خاص: قراءة – سماح عادل
يرى المخرج الفرنسي “بيار غاسبار- ويت” أنه لابد من خلق جو من الثقة بين المخرج والممثلين، كما يشيد بالممثل ويعتبره متمرد. ويعتبر أن الفيلم الرائع هو من يحصل على رضا الجمهور. ورغم ذلك يحمل تشاؤما نحو السينما التي يعتبرها مهنة بدأت تموت. يقول المخرج الفرنسي “جان بيار ملفيل” أن جمال التنقية يكمن في عدم وضوحها، ويعلن أنه ضد النزعة الثقافية في السينما. لكنه مع ذلك يحب الأفلام التي تدفع بالمشاهد إلى التفكير ومع ذلك يرفض تقديم التنازلات للجمهور.
نواصل قراءة الكتاب المميز (قرن من السينما الفرنسية.. من خلال اعترافات مخرجيها)، تأليف “إيريك لوغيب”، ترجمة “محمد علي اليوسفي”، حيث يحتوي على عرض حوارات أبرز المخرجين في السينما الفرنسية. لنتعرف من خلال تلك الحوارات على السينما الفرنسية ورموزها واتجاهاتها.
بيار غاسبار- ويت Pierre GASPARD-HUIT
“بيار غاسبار- ويت” مخرج فرنسي، ولد في ليبورن، في منطقة الجيروند الفرنسية، سنة 1917. من أبرز أفلامه التي أخرجها:
(صوفي والجريمة (1955)؛ العروس فائقة الجمال (1956)؛ غاسلات الثياب البرتغاليات (1956)؛ القبطان فراكاس (1960)؛ شهرزاد (1962)؛ جبل طارق (1963)؛ تلويث السمعة (1966). وللتلفاز: (الفهد).
شغف السينما..
يقول “بيار غاسبار- ويت” عن الطرق التي سلكها كي يصبح مخرجاً سينمائياً: “كان ذلك في منتهى البساطة. كانت أمي ترتاد الكازينو مع أختين لها. وللتخلص مني ومن أخي، ترسل بنا إلى سينما مجاورة للكازينو، تعرض فيلماً جديداً كل يوم. وهناك اكتشفت الصور المثيرة التي تتحرك.
ومع ذلك يبقى الفيلم الذي حدد مصيري هو “أوبرا القروش الأربعة” لبابست. وتلاه “عاصفة على آسيا” لبودفكين. أما اليوم فأنا أكنّ إعجاباً لا محدوداً لأورسن ويلز، أروع مخرج عرفته السينما، في رأيي.
في الحادية عشرة من عمري ذهبت لمشاهدة “كنغ كونغ” وعدت إلى مشاهدته يومياً طيلة أسبوع كامل.
من بين المخرجين الكبار الذين أحببت، هناك فدريكو فيلليني؛ وكل المخرجين الكبار لأفلام الوسترن، ولاسيما ويليم ولمان. شغفت أيضاً بالسينما الاستعراضية وخاصة مع مرفين لوروا، وكل عظماء العصر الذين سبقوا ستانلي دونن، جين كيللي. ولن أكون منصفاً إذا نسيت الأفلام البوليسية التي تميز فيها جيمس كانيي. في ذلك الوقت كنا نشاهد أربعة أفلام في قاعة أبولو، مقابل خمسة فرنكات. بعد ذلك صرت واحداً من أبرز مسؤولي السينماتيك، في بداياتها. لم يتغير أي شيء منذ ذلك الوقت. لقد بقيت شغوفاً بالسينما. ولا أفلت أي فيلم من أفلام “السيد سينما” عندما تعرض على شاشة التلفزيون”.
وعن علاقاته بالممثلين يقول: “أرفض الأفكار المسبقة في تحريك الممثلين. ينبغي أن نجعلهم يقدمون أفضل ما عندهم من دون أن يشعروا بذلك، أو يشكوا في إمكاناتهم فيتقدموا صاغرين للمخرج. لابد من خلق أجواء ثقة تتحول إلى تعاون خلاق.
