مر حوالي شهرين على تولي الادارة الاميركية الجديدة برئاسة الديمقراطي جو بايدن مقاليد الامور، ولم تلح في الافق، ولم تتبلور مواقف وتوجهات واقعية ملموسة على نية واشنطن انهاء وجودها العسكري في العراق، بل ربما كانت المؤشرات بالاتجاه الاخر اكثر وضوحا واكبر زخما، لاسيما مع البحث عن ادوات وغطاءات اخرى لادامة ذلك الوجود وتكريسه لامد غير منظور.
واذا لم يكن ممكنا الاحاطة بحقيقة التوجهات والنوايا الاميركية من خلال تصريحات المسؤولين الرسميين، فأنه من خلال التوقف عند ما يطرح من قبل بعض مراكز الابحاث والدراسات الاستراتيجية، التي تعد من ابرز مطابخ صنع القرارات ومصادر تسويق السياسات في الولايات المتحدة الاميركية، يمكن معرفة طبيعة التفكير الاميركي، والاهداف الموضوعة، بصرف النظر عن الهوية الحزبية لمن يمتلك ادوات السلطة ومفاتيح القرار.
وتحت عنوان “الوجود الأمريكي في العراق لا يزال يمثل مصلحة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة”، كتب المساعد السابق في وزارة الخارجية الاميركية ديفيد شينكر، مطلع شهر اذار-مارس الجاري، مقالا مطولا لصالح معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى، تطرق فيه الى مجمل تجربته في العراق، حينما كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط في عهد الرئيس دونالد ترامب.
صحيح ان شينكر لم يعد يشغل موقعا رسميا في ادارة بايدن الجديدة، بيد انه مازال يعد عنصرا مؤثرا وفاعلا، وما يقوله ويتحدث به يحظى بأهتمام الكثير من الاوساط والمحافل السياسية وغير السياسية، فالرجل جاء به ترامب من معهد واشنطن، حيث كان مديره لعدة اعوام، الى فضاء الدبلوماسية، ليتولى ملف دبلوماسية واشنطن في منطقة الشرق الاوسط الحافلة بالكثير من المشاكل والازمات والتقاطعات والتناقضات، التي تعد بؤرة المصالح الاستراتيجية الاميركية على النطاق العالمي، وكان ذلك التعيين محسوبا بدقة، اذ ان شينكر معروف بصلاته الوثيقة والقوية باوساط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، ودعمه الكبير لتل ابيب، ومعاداته لايران واصدقائها وحلفائها، واكثر من ذلك كله، يعتبر من دعاة استخدام القوة العسكرية المسلحة لضمان مصالح بلاده وفرض هيمنتها ونفوذها على ارض الواقع.
وفي الوقت الذي يستعرض شينكر رؤيته ومخرجات تحركاته ولقاءاته مع كبار المسؤولين العراقيين في عهد حكومة عادل عبد المهدي، ومن ثم في عهد خلفه مصطفى الكاظمي، يخرج بنتيجة مفادها انه “على الرغم من هذه التحديات، يبقى الوجود الامريكي في العراق مصلحة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة، فالقوات الامريكية ومعها قوات من تحالف كبير من الدول، موجودة في العراق بناء على دعوة الحكومة العراقية، وبهدف هزيمة تنظيم الدولة الاسلامية، ومنع عودة ظهوره، وفي غياب القدرات الامريكية، ولاسيما قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع أو الطائرات المسيرة، ستبوء المهمة بالفشل، وفي الوقت نفسه، فإن الانسحاب الامريكي سوف يقلل من قدرات الجيش العراقي، ويقوض الثقة بالدولة، ويفاقم من الأزمة الاقتصادية الحادة، ولعل الأهم من ذلك كله، هو إن انسحاب الامريكيين سيعني تسليم بغداد تماما الى طهران، ويعزز أكثر من طموحات الهيمنة الايرانية في المنطقة”.
