كتب زيد بن رفاعة : في طريقه إلى جامعة المستنصرية، يعبر العراقيُّ شارع فلسطين، لتظهر أمامه مبانٍ شيّدت على أرضٍ واسعة، شمالا صوبَ حي القاهرة، أي في وسط بغداد الكبيرة… قلب العراق، و كانت الدولة العراقية تطلق على تلك المباني اسم “جامعة البكر العسكرية”، واختصاصها كان رفع مستوى الجيش العراقي من خلال الدراسات العسكرية الرفيعة المتقدمة والحصول على الشهادات العليا، وقد تأسست في العام 1973، على مساحة قدرها ستة دونمات، مزدحمة بالقطع الهندسية والوحدات العمرانية والحدائق، وتنتشر فيها معدّات كثيرة ومختلفة بهدف التدريبات.
من هنا، من ذاكرة العراقيين المريرة والعتيّة، ومن هذه النقطة التي يتجمّع فيها كل حديث الحرب والماضي والصراعات والهويّة، يبدأ حسين الشامي، العائد من لندن، مشواره الاستثماري المعقّد، بعد أن قرّر تجديد حياته وارتداء عباءة السلطة، والانتقال إلى منافعها من عالم المعارضة العراقية، وبفضل منصبه كرئيس للوقف الشيعي، حصل الشامي على فرصة الاستحواذ على هذا “العقار” الشاسع، ليوضع أولاً بإسم جمعية خيرية ليست سوى “دار الإسلام” التي اتضح أنها لم تكن سوى نواةٍ لمؤسسة عقارات ضخمة!
أرض غصب
حسب ما جاء في رده على مَن اتهمه باغتصاب أرض وجامعة البكر العسكرية سابقاً، قال حسين البركة الشامي إنه ينتمي إلى “حزب الدَّعوة الإسلامية، وله فيه ما يربو على الأربعين عاما، وأنه درس في الحوزة الدينية وكان تلميذاً للسَّيد محمد باقر الصَّدر، وكما يقول فهو لم يدّعِ يوماً حيازة أية شَّهادات دراسية، لا “البكالوريوس” ولا “الماجستير” ولا “الدكتوراه”، و يبرّر الشَّامي كونه المالك الجديد والمستثمر والرئيس “فعلياً” لجامعة الإمام الصَّادق، “التي كانت جامعة البكر سابقا”، بأنه حصّل العِلم من محمد باقر الصدر.
وأن هذا يكفيه ليكون رئيساً لهذه الجامعة، التي كُتب في بياناتها أنها تأسست للرقيّ العلميّ بالشباب العراقي!، وأنها ليست مجرد جامعة إنما مؤسسة حضارية!، مع أن رئيسها خرّيج الحوزة الدينية!، ولِمَ لا؟ فحسين الشَّامي تم تعيينه مستشاراً ثقافياً ودينياً لرئيس الوزراء، ولعله يعرف ما لا يعرفه الأوّلون والآخرون، أو ما يسمّى بالعِلم اللدنّي، مع أن الغنوض واللدنيات مقتصرة على الأئمة وأهل الكرامات، وهي نوع من التعلم الرباني بالفطرة.
بعد أن ظهر رئيس لجنة النزاهة بهاء الأعرجي، وهو مِن جماعة الأحرار، أي التيار الصدري، على شاشة قناة البغدادية، معلناً وضعَ يده على تلك المساحة العقارية في بغداد واغتصاب المبنى (جامعة البكر)، ومعلناً موافقة رئيس الوزراء نوري المالكي على هذا الاستحواذ، وتقديم الأخير لكافة التسهيلات المالية بتقسيط المبلغ على عشر سنوات، ولا نقول إلا ما قاله المثل العراقي الشهير،”موت ياحمار لمن يجيك الربيع”، والربيع هناك أن يُكمل السيد الشامي أقساط المبلغ، إن فعل!
لكن عن أية مبالغ نتحدث؟ وهل سيكسر الدين ظهر الشامي؟! دعونا نرى الحسبة المالية، فقد قُدّر سعر المتر المربع الواحد، مِن هذه الأرض، بألفين وخمسمئة دولار، لأنه في وسط بغداد، وهي أرضٌ تعدّ حيوية والاستثمار فيها مربح، وتنبسط على عدة شوارع.