أوضح للبعض، بدقة شديدة، ما أنتظره منهم. ولم أنسَ ما قاله لي رينيه كلير، ذات يوم، عندما اعترفت له بأنني أنوي خوض غمار السينما. نصحني بأن أتعرف على أصدقاء، وأن أتعلم كيف أتمكن من معرفتهم، وإن تطلب الأمر، بالنسبة لأصغرهم سنا، مرافقته إلى مقاعد الدراسة!
على “البلاتوه”، لابد من استغلال أبسط المزايا لدى كل ممثل سواء ظهرت خلال التمرينات أو بشكل تلقائي. أحب الممثلين، وأحب عالمهم. هؤلاء الوحوش المقدسة والنجوم الصغار يفرحونني في هذا العالم الذي هو عالمنا. ما زال هناك ما هو غير متوقع، وغير منتظر، وما زالت هناك مغامرات في وجودهم. إن الممثل قادر على الإفلات من النظم المهيمنة. وهو واحد من آخر المتمردين على الإنسان – الروبوت. إنه إنسان رائع، يعرف كيف يتسلى، وكيف يجعل حياته الطفيلية فاخرة، لكونها ضرورية للآخرين”.
تقديس التقنية..
وعن التقنية يقول:”كانت أساسية في السابق. أما اليوم فإن الفيلم الموجب يخزّن كل شيء. كنا نقدس التقنية. لكن رواد الموجة الجديدة سخروا منها و”كنسوها” فلم تعد موجودة. لاشك أن معرفة قص الحكاية مازالت مهمة، أما طريقة القص فلم تعد كذلك. وأي إنسان متوسط يستطيع التوصل إلى التقنية حالياً، سواء بحث عنها أم لم يفعل. ذلك أن المصادفة تظل دائماً أكبر من الشاشة.
لكن المعجزة هي في التوصل إلى فيلم يكون ملبياً لانتظار الجمهور. فالرائعة الفنية هي التي يتمنى أحدنا إخراجها مرة واحدة في حياته مع تحقيق النجاح. وذلك لا يمنع أنّ من واجب السينما أن تظل متواضعة بالنسبة للأدب والرسم والموسيقى… فنحن ما زلنا في بدايات هذا الفن. ولا ينبغي نسيان ذلك. وبعد مرور مرحلة الانبهار الأولى ما زلنا نعاني من الجمود. وعلينا ألا ننسى كذلك بأن كل جيل يحتفظ بعناوينه المفضلة التي شاهدها في سن العشرين”.
وعن موقفه من التلفزيون يقول: “السينما، التلفزيون… إنهما مهنة واحدة. أول أفلامي التلفزيونية أخرجتها كما لو كانت للسينما. في المستقبل لن يتم النظر إليهما إلا بوصفهما وسيلتين، سمعيتين بصريتين، مصيرهما التكامل. لو أننا استخدمنا في السينما، وسائل التلفزيون في البث، لتم استرجاع تكاليف الأفلام بعد عروض قليلة! علينا أن ندرك بأن كل تاريخ فرنسا صار ينتقل إلى الأشرطة، سواء في الولايات المتحدة أو في هنغاريا. وتكاد ألمانيا بدورها، أن تغرقنا. وإليك بمثال آخر: في الفيليبين توجد تسع قنوات تبث لثلاثمائة جزيرة. الفرجة دائمة. وهناك إمكانية الاختيار.
أنا مقتنع بحاجة التلفزيون الدائمة إلى الأفلام السينمائية. وأنا مع الكم، لأنه يوفّر فرصة أكبر للنوع. ينبغي التوصل إلى صيغة إنتاج عريض ومتكامل. أنا مع التطبيع بين السينما والتلفزيون”.
