الفوارق الفسيولوجية التي تميز الإناث عن الذكور شغلت حيز كبير من فكر الإنسان الرافديني القديم وحاول ان يجد لها تفسير منطقي لإستيعابها..
كيف للمرأة ان تنزف كمية كبيرة من الدماء دون ان تموت كما يحدث في (الدورة الشهرية) وكيف لها ان تخرج جنين من احشائها ومن أين يأتي الحليب ليدر من أثدائها ولماذا يختلف مظهر جسدها عن جسد الذكر وما السر الذي يجعل الأخير يفتتن بأعضائها الأنثوية !؟
هذه الأسئلة التي حيرته، ولدت لديه إعتقاد بأن الإناث لابد ان تكون لديهن قدرات إلهية خارقة غير متوفرة لدى الذكور ليتحملن آلام المخاض ويهبن الحياة ، لذا راح يقدسها وينسج عنها القصص والاساطير… حتى جعلها أماً للآلهة التي أوجدت الكون ، وهذا ما نسجه في إسطورة الخلق البابلية . رغم ان هذه الأسطورة تبين أيضا إنقلاب الذكور بزعامة الإله مردوخ على المجتمع الأمومي الذي كانت تمثله الإلهة الأم تيامات والتي سأقتطف منها ما يخص موضوعنا.
حيث تذكر الإسطورة ان الكون كان عبارة عن كتلة مائية يتكون من الإله أبسو والذي يمثل المياه العذبة والإلهة تيامات التي تمثل المياه المالحة فتزوجا وأنجبا عدد من الآلهة، فإنزعج الإله أبسو من ضجيج الآلهة الصغار فقرر القضاء عليهم ، غير إن الإلهة الأم رفضت فكرة الأب بقتل أبنائها.. وحين علم الأبناء بنية الأب تآمروا عليه وقتلوه وهذا ما أثار غضب الإلهة الأم وقررت إنتقام لزوجها من ابنائها المتآمرين فأعدت عدتها وجيشت جيوشها ، ولما وصل الخبر لأبنائها إرتعدوا خوفا وتحاشوا مواجهتها بإستثناء الإله مردوخ الذي تعهد بقتلها شريطة ان يبايعوه إخوته ليكون كبير الآلهة في حال انتصاره عليها. و بعد صراع عنيف ومعركة شرسة تمكن مردوخ من قتل الإلهة الأم وشق جسدها الى نصفين فتكون منها السماء والأرض وتكون من ثدييها الجبال وانشق من عينيها الأنهار فصار الكون على ما هو عليه وتسيد مردوخ عرش الآلهة ليبدأ منه عصر المجتمع الذكوري الذي دشن بالتآمر والقتل .. وتواصل الأسطورة تفاصيل بداية التكوين لكن نكتفي بهذا الجزء.
الجدير بالذكر أن الأطفال كانوا ينسبون لأمهاتهم في عصور ما قبل التاريخ حيث كانت تعتبر الأم هي رأس العائلة كونها هي من تهبهم الحياة والغذاء والتربية والحب والأمان فكانت تحظى بقدسية كبيرة الى ان حدث الانقلاب الذكوري وأصبح الأب هو هرم البيت والمسيطر المدير لكل شؤونه.
وحتى خلق الإنسان لم يأتي بأمر من أحد الآلهة الذكور وإنما صدر من إلهة انثى كما أفادتنا به اسطور أنكي وننماخ السومرية حيث طلبت الإلهة نمو/نامو من إبنها أنكي ان يخلق خدما للآلهة ، واجتزء لكم نص ما متعلق بخلق الإنسان عن لسان الإلهة نمو:
يا بني انهض من سريرك،… وافعل ما هو حكيم
اخلق خدم للآلهة وعسى أن ينجب هؤلاء أضعاف أعدادهم
ويستجيب إنكي لنداء أمه
يا أمي إن المخلوق الذي نطقت باسمه موجود
فضعي على عاتقه حمل الآلهة
امزجي لب الطين الذي في أعلى اللج
وسيكثف صانعوا الأشكال الخيرين الذين فيهم صفة الإمارة الطين
أما أنت فاخلقي الأطراف، وستعينك ننماخ،
ستقف إلهات الولدة إلى جانبك عندما تخلقين
يا أمي قدري قدره، أما ننماخ فستطبق عليه قالب الآلهة وتجعل منه الإنسان.
لو تمعنا في ما اقتطفناه من الإسطورتين أعلاه نلاحظ إن الأرض تكونت من أنثى وإن الإنسان خلق من تلك الأرض وبأمر من إلهة أنثى وحتى حين يموت يعود الى حضن تلك الأنثى ، وتأكيد على ذلك هو ما وجدناه في قبور السومريين حيث كانوا يدفنون موتاهم في توابيت فخارية بيضوية الشكل ويضعوهم بطريقة تشبه وضع الجنين في رحم أمه وهذه الرمزية الواضحة تدل على اعتقاد السومريين بأن الميت اعيد الى حضن أمه.
تقديس الرافدينين لدور وماكنة الأم لم يقتصر على الصور والمنحوتات التي جسدت صورة الأم كواهبة للحياة والخير والعطاء وأنما أشير لها بالعديد من النصوص والساطير القديمة ومنها على سبيل المثال لا الحصر (ملحمة جلجامش) حيث تشير الملحمة الى المكانة الإجتماعية التي تحظى بها الأم والثقة الكبيرة التي كانت تعقد عليها في تفسير وتوضيح ظواهر الأمور وبواطنها ودورها في إرشاد الأبناء ونصحهم حتى وإن نضجوا ووصلوا الى أعلى الدرجات والمراتب ، كما حدث مع الملك العظيم جلجامش حين روى لإمه ننسون حلمه وطلب منها تفسيره :
يا أمي لقدر رأيت الليلة الماضية حلماا
رأيت أني أسير مختالا بين األبطال
فظهرت كواكب السماء
وقد سقط أحدها إلي وكأنها شهاب السماء آنو
أردت أن أرفعه ولكنه ثقل علي
تجمع حوله أهل أوروك
ازدحم الناس حوله وتدافعوا عليه
واجتمع عليه األبطال.
ففسرت له الحلم على انه سيلتقي بصديق قوي يكون له عونا وسند وهذا ما تحقق ما أنكيدو .
كما تنقل لنا نصوص الألواح الطينية مدى احترام الأبناء لأمهاتهم ومهابة غضبها عليهم وهذا يتجلى في إسطورة عشتار والراعي حيث كانت عشتار تبحث عن ذرائع لتبرر بها غيابها عن امها حين كانت تلتقي بحبيبها ، فذكر احد نصوص الاسطورة:
هيا أيها الراعي دعني … يجب أن أعود إلى بيتنا
أية كذبة سوف أرويها لأمي ننكال؟
لكن دموزي يجيبها بما كانت تنتظر منه
سوف ألقنك كيف تكذب النساء
قولي لها صديقتي كانت تمرح معي في الساحة
رقصت حولي على وقع الطبلة
وغنت لي الأناشيد الأكثر عذوبة
هكذا وبهذه الحيلة تقفين أمام أمك.
النصوص التي تعظم دور الأم وتمجدها وتؤكد على قدسيتها ومكانتها في المجتمع الرافديني القديم لا عد لها ولا حصر، لكن نكتفي بهذا القدر لنقدمه كهدية عرفان لكل الأمهات وخصوصا العراقيات منهن لما لاقنه من مصائب وويلات ومعانات ونكبات بسبب الحروب والاضطرابات التي شهدها العراق منذ بداية نشأته الى الآن.