هذا ما يتعلق الأرض فقط، وليس البناء والمعدات وبقية الممتلكات، ولكن حظّ الشامي كبير، فحسب ما كتب هو ونشر رسمياً، في موقع جامعة الإمام الصادق الإلكتروني، من أنه اشترى المتر المربع الواحد بمائة ألف دينار لا غير، وهذا المبلغ يعادل تسعين دولاراً فقط ” أي أن المالكي قدّم تخفيضاً لسعر المتر من ألفين وخمسمئة دولار إلى تسعين دولاراً وحسب”!
وحسب الشَّامي فقد منحته التخفيض جهتان “وزارة المواصلات” وهي صاحبة الأرض الأصلية، و.. “رئاسة الوزراء”، ليكون عرضهم الاستثماري بتخفيض السعر إلى “96 %” من قيمة سعر متر الأرض الحقيقية! بينما كان الرقم الحقيقي سيتجاوزالـ “37” مليون دولار، وقد خفضت لحسين الشَّامي إلى أقل من مليون وثلاثمئة وخمسين ألف دولار، و مع ذلك كلّه، تم تقسيط هذا المبلغ “الصغير!”على عشر سنوات، وبيعت الأرض بقرارٍ من رئاسة الوزراء وبأمر من نوري المالكي وبإمضاء من مدير مكتبه السابق طارق نجم عبد الله
ولو أنّ هذا الخبر انتشر كإشاعة أو عبر الشاشات وصفحات الجرائد، لما كنا صدّقناه، ولقلنا إن الإعلام يبالغ ويهوّل، لولا أن حسين الشامي، ذاته، كتب في موقع جامعة الإمام الصَّادق “التي هو رئيسها”: “لقد تم تأسيس جامعة الإمام جعفر الصادق عام (2004) وذلك ضمن منهجية بعيدة المدى، تهدف إلى توفير فرصة التعليم العالي لأبناء العراق الذين حالت الظروف دون حصولهم على الفرصة المناسبة، ووضعت في برنامجها الارتقاء بالواقع التعليمي والتخصصي لأبناء العوائل الفقيرة والمضطهدة خلال حكم النظام السابق، ليساهموا في بناء العراق الجديد، ويأخذوا دورهم في مجالاته المتعددة.
لا سيما وأن الكثير من الجهود تنصب في الاتجاهات السياسية بعيدا عن الاهتمام بالجانب الأكاديمي والتربوي”، و”إن جامعة الإمام جعفر الصادق، ليست مشروعاً شخصياً ولا فئوياً، بل هي مشروعٌ ثقافيٌ خيريٌ غير ربحيّ، حيث يرتبط بمؤسسة خيرية إسلامية عالمية لها مجلس أمناء من شخصياتٍ معروفة، والمؤسسة وقفٌ شرعيٌ لا يباع ولا يورّث”، و”إن جامعة الإمام جعفر الصادق تم شراؤها بحسب القوانين المتبعة في الدولة، وطبقا للإجراءات الرسمية، ومرّت بسياقاتها القانونية والرسمية من كافة الجهات المعنية في البيع والشراء، من أول خطوة وحتى النهاية.
وإدارة الجامعة مستعدّة لتقديم كافة الوثائق والمستمسكات الرسمية أمام أية جهة مختصة بمتابعة هذا الموضوع، وإن سعر الشراء جرى طبقاً لتقديرات المسؤولين المختصين والخبراء المعتمدين من قبل الجهات الرسمية، حيث تم تقدير المتر المربع الواحد بسعر (مائة ألف دينار عراقي)، وكان سعر الشراء النهائي هو ما يقرب من ملياري دينار عراقي.
وجرى تسجيلها رسميا وفق الأصول والقوانين المتبعة، فليست هناك أية مخالفة قانونية في التثمين والتسجيل العقاري وطريقة البيع على الاطلاق”!
