فيها، خاصة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد، كسبيل امثل لحل المشاكل واصلاح العملية السياسية وكشف عيوبها ومخاطرها وهويات من يقف وراء تعثرها وعرقلتها . وقد تبين ان العلاقة الحقيقية بين السياسي والمجتمع في العراق لم تنضج بعد، لاسباب كثيرة من بينها وابرزها ضعف الوعي الوطني بمفهومه العام والشامل واقتصاره على المصلحة الفردية سواء من قبل المواطن او السياسي على حد سواء، ومع ان الكثير من السياسين والمواطنين الذين نلتقيهم يصرحون بان المصلحة الوطنية العامة هي العليا والاهم لديهم، الا ان مايلمس بوضوح يوميا ان العلاقة بين الطرفين قائمة على المصالح الشخصية غير القانونية او انها قانونية يتبادلها الطرفان بطرق غير قانونية .
هناك ما يشبه عقد العمل في ماهية العلاقة بين السياسي والمجتمع، اذ يقوم السياسي بموجب هذا العقد برسم السياسات العامة للبلاد والعمل على تنفيذها وادارتها وفقا لرؤيةٍ علميّةٍ عمليّة كانت قد تشكلت لديه بحكم تجاربه وخبراته وقدراته على الخلق والابداع، وهو يعمل على تنفيذها من خلال صلاحيات حددها له الدستور والقوانين النافذة او التي سوف يتم تشريعها، ومقابل عمله هذا يتقاضى السياسي اجرا معلوما، والعقد بين السياسي والمجتمع متمثل بالدستور والقوانين الناظمة للحياة السياسية التي كان الشعب مصدر تشريعها . وتتجلى هذه العلاقة في نموذجين، الاول ما نصت عليه القوانين والانظمة وهو محدد وواضح وملزم للسياسي، والثاني ما تفرضه الاعراف والتقاليد الاجتماعية والديانات وهذا النموذج يختلف باختلاف المجتمعات، اذ نجد الاعراف ” مثلا” تحكم دولة مثل بريطانيا، وبالمقابل نرى دولا متخلّفة لمّا تزل تحكمها الاعراف والتقاليد الاجتماعية والدينية . وفي دول اخرى تتم المزاوجة ما بين القوانين المدنية المعاصرة والاعراف والتقاليد كما في الاردن مثلا . وفي كل الحالات تمثل الاعراف والتقاليد مرجعا مهما جدا من مراجع العلاقة بين السياسي ومجتمعه . وتبقى العلاقة بينهما احدى القضايا المركزية في علم السياسة والمجتمع معا وتمثل العلاقة بينهما ايضا محورا اساسيا في النظريات والاتجاهات الفكرية كافة.
تُبنى علاقة السياسي العراقي بمجتمعه على قواعد ومرجعيات كثيرة وتصنف على نوعين الاول نستطيع ان نطلق عليه المرجعيات الرسمية “أي القانونية” التي وردت في الدستور والقوانين النافذة وتم من خلالها بيان نوع هذه العلاقة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات لكلا الطرفين، اذ نجد الدستور مثلا قام بوصف نظام الحكم وتحديد الحقوق والحريات التي يتوجب على السياسي تحقيقها لافراد المجتمع وبالمقابل اعطى صلاحيات للسياسي وحمله مسؤوليات. فقد ورد في الدستور العراقي وصف عام لتلك العلاقة من خلال وصف شكل نظام الحكم في الدولة العراقية حسب المادة (1 ) التي تقول: “جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي” ويمثل هذا الوصف الاطار العام لشكل الدولة وللعلاقة بين السياسي والمجتمع والتي لا ينبغي لكلا الطرفين تجاوزها والعمل خارج حدودها . وقد حدد الدستور العراقي الحقوق المدنية والسياسية بشكل عام في الفقرة (14 ) من اولا – العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس او العرق او القومية او الاصل او اللون او الدين او المذهب او المعتقد او الرأي او الوضع الاقتصادي او الاجتماعي – وهذه الحقوق هي اطار عام ينظم ويضبط علاقة السياسي بمجتمعه افرادا وجماعات . كما حدد الدستور الكثير من الحقوق والحريات التي تمثل جوهر العلاقة بين السياسي والمجتمع ومنها (لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية … تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين … للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح … العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة. ( ونراقب هنا التوصيف الصريح لبعض جوانب العلاقة حين يقول الدستور “تكفل الدولة حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الاموال العراقية بين الاقاليم والمحافظات . تكفل الدولة حماية الامومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشئ والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم . ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع . التعليم عامل اساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة، وهو الزامي في المرحلة الابتدائية، وتكفل الدولة مكافحة الامية . وتلتزم ان يكون التعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله. ) وتظل العلاقة متجسدة في الدستور في كثير من مواده ان لم تكن في جميعها ولو بشكل غير مباشر ..