ويجيب عن سؤال ألن يكون ذلك على حساب السينما في كل الأحوال؟: “أنا شديد التشاؤم. السينما مهنة بدأت تموت. لم يعد من مجال إلا للمبتدئين أو للإنتاج المشترك. لقد تلاشى ما كان يوفر فرصاً لأفلام فرنسية من نوعية جيدة.
ما من صناعة أخرى لحق بها مثل هذا الضرر؛ حتى الأسواق صرنا نخسرها. ولهذا الوضع سبب، وتفسير أساسي؛ لا يريدون مواجهة الحقيقة. إما أن السينما فن ذو علاقة بالرعاية والهواية والندوات والجماعات، أو هي صناعة. ولا ينبغي التناسي بأن أكثر أوقات الإقبال على التلفزيون هي أوقات بث أفلام سينمائية، أي أفلامنا القديمة”.
السينمائيون بائعو أحلام..
وعن سؤال على هذا الصعيد، هل تعتبر السينما الفرنسية معوقة بسبب عيب شكلي؟ يجيب: “المنتجون يتبعون “الموضة”. وهذا ما يفسر افتقارنا، نحن المخرجين، إلى مجموعات كاملة من الأفلام، لتقديمها للجمهور. هناك عدد كبير من الأفلام المختلفة، على مستوى الفكرة والأسلوب والنبرة والتقنية، لكنها ذات نهايات متشابهة.
لقد جبت العالم. وفي كل استراحة ارتدت السينما. فماذا يشاهد الناس؟ الأفلام الأمريكية، وسترن “السباغيتي” الإيطالية، وكذلك أفضل مؤلفي السينما الإيطالية: أنطونيوني، فلليني، بياتري… لقد أدرك الإيطاليون أنه ينبغي إنتاج جميع الأنواع. وهذا ما سمح لهم بإغراق الأسواق بأفلامهم. أما نحن فنستطيع التعلق برينيه أو غودار، لكننا لا نستطيع إجبار العالم على مشاركتنا في الولع نفسه.
كانت توجد في فرنسا سينما تعتمد على حركة الأحداث والتشويق. وكانت ناجحة. فتم القضاء عليها. وبذلك خسرنا جمهوراً ضاع إلى الأبد. لم تعد توجد أفلام ذات مشاهدة واسعة، أفلام جيدة لجمهور عريض. ذات يوم تقررت مساعدة الأفلام الصعبة. وفي الوقت نفسه معاقبة الأفلام الناجحة، وخاصة تلك الأفلام المناسبة للجمهور الواسع. وفي الواقع، نحن نعيش تاريخ الثقافات التي يراد فرضها على الجميع، بكل قوة. تكون البداية، في منتصف الطريق، بالمصادفة، عبر موليير، ولابيش، وفايدو، لكن مع احتراس من الصعود حتى أريستوفان.
وبهذه الطريقة انتهى الأمر بالتسبب في هجر قاعات السينما. حتى الأفلام الجيدة صارت مرفوضة لعدم وجود أفلام وسيطة. وهذا ما يفسر عودتنا، حالياً، إلى اكتشاف الأفلام التي أنتجت بين 1930 و 1945، كل ما هب ودب واخترق المراحل والأذواق، مع أنه لم يدّع الاقتراب من الروائع الفنية. تزداد قناعتي بأن الناس في حاجة إلى التأثر، إلى الضحك، وإلى الافتتان. والحال أن الشاشة لا تعرض اليوم إلا الأسوأ في حياة كل فرد.
كان السينمائيون بائعي أحلام؛ واليوم يكتفون بصفة الوكلاء القلقين. وفي هذا المجال، إذا كان لابد من ذكر مثال توضيحي، فإنه يصعب التفكير في غياب إنتاج أفلام للأطفال. وليس من الطبيعي ألا يتم تشجيع السينما العائلية. الأهالي لم يعودوا يعرفون إلى أين يأخذون أطفالهم في السينما”.
وعن استمرار ذهابه إلى قاعات السينما يقول: “نعم. لكنني لا أستمتع إلا بالوسترن الأمريكي الجيد”.
