دخلا الغرفة، وأحضرا حقائبهما، وشرعا لنقل أغراضهما، ووضْعها في الحقيبة ليغادرا المكان ويفترقا.
وها هي سيطرة الوحشة تفتك بقلبيهما، وتلجم لسانيهما، وعاد الصمت مِن جديد ليخيّم هذه المرّة إيذانًا بالرحيل الموحش.
طال الصمتُ، فكلٌّ منهما لا يقوى على أداء طقوس الرحيل القاتلة، فظلاّ ينظران تارة إلى الحقائب وكأنّها جمرة من نار، وتارة أخرى يتسارقان النظرات.
تثاقلتْ أقدامهما، وارتعشت أياديهما؛ لشعورهما بأنّ هذا الفراق؛ إنما هو جرح غائر لن يكف عن النزف في مصبّ الغربة.
كما أنّ نقاء سريرتيهما ساعد على تمكّن وحشة الفراق مِن الإمساك بأذناب رأسيهما وإلقائها في عذابات الوحدة، حيث إن الفراق له معنىً عند المخلصين؛ بينما يفرغ محتواه لدى أصحاب القلوب الماكرة.
فجأةً، انتفضا كالبرق، وارتطما كتلاطم الأمواج، اقشعرّتْ جلودهما، واعتصر بعضهما بعضًا كأنّما يريدان تعويض الفراق بمزْج روحيهما الألذ، وانهمرتْ الدموعُ، وتعالى صراخ الأنين حتى بلغ حد صراخ المستغيث من النار، فاليتم لدى كل منهما زكى الوحدة لديهما. وأفاقا على الحقيقة؛ فابتعدا، فلا مفرَّ مِن الوداع، فركضا نحو باب الخروج وانطلق كلاهما في جهتين مختلفتين.
***
قد يكون ماضي انتصاراتك طوفان من الرعب لعدوك
لم يكتفِ المسيحيون بقتل مائة من المسلمين قصاصًا؛ فشرعوا للثورة؛ وبسرعة مذهلة وحركة خاطفة نظّموا أنفسهم لعمل مظاهرات مِن كلِّ أرجاء الجمهوريّة -وخاصة منطقة العلمين وجنوب سيناء- يطالبون بالقصاص من إرهابيّ العشرين كنيسة -والتي أودت بحياة ثلاثمائة قتيلاً فضلاً عن آلاف الجرحى- فقابلتهم وحدات الأمن المركزيّ وكلُّ أقسام الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع، وحدث تشابك والتحامات سالتْ على إثْرها دماء الثوّار على الأرض كالأنهار. ولقد استغل إعلام معارضة نظام مهديّ مسألة تفجير الكنائس للإطاحة به، وعودة نظام الرئيس المعزول مجددًا. فراحت تصمه بالجور والتسلّط عندما قامت وحدات الأمن المركزي بقتل المتظاهرين. ومهدي يدرك جيدًا ضلوع يعقوب إسحاق في المخطط؛ بل يدرك ما هو أكبر من ذلك، حيث يعلم أن الموساد يتواصل مع أحزاب المعارضة بطريقة غير مباشرة تصب في صالح إسرائيل تتضمن الثورة عليه من أجل إسقاطه. فهبّ غيظًا، وهاتف يعقوب إسحاق بلا إلقاء سلام أو مقدمات: «ابعد عن بلدي.»
قال يعقوب: «وما شأني ببلدك؛ شأني هو غدرك بي، ألم تمزق اتفاقية دولية؟!»
– «لن تنجح في إسقاطي، ولن تتفتتْ الوحدة الوطنيّة لشعبي، وإني أحذرك من عاقبة فعلك.»
– «يعقوب إسحاق لا يخشى أحدًا، لا يخاف، لو أردتُ عزْلك لعزلتك، ولو أردت قتْلك لقتلتك، واعلم؛ أن سجية شعبك الانقسام على الدوام، فأنتم المصريون هكذا منذ الأزل.»
– «لِمْ كلابك بعيدًا عن بلدي.»
قهقه ثمّ قال ساخرًا: «ليس عندي شعب ينبح، انظر أنت للذين ينبحون في الشوارع والميادين عندك.»
– «ألمْ نسمع لكم خنخنة الخنازير ونباح الكلاب في حرب 1973؟»
– «وألبسناكم طرح النساء، وصحتم تعولون كعويلهن في 1967.»
لقد ضربت الكلمة مهدي ة في صمام قلبه بينما يعقوب يواصل كلامه ضاحكًا ضحكات سخرية: «وما زال عويلكم مستمرًا لا ينقطع حتى الآن.» وتعالت ضحكاته حتى كادت تصمّ أذني مهدي وتكلم: «مهدي، انظر إلى شعبك، لا يجدون ما يأكلون، وما لا يشربون، وسكناهم في العراء، ألك قلب تفقه به؟ أليس لديك عين تُبصر بها؟ شعبك يسكن الجحور ويرتدي الخِرق الباليّة ولا يستحمّ، إنهم جُرْبٌ.»
قال مهدي بصوت عالٍ: «أنت يا كلب، ليس لك دخل بشئوننا.»
– «مِن شئوننا أنّك تُخبئ المجرمين والمرقة والإرهابيين عندك، أرسلهم إلينا، أو دعنا نتعامل معهم بطريقتنا.»
لم يجدْ مهديّ ما يردُّ به فأغلق الخطَّ حانقًا متبرّمًا. ولم يلبث أن هاتف وزير الإعلام: «قل لإخواني مِن النصارى إنّ مهدىّ سيخرج إليكم، واعقدْ مؤتمرًا صحفيًا بالاتّحاديّة على الفور.»
وصلهم الخبر عبر القنوات الإعلامية؛ فسكنوا قليلا وهم يمسحون دماءهم من وجوههم بأكمام ملابسهم وبسبابة أصابعهم نطرًا، وقد قرّروا عدم ترْك الميادين حتى ينظرون فيما سيفعله مهديّ ونظامه بشأنهم.