والى جانب هذه المرجعيات القانونية للعلاقة بين السياسي والمجتمع ” في العراق” هناك مرجعيات اخرى مثل الدين والعشيرة والجماعة وتتمثل هذه العلاقة بالتقاليد والاعراف التي لا تتعارض مع القانون ومنها العلاقة بالعشيرة والدين والمنطقة، اذ غالبا ما يعمل السياسي على تحقيق مصالح مجموعة معينة ترتبط معه في مصالح متبادلة . ابرزها منحه الثقة في الانتخابات من قِبل شريحة معينة كأن تكون عشيرته او ابناء منطقته او ابناء طائفته او ممن يشاركونه الايدلوجيا والاهداف والافكار، وبالمقابل نجد المجتمع متماهيا وداعما للسياسي الذي ينتمي له او يحقق مصالحه، وتتمدد هذه العلاقة لتحكم الطرفين تحت مظلة العرف الاجتماعي او الديني بدون تحقق المصالح بين الطرفين بل تذهب بالعلاقة الى خارج القانون احيانا . عندما ننظر الى طبيعة الالتزامات في المجتمع الذي يفرض على السياسي الانتصار الى سلوك ما يعده المجتمع تقليدا او سنّة مثل سُنن الدية ” الفصل” وجرائم الشرف وقدسية الملبس وغيرها . مع كل هذا تبين لنا من خلال الدورتين الانتخابيتين الاخرتين في العراق، ان العلاقة بين السياسي والمجتمع جنحت نحو المصالح الشخصية او الحزبية التي تحقق المصالح الشخصية، فبات واضحا ان السياسين باجمعهم تقريبا انما تقدموا للعمل السياسي من دافع الحصول على السلطة والمال والجاه او بعض هذه المكاسب وخاصة المال والجاه اللذين توفرهما السلطة التي باتت الهدف الاول للسياسي العراقي لانها الاداة الامثل لتحقيق المصالح، وشرعنا نرى كيف يرشي السياسي الناخبين للحصول على اصواتهم من خلال منحهم المال النقدي او العيني او من خلال منحهم حقوقا ليست لهم بل لآخرين كتقديمهم على المستحقين للوظائف في الدولة او في الحقوق الاخرى في الصحة والتعليم وغيرها . ومقابل رشى السياسي للناخبين (المواطنين) اصبحنا نرى المواطن وهو يرشي السياسي مقابل حصوله على حقوقه الاصيلة التي لا يستطيع نيلها دون تدخل السياسي او مقابل مكاسب غير شرعية .. وهذا النوع من العلاقة اذا ما قُدر له ان يستمر ” وهو كذلك” فانه سوف يلغي مفهوم العدالة الاجتماعية والكفاءة الوظيفية وفي نهاية المطاف يلغي واقع الدولة والمواطنة، ويبني مفهوم الصراع وحال البقاء للاقوى، تحت مظلة شرعية هي الدستور والقوانين .
والى جانب كل هذا نجد ثمة مرجعية اخرى متميزة، بين السياسي والمجتمع متمثلة بمنظمات المجتمع المدني التي تشكل مرجعية وسطيّة بين الطرفين . وقد شهدنا كيف استطاعت هذه المنظمات اجبار البرلمان على انهاء جلسته المفتوحة بداية دورته الانتخابية الحالية من خلال عملها مع القضاء . ولكن هل توجد في العراق منظمات مجتمع مدني حقيقية قادرة على مراقبة العملية السياسية وتعديل مساراتها ..؟ ولو حصل ذلك فانه ستكون حالا تدل على ان العراق دخل معترك الديمقراطية وفعّل حتى السلطة الخامسة “أي منظمات المجتمع المدني”. ولتكون ثقافة وادبيات وعمل هذه المنظمات جزءا من العلاقة بين السياسي العراقي ومجتمعه وهي بمثابة جهات رقابية وتصحيحية للمسار السياسي والتأهيل العام للمجتمع وسياسييه . ولكن الواقع يؤكد لنا باستمرار ان غالبية منظمات المجتمع المدني العاملة بين الناس هي ” دكاكين” للارتزاق وتحقيق مصالح القائمين عليها، وان القليل الباقي من منظمات المجتمع المدني هي على حالتين . الاولى منظمات كبرى تعتمد على المال العام الوطني واموال منظمات دولية وتعتمد على نافذين للحصول على هذه الاموال وهي تحقق اجنداتهم الخاصة . اما الحال الثانية فهي المنظمات التي تموّل وتدعم من قبل جهات سرية ” مخابرات دولية،، منظمات ارهابية،، دول اقليمية او اجنبية، وهذه المنظمات هي الاخطر على البلاد ..
الى ذلك، تضاف قضايا كثيرة ينبغي معالجتها موضوع العلاقة بين السياسي العراقي ومجتمعه، ومن بينها العدد الكبير لاعضاء مجالس الاقضية والنواحي والذين تم تعينهم ولم ينتخبوا (اي غير شرعيين) ولمّا يزالوا يمارسون عملهم منذ عشر سنوات تقريبا ويتقاضون رواتب كبيرة وعليه يجب ان تُجري انتخابات مجالس الاقضية والنواحي او تلغى، ولا انسى ان السياسية افرزت المئات ممن تقاعدوا على حساب المال العام تحت مسمى ” اعضاء مجالس بلدية ومجالس نواحي واقضية ومجالس محافظات ناهيك عن اعضاء مجلس النواب ” واستطيع القول في الختام ان اعمدة العملية السياسية في اية محافظة هم اعضاء مجلسها ومحافظها، واستطيع القول ايضا وبثقة : ان هؤلاء الاعضاء – اي اعضاء مجلس المحافظة – مع المحافظ رشحوا انفسهم وانتخبوا ليكونوا امراء مترفين محصنين يحاسِبون ولا يُحاسبُون وليسوا مسؤولين مكلفين يخدمون المجتمع ويُحاسبون على خطاياهم واخطائهم وفسادهم، وهنا نتلمس اهم العلل في طبيعة او حال العلاقة بين السياسي العراقي ومجتمعه