وعن أكثر انشغالاته الثابتة كمبدع سينمائي يقول: “المشكلة الحقيقية التي تواجه المخرج هي إيجاد أفضل توافق بين ما كتبه وما ينوي إخراجه. ثمة عراقيل لابد من تجاوزها. ما بين الفكرة والتصوير يوجد السكريبت الذي لابد من الدفاع عن دوره. حالتي خاصة نوعاً ما. فبسبب عمري أجد نفسي ما بين “موجتين”. في زمني لم تكن تقدم مساعدات للمخرج المبتدئ. بالعكس. كانت توضع له العراقيل. وكان من الصعب التوصل إلى إنجاز الفيلم الأول. تحققت حرية التعبير مع الموجة السكانية الأولى. وهذا يفسر عدم تمكن أبناء جيلي من إمكانية اختيار مواضيعهم. لقد وجدنا أنفسنا “مضغوطين مثل السندويتش” ما بين العظماء القدامى، وأولئك الذين ينتمون إلى سينما المؤلف. وهذا أدى إلى تطوري في ممارسة المهنة على طريقة أسنان المنشار!”
النجاح الذي حققناه يمنعنا من أي إخراج يتضمن مجازفة. أحب التقنيات الجديدة. غير أنني أرفض ما يسمى بـ “الكاميرا في قبضة اليد”. أنا مع السينما الفرجوية. المحترفون الحقيقيون يفرضون أنفسهم دائماً، وهم الذين يتمكنون من جذب الجمهور الواسع”.
جان – بيار ملفيل Jean – Pierre MELVILLE
“جان – بيار ملفيل” مخرج فرنسي، ولد سنة 1917 وتوفي سنة 1973.
من أبرز الأفلام التي أخرجها: (24 ساعة من حياة مهرج (1945)؛ صمت البحر (1947)؛ الأطفال المزعجون (1950)؛ عندما تقرأ هذه الرسالة (1953)؛ بوب المقامر (1955)؛ رجلان في مانهاتن (1959)؛ ليون موران قسيساً (1961)؛ دولو (1962)؛ الابن البكر لآل فرشو (1962)؛ النفس الثاني (1967)؛ جيش الأشباح (1969)؛ الحلقة الحمراء (1970)؛ شرطي (1972).
اكتشاف السينما..
يقول “جان بيار ملفيل”، عن بداية موهبته السينمائية: “مر زمن طويل على ذلك. الطفولة في باريس. السيرك، مسرح المنوعات، سينما أمبير في شارع فاغرام. مطالعة “المجلة الصغيرة المصورة” التي تنشر مسرحية كل أسبوع، ثم اكتشاف السينما الصامتة في البداية. وتبعتها السينما الناطقة مع أول شريط لآل جولزون “مغني الجاز”. وما إن اتخذت السينما هذا البعد السمعي البصري في آن، حتى انجذبت إليها بشغف. ومن ترددي على رؤية شريط “ركض الخيول” لفرنك لويد الذي أحببته كثيراً، قررت العمل في مجال السينما. وأنا أحب كتابة السيناريو أكثر من أي انشغال آخر في هذا المجال. إنه ميدان الإلهام والكتابة والتحضير. أما الإخراج فيبعث فيّ الملل”.
وعن التقنية بالنسبة إليه يقول: “على مستوى الكتابة لا أهتم بالتقنية مطلقاً. فلا أحد يحتاج إليها من المساهمين في إنتاج الفيلم. أما وقت الإخراج فلا بد منها من أجل النجاح. غير أن هذا الجانب التقني لابد أن يختفي تماماً لدى العرض.
لا يجد المشاهد الشريط رائعاً إلا إذا انسجم تماماً مع الموضوع وتقبل الشخصيات، ونسي الكاميرا وطريقة تصوير المشاهد. لقد حدث لي أحياناً تصوير سلسلة لقطات في منتهى الصعوبة والروعة من دون أن ينتبه إليها أحد. وهذا هو المطلوب”.
وعن معاييره في اختيار الممثلين، علاقته بهم أثناء العمل وكيف يديرهم يقول: “مع تقدمي في العمر، صرت أكثر تشدداً في اختيار الممثلين. ثمة مخلوقات بشرية محبوبة من الكاميرا والميكروفون، وأخرى لا تتمتع بمثل هذه الميزة. وهذا لا يعني أن المحبوبين هم الأفضل، غير أن الحكم في مثل هذه اللحظة يكون للكاميرا التي تحب أو لا تحب! وقد يكون من باب المصادفة أنها تفضل النجوم! شخصياً أجد صعوبة في اختيار الممثلين سواء من بين النجوم أو غيرهم. يقول الأميركيون، عن شخص ما، إنه مثل غيره، لكنه يتمتع بـ Something else extra وهذا الشيء الإضافي الصغير هو الذي يصعب تحليله.
بالنسبة لإدارة الممثلين يختلف الأمر أيضاً مع الممثلين النجوم عما هو مع غيرهم. فالنجوم يتم اختيارهم لأنهم نجوم. وهذا الاختيار في حد ذاته هو إدارة لهم. أحرص مع ألان ديلون، مثلاً، على عدم التحدث إليه خلال الفيلم. وقد صورت معه شريطين. ففي “الساموراي” كما في “الحلقة الحمراء” لم نتبادل الحديث قط أثناء التصوير. وهذا ما نفعله فيما بعد. لماذا؟ لأننا نكتفي بالإشارات. وأعتقد أن الاتفاق المسبق مع الممثل الموهوب قبل التصوير لا يستدعي العودة إلى التوضيح والتفسير أثناءه.
أما الآخرون، فالوضع يختلف معهم. إنهم يأتون للتصوير لمدة يومين، أو أربعة، ولابد من مراقبتهم وإدارتهم جيداً حتى يعطوا أفضل ما عندهم، خصوصاً وأنهم يستخدمون لربط العلاقة ما بين شخصيتين مهمتين.
في آخر فيلم أخرجته تصرفت بأشكال مختلفة مع كل من أندريه بورفيل، وإيف مونتان، وألان ديلون، وفرنسوا بيرييه، وجيان مارية فولنتيه. فلا يمكن تقديم أية نصيحة لفرانسوا بيرييه ذي الخبرة الطويلة، عدا بعض الملاحظات البسيطة. ويختلف الأمر مع جيان مارية فولنتيه. فهو أجنبي على أية حال، ويبالغ في كل شيء. وكان ينبغي لجم طريقته، وتقريبه من الأداء على الطريقة الفرنسية، أي التخفيف من الحركات وتقطيبات الوجه. أما بالنسبة لإيف مونتان الذي عملت معه لأول مرة، فقد شكل مفاجأة رائعة. وأعتقد أن ذلك يعود إلى خبرته الطويلة في الأفلام الاستعراضية، كما يعود إلى مثابرته وسعيه الدائم إلى بلوغ مكانة مرموقة في التمثيل، بعد عثرات البداية”.
وعن تأثره ببعض المخرجين الذين سبقوه يقول: “لاشك أن المخرجين الأميركيين الثلاثة والستين، والمنتمين إلى أكبر الشركات السينمائية، قد لعبوا دوراً أساسياً في تكويني خلال المرحلة التي سبقت الحرب. لقد تعلمت المهنة وأنا أشاهد أفلامهم. طبعاً، يوجد في فرنسا أيضاً فيدر ورينوار ودوفيفييه وكارني. ولابد أنني قد نسيت غيرهم، ممن علموني الكثير. ولا يعني أن أفلامهم هي أفلامي، باستثناء فيدر ودوفيفييه. وفي المقابل كان كارني شديد الشبه بالمخرجين الأمريكيين في الشركات الكبرى. إذْ ينطلق من كتابات موهوبين مثل بريفير وجونسون، ويؤدي عمله على أكمل وجه.