والأمر المذهل والمحزن، أنه حتى ممتلكات الجمعية الخيرية، المنتشرة في العراق، لا يصحّ أن تباع، والشامي يقصد “دار السَّلام” في سطوره المكتوبة في موقع الجامعة، بينما أراضٍ وممتلكات تملكها الدولة العراقية تباع وتشترى، فأيّ مزادٍ علنيّ دخله الشامي حتى اشترى الجامعة؟ ومَن هي الجهة الرسمية “النزيهة” التي قيّمت له سعر الأرض؟
ولكن الجميع يعرف أن حسين الشامي ليس هو المالك الحقيقي لجامعة الصادق، وأن هناك من يقف خلفه، ويموّل هذا المشروع ويزوّده بالدعم المالي والسياسي وبالنفوذ الكبير، ومن سيكون هذا الظهر الخفيّ سوى “حزب الدَّعوة” نفسه، وهذا ما يتعلق فقط بجامعة الإمام الصادق “البكر سابقاً”،التي تمّ تغيير اسمها بعد العام 2003 وأصبحت “جامعة الدفاع الوطني”، وافتتحت رسمياً من جديد في العام 2006، ثم تحوّل اسمها إلى “جامعة الدفاع للدراسات العسكرية” وذلك في العام 2010.
من هو الإمام المستثمر الشامي؟
يثبت حسين الشامي في سيرته الذاتية أنه “جاهد” في معسكر الصدر بالأحواز، وكان هذا المعسكر تابعاً للحرس الثوري الإيراني، ويقاتل ضد الجيش العراقي، أثناء الحرب في الثمانينات، ولكن وبعد فترة قصيرة انتقل إلى لندن ليبدأ نشاطه هناك بإمامة “حسينية المصطفى”، وقد سُمّيت حملة حجٍّ خاصة بحزب الدعوة في أحد مواسم الحج باسم “حملة حسينية المصطفى”، وفضحت حينها مجلة “الموسم” في أحد أعدادها الصادرة في العام 1993 “قضية الحسينية الجديدة”، والتي أطلق عليها اسم “دار الإسلام”، وهي بناءٌ واسع جدا، تتبع له دارٌ كان يسكنها الإمام المجاهد حسين الشَّامي، وقد نشر في المجلة المذكورة أبيات من الشعر التي انهالت تمدح أحد المتبرعين، وكان من الشعراء المدّاحين وقتها حسين الشامي ذاته.
وكان المشروع الذي طرحه الشامي على المتبرعين أن يجري إنشاء “حسينية” للشيعة في لندن، وليس داراً يملكها الشامي نفسه، أو حتى حزب الدعوة من خلال وسيطه الشامي، وحين سئل الشامي وقتها في تحقيق “مجلة النور” قال: “لا علاقة لحزب الدعوة بالحسينية”، وقد تبرع أغنياء الشيعة العراقيين، بعد أن ناشدهم الشامي، بأموالٍ طائلة اشترى بها موضع كنيسة كبيرة، لكن أسئلة كثيرة أثيرت وقتها حتى من قبل المبترعين أنفسهم، ليس هذا فقط، بل فضحت قضية أخرى ضد الإمام المجاهد المستمثر تتعلق بدخله الشخصي، فقد اتضح أنه كان يتلقى المساعدات من أموال “الإعانة الاجتماعية”، وقد اشتهرت هذه القضية بين العراقيين.
ولم يكتفِ الشامي بكونه المستشار الثقافي لرئاسة الوزراء ورئيس جامعة الإمام الصَّادق، بل سعى إلى مرتبة “المجاهد المتقاعد”، فقد تسرّب أنه طلب أن يجري منحه رتبة عسكرية كبيرة، كي يستحق “مرتب تقاعد” عليها، بسبب أيام جهاده ضد الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية.
ويُقدم حسين الشامي نفسه خطيباً ومحاضراً وحاملاً للواء التقدم العلمي بالعراق، ويُحسب له أنه مع تشذيب الطقوس الدينية الحسينية، على أن تُقدّم بشكل أكثر حضارية، وهذا ما كان يدعو إليه حزب الدعوة نفسه في ما عُرف بمواكب الجامعات، ولكن هذا لا يمنع الانتفاع ولو من خلال عمليات الفساد المالي.
يبقى أن اختيار إسم “الإمام الصَّادق” ليوضع على هذه الجامعة إنما يشير إلى نقاط عدّة، منها التسربل بلباس الدين والعلم في الوقت نفسه، ولكن هل كان الإمام الصَّادق ليوافق على شراء الأرض بصفقة مثل هذه؟! وأن تُستغلّ السلطة للتفريط بثروات العراقيين وفقراء العراقيين؟ وهل كان جعفر الصادق لينزل إلى هذا المستوى ليكون أحد خريجي الحوزة الدينية رئيساً لجامعة سُمّيت بإسمه؟ يصعب تصور هذا، ولولا ذلك اللقاء الإعلامي للجنة النزاهة في البرلمان لطُمرت القضية، ولكن قرار محكمة التمييز الذي أوقف صفقة بيع أرض الجامعة لم ينفذ.
دار العلم أم دار البزنس
إن قضية دار الإسلام واستغفال المتبرعين بلا أي حرج ديني أو أخلاقي كانت مؤشراً على أن ما سيجري في السلطة أعظم بكثير، وبطبيعة الحال ما كان الشامي ولا المالكي يتخيلان أنهما سيصبحان حكاماً للعراق، وربما حتى هذه اللحظة ما زالا يفكران سرّاً بهذه المفارقة. أما جامعة الإمام الصَّادق فلا يدخلها اليوم إلاّ المحجبات من العراقيات، وهي مثالٌ حيٌّ لمعتقدات رئيسها الدينية والمذهبية، يدخلها وهو يمسك العصا، ولا نعلم هل هي آلةٌ للتوكؤ أم هي للسلطان والأبّهة.
وفي رده على فاضحي القضية، قال الشَّامي: “لقد قضيت عمري في العمل الإسلامي، وكنت أحد مؤسسي العمل الجهادي لمقارعة النظام السابق، وتركت في كل ساحة عشت فيها خارج العراق، مشروعاً ثقافياً أو اجتماعياً أو إنسانياً، لخدمة المهاجرين والمهجّرين من أبناء العراق، ولعل الذي يوجه اتهاماته الباطلة إليّ، لا يعرف مشاريعي ومنها “مؤسسة دار الإسلام العالمية في لندن”، وللشامي عذره في هذا فلم يُعرف عنه اهتمامه السياسي والثقافي في تلك الفترة.
وإذا كان يقصد الجهاد بقتال الجيش العراقي السابق، فكان خيره الوفير العميم يصبّ على رؤوس العراقيين مع كل صاروخ إيراني يُقصف مما وراء الحدود، ومن حسنات الشامي أنه كان من المساهمين بإدامة الحرب لثماني سنوات مثلما كان روح الله الخميني يصرّ عليها، وقد تجرّع طعم السم بوقفها، كما قال هو عندما وافق على وقف إطلاق النار.
أما المشاريع العلمية والثقافية والإنسانية فكانت محصورة في دار الإسلام، وهي أموال أخرى مغصوبة من المتبرعين بكذبة غير بيضاء، فيقصد محاضراته الدينية اليومية، ومواعظ إبراهيم الجعفري، التي صدرت على شكل خطاباتٍ بأربعة مجلداتٍ مؤخراً، ويقصد حملات الحج ومجالس عاشوراء، وإذا كان السيد الشامي يعتبر ذلك علماً وثقافة فعلى العراق السلام حين يصل حاله إلى هذه المستويات.
تلك هي مشاريع السيد الشامي، وعلى ما يبدو أن حزب الدعوة قد بدأ يؤسس “ترسانة عقارية”، فلم يعد يكفيه الجزء الأعظم من “مطار المثنى”، نعم هذه الإمامة وإلا فلا، يقول الشامي إن الجامعة ليست ربحية، لكن الأجور التي تجري جبايتها من الطلبة تصل إلى حدود عشرة مليارات دينار! قدّستَ ونزهّك الله يا جعفر الصادق عن هذا كلّه، فقد جعلوا إسمك عنواناً لمكان تلك قصته! إنه جهاد العقارات!