ما بين التاريخ والجغرافية تتأرجح كوردستان الوطن والقضية منذ أكثر من قرن من الزمان بين بقايا ثلاث إمبراطوريات حكمت هذا العالم وشاخت، بل وغابت عنها الشمس حتى اضمحلت وتحولت إلى دويلات تتقاتل من أجل إعادة أمجادها التي ذهبت أدراج الرياح، وما زلتُ أتذكرُ كما الآن حوار صحفي أجري في أواخر عام 1979 م، مع زبيغنيو بريجنسكي وكان في حينها مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، حينذاك تحدث عن أزمة الشرق الأوسط في برنامج تلفزيوني أمريكي، مشيراً إلى مناطق مؤهلة للالتهاب الشديد غير مراكز السخونة المعروفة آنذاك بين العرب وإسرائيل أو بين تركيا واليونان أو حتى بين الهند والباكستان بعيداً إلى حدٍّ ما من الشرق الأوسط، وحينما طلب منه محاوره أن يحدد تلك المناطق قال له اذهب إلى الخارطة وضع إصبعك في مركز التقاء بقايا ثلاث إمبراطوريات شرقية حكمت مساحات واسعة من كوكبنا الأرضي وكان لها سيطرة وسطوة في حينها، وانا أستمع لذاك الحوار سارعتُ إلى أطلس مدرسي كان على طرف المكتبة حينها، وسبقت الصحفي إلى حيث التقاء تلك الإمبراطوريات وبقاياها اليوم في مثلث يعرف الآن بالمثلث العراقي التركي الإيراني الساخن حد الاتقاد.
لقد انتهت حقبة الإمبراطوريات الكلاسيكية بسقوط إمبراطورية آل عثمان لكي تبدأ حقبة أخرى من دول القبائل والعشائر وتحديداً بعد معاهدة سايكس بيكو ومن ثم لوزان التي أرست خارطة تلك الدول إلى يومنا هذا على أنقاض معاهدة سيفر وعلى حساب الكورد والأرمن والفلسطينيبن وغيرهم ممن قامت على أشلائهم هذه الدول وبقايا إمبراطورياتها المريضة، وخلال أكثر من قرن من الزمان سالت بحور من الدماء في حروب الوجود والبقاء والصراع على الأرض والثروات، خاضتها أنظمة تلك الدول من بقايا الإمبراطوريات مع مكونات تلك الإمبراطوريات التي عملت على إذابتها في بوتقة الدول وقومياتها السائدة وإصرارها على إعادة الحياة لتلك المنظومة الإمبراطورية المتوفاة؟
وخلال عشرات السنين من الصراع المستميت وترليونات الدولارات من الأموال وملايين من الضحايا والمعاقين والعديد من الحروب من أجل الحصول على المفاتيح السرية للإمبراطوريات الحديثة، وهي خفايا وخبايا الأسلحة النووية التي تعتقد هذه البقايا إن امتلاكها سيعيد إليها ما فقدته وسيمنحها صفة العضوية في النادي النووي ومهمة (إخصاء) الآخرين من حولها، فلم تتقدم هذه الدول أنملة واحدة بالاتجاه الصحيح، بل على العكس تقهقرت إلى الوراء وهي تظنُّ إنها إنما حققت انتصارات وهمية باهرة كانتصارات (قادسية صدام والأنفال وأم المعارك والحواسم)، هنا في هذا الجزء من البقايا الإمبراطورية وما يقابلها من الطرف الآخر إلى الشرق في إيران التي انتهجت طرقاً دينية للوصول إلى النادي النووي على حساب تقهقر عشرات الملايين من البشر الذين ما زالوا ُيستخدَمون كفئران تجارب لدى هذه الأنظمة النووية جداً، وما يجري في آسيا الصغرى التي أصبحت تُسمى بعد تقزيم الإمبراطورية العثمانية بدولة تركيا الحالمة بعضوية النادي الأوروبي الذي سينقلها إلى مستوى أكثر تحضراً كما تعتقد، يدلل على فشل اتجاهاتها القمعية مع مكوناتها وأعراقها وبالذات ما يحصل بالقرب من المثلث الملتهب؟.
خلاصة القول تساؤل مر: ألا تكفي مائة عام من الصراعات العبثية عبرة لحكامها وأنظمتها التي لم تنجح في إبادة او إذابة المكونات الأصغر عددا مثل الكورد أو احتوائهم في دويلات تمَّ تصنيعها لمصالح استعمارية ليس إلا، حقاً أنه سؤال يختزن آلام وويلات عاشتها شعوب هذه المنطقة بما فيها الغالبية، التي فقدت فرصاً ذهبية للانتقال إلى مستوى أكثر رقياً وازدهاراً، ولعلَّ في تجربة العراق وما حصل فيه من صراعات وحروب وما أنتجته من تشرذم وتقهقر في بلد يُعتبر من البلدان الغنية جداً في العالم، درسٌ بليغ لتركيا وإيران وسوريا لاختصار واختزال الزمن والخسائر والركون إلى حلول حضارية وسلمية لصراعاتها مع الكورد، لأن الإصرار على الخيار الآخر لن تجني منه إلا مزيد من التقهقر والتخلف والدمار وضياع فرصة ذهبية وتاريخية لتطور شعوبها التي تأن من الفقر والعوز والخوف في ظل أنظمة رثّة تسخر إمكانيات دولها لإبقائها في دفة السلطة على حساب السكان الغالبية منهم والأقلية، حقاً أنه المثلث الملتهب كما قال المستشار الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي، يأن تحت سياط أنظمة تعيش أحلام يقظتها على عذابات الشعوب وحقوق الإنسان في العيش بحرية واستقلال وسلام بعد أن فشلت وهي في أوج عظمتها من أن تحافظ على بقائها وديمومتها، فهل سيكون هذا المثلث مفتاح هِدايتها أو ربما تشرّذمها وانهيارها!؟