ويكفي تذكر “أطفال الجنة” الذي اعتمد على ممثلين بارزين ونصوص جميلة. إنها المدرسة الأمريكية. ولقد كان كارني “الأكثر أمريكية” من بين المخرجين الفرنسيين. أما دوفيفييه فكانت تغلب عليه صفة المؤلف. وكذلك فيدر، ورينوار طبعاً. لو أردت شخصياً الاقتراب من صناعة سينمائية ذات خصوصية فرنسية لاقتربت أكثر من كارني. أما فيدر ورينوار ودوفيفييه فقد كانوا يعملون بشكل شخصي. ولا يتعلق الأمر باحتذاء حذوهم، لأنهم كانوا يشكلون ثلاث مدارس مختلفة، لا علاقة لها بالمدرسة الأمريكية.
ثم كانت الحرب، واكتشاف أورسون ويلز، كازان، بيلي ويلدر، الذين أضيفوا إلى المخرجين الثلاثة والستين، وغيّروا في شكل الحكاية. يأتي ويلز في المقدمة مع شريط “المواطن كان” Citizen Kane، ثم ويلدر مع شريطه البوليسي الأول “تأمين على الموت”. وكازان الذي أتى بالجديد في شريطه “زنبقة بروكلين”. ولم يكن ذلك واضحاً للجميع في البداية. فكان لابد من ظهور شريطه الثاني حتى يدرك الناس أن كازان يقدم سينما جديدة”.
مراهنة السينما..
ويجيب عن سؤال هل تعتقد بإمكانية تحول المرء إلى سينمائي انطلاقاً من دوافع داخلية، بعيداً عن التعلم والإطلاع؟: “بالنسبة للشباب قد لا يخوضون مجال المهنة بمعارف كافية. لكن يبقى أمامهم عامل السن وفرص التعلم والممارسة كي يصيروا سينمائيين حقيقيين. غير أن ما يصدمني هو أن معظم الناس ينجزون فيلمهم الأول في سن الخامسة والأربعين، كما لو أن السينما ليست مهنة، أو كأن الاقتراب منها مجرد مراهنة، تحتمل النجاح أو الفشل.
وهناك النقاد أيضاً. فالناقد السينمائي طرف مهم في هذا المجال. انه شخص يمضي حياته في السينما. وأحياناً يرتادها ثلاث مرات في اليوم. إنه مثلي، عندما كنت في الثامنة عشرة أقضي كل أوقاتي في المشاهدة والتعلم. الناقد شخص يتلقى دروساً سينمائية خاصة، ثلاث مرات يومياً. وهكذا تتوافر لديه فرصة تعلم السينما أفضل ممن يرتادها مرة واحدة في الأسبوع. لا أزعم أن كل نقاد السينما موهوبون، أو يشكلون مشاريع سينمائيين في المستقبل، غير أنني أجد من المنطقي، بعد ذلك التشبع بمشاهدة الأفلام، أن يرغب بعضهم في محاولة الإخراج. هذا طبيعي. ولا يشكل انحرافاً مهنياً.
وما هو السينمائي؟ قد يكون ذلك الشخص المولع بمشاهدة الأفلام والذي يرغب فجأة في صناعتها. إنه يشبه، نوعاً ما، ناقداً أدبياً يقرر تأليف كتاب.
أنا ضد النزعة الثقافية في السينما. أعتقد أنها مضيعة للوقت. لكنني مع الذكاء. لابد من محاولة صنع أفلام ذكية، تدفع بالمتفرج إلى التفكير، بعد مغادرة القاعة، وقد يكون ذلك لمدة طويلة، أي لساعة أو ساعتين. وهذا يحدث أحياناً. وأهم من ذلك أن تدفع بالمتفرج إلى إعادة مشاهدة الفيلم. إن الأفلام التي تعجبنا هي التي نعود إلى مشاهدتها. ويعرف أصدقائي أنني مولع بتكرار مشاهدة الأفلام المحببة لدي، عدة مرات. وهناك فيلم شاهدته مئة وست مرات! لا يتعب المرء من شريط يحبه. إنه يشبه العودة إلى قراءة كتاب، أو قصائد، أو سماع موسيقى مفضّلة”.