والتحديات الذي تطرق اليها الدبلوماسي الاميركي في مقاله، تتمثل في الخطر الذي تشكله الفصائل المسلحة المدعومة من ايران-بحسب قوله-على الوجود الاميركي والمصالح الاميركية، والتي يرى انها-اي الفصائل المسلحة-تهيمن على مقاليد الامور في العراق، بينما لم يتطرق الى مجمل التوجهات الشعبية والسياسية العراقية لاخراج القوات الاميركة من البلاد وانهاء التواجد الاجنبي، ولم يأت على ذكر التعاطي الاميركي السلبي مع ملفات امنية وسياسية واقتصادية عراقية حساسة ومهمة طيلة الاعوام الثمانية عشر الماضية، وتجنب الخوض في الكثير من الانتهاكات والتجاوزات التي ارتكبتها القوات الاميركية والشركات الامنية الاجنبية-وتحديدا الاميركية، وابرزها بلاك ووتر-ضد المواطنين العراقيين، ناهيك عن ما حصل في سجن ابو غريب وسجون اخرى من فضائع بحق مئات -ان لم يكن الاف-السجناء.
وضمن رؤية شينكر القائمة على استمرار الوجود الاميركي في العراق، فأنه يشدد على حل الحشد الشعبي، بأعتباره ميليشيات غير منضبطة مدعومة من ايران، ناسيا او متناسيا، انه لولا الحشد الشعبي، الذي تأسس على ضوء فتوى الجهاد الكفائي للمرجعية الدينية في صيف عام 2014، لكان تنظيم داعش قد اجتاح العراق من اقصاه الى اقصاه، ووصل الى عواصم دول اخرى.
وليس بعيدا عن ذلك، يعتقد شينكر ان السياسة الحازمة لادارة ترامب، افلحت في تقليل حجم التهديدات للوجود الاميركي في العراق، لذلك فأنه يدعو ادارة بايدن الى الاستمرار بنفس المنهج، ويرى ان توجيه ضربات بين الحين والاخر لما اسماه بالفصائل المسلحة او الميليشيات، غير كاف لردعها عن ارتكاب الاعمال العدائية ضد العسكريين الاميركان والبعثات الدبلوماسية الاميركية في بغداد ومدن عراقية اخرى، وهو بطريقة او بأخرى، يطالب بتشديد الضغوط على ايران، وذلك لايتم وفقا لوجهة نظره الا من خلال المحافظة على الوجود الاميركي في العراق والمنطقة، وتعزيزه بما يصون الامن القومي ومصالح بلاده وحلفائها واصدقائها، لاسيما اسرائيل.
ويبدو ان ما طرحه نائب وزير الخارجية الاميركي السابق في مقاله، يتعدى كونه وجهات نظر شخصية، الى كونه خلاصة توجه عام لتيار سياسي واسع، يتشكل من جمهوريين وديمقراطيين، وجماعات من اللوبي الصهيوني، وبمباركة ودفع وتشجيع من عواصم اقليمية كالرياض وابو ظبي والمنامة وتل ابيب، تتفق جميعها وتلتقي عند نقطة واحدة، هي ان اي اضعاف للوجود الاميركي في العراق والمنطقة سوف يفضي الى اختلال المعادلات لصالح محور المقاومة والجمهورية الاسلامية الايرانية، لكن هناك حقيقة ربما لم يلتفت اليها هؤلاء، الا وهي ان الوجود الاميركي بكل ثقله وحجمه العسكري والسياسي والامني، اخفق على مدى عقدين من الزمن او اكثر، في حسم وتوجيه اي ملف من الملفات الاقليمية بما يخدم مصالح واشنطن والعواصم الحليفة لها، مما يعني ان المراجعات الموضوعية الجادة، واعادة النظر في المواقف والتوجهات، افضل بكثير من تكرار الاخطاء، والاصرار على مواصلة السير في طريق الفشل والاخفاق.