وعن الفيديو وهل يوفر مثل هذه الفرصة، أي إعادة مشاهدة الأفلام المفضلة، في البيت يقول: “طبعاً. ولديّ شخصياً، هنا في مكتبي، احتياطي من الأفلام التي أعيد عرضها مع أصدقائي. ومن باب المصادفة أن لديّ الآن “المواطن كان” و”تألق آل أمبرسون”. شاهدتهما ثلاث مرات في أسبوعين”.
وعن هل يطرح هذا مشكلة أمام البرامج التلفزيونية يقول: “لقد فكرت في هذا الموضوع. وهو أمر خطر بالنسبة للتلفزيون. وسوف يجبره على تقديم برامج متفوقة، أو في مستوى أفضل الأفلام.
ومن المثير للفضول، في العالم كله، قيام نوع من التراتبية ما بين الفرجة التلفزيونية والسينما. أي أنه من النادر رؤية مبدعين سينمائيين يتخلون عن السينما، باستثناء روسيليني الذي يمثل حالة خاصة بالنسبة للتلفزيون. إن ما يحدث هو العكس، عادة. وفي هذا المجال، لا يجد المخرجون الأميركيون الشباب، العاملون في التلفزيون، أية مشكلة في الانتقال إلى السينما. لكن من الصعب رؤية ويليم ويلر مثلا يفعل ذلك. إن الصورة المتقنة تظل أجمل، في السينما، وأكثر جاذبية من الصورة التلفزية الصغيرة وغير المحددة بما يكفي”.
رفض التنازلات للجمهور..
وعن التفكير في الجمهور لدى التحضير للفيلم، وأثناء إخراجه يقول: “لقد بقيت متفرجاً. أعشق السينما ولا أستطيع الانقطاع عن ارتيادها. وكثيراً ما اذهب إلى مشاهدة فيلم قديم كي لا أنقطع عن عادة الذهاب إلى الفرجة. عندما أكتب أفكر في الجمهور بطريقة لا شعورية، نظراً لكوني أفكر في نفسي كمتفرج عادي يتمنى مشاهدة أفلام تعجبه. ولهذا السبب أعيد كتابة السيناريو عدة مرات. وعلى سبيل المثال، فقد بدأت بكتابة سيناريو “الحلقة الحمراء” في شهر آذار/مارس 1968، ولم أنجزه عملياً إلا قبل خمسة عشر يوماً من بدء التصوير، أي خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 1969. وهكذا كتبته في ثلاث صياغات مختلفة تماماً، خلال عام ونصف تقريباً. لكنني لا أتبع تلك الخطوات لتقديم تنازلات للجمهور، لأن السينما فن أيضاً. وأنا شديد الاقتناع بصلابة هذا الفن الذي ما انفك يفرض وجوده”.
وعن يقنيه بصلابة السينما كفن من أين أتى يقول: “من الأفلام الأمريكية الجديدة التي شاهدتها. ولنأخذ على سبيل المثال كتاب هللر “الخدعة الفظّة” والذي اقتبس منه شريط “كاتش 22″. أرى أن الفيلم أفضل من الرواية. إن السينما تتحول إلى فن. ويوجد في الولايات المتحدة مخرجون شباب قادمون إليها من شتى أنحاء العالم تقريباً، وأحياناً من انجلترا، كما هو شأن شلسنجر وييتس. أمريكا هي موطن السينما، والنجوم. إن النجم يقدم لك نصف الشخصية، وعليك، أنت المؤلف، تقع مسؤولية الإتيان بالنصف الآخر”.
وعن الخصال المطلوبة ليصير المرء مخرجاً يقول: “أتمتع بذاكرة جيدة، وبدقة الملاحظة، ولدي قدرة بصرية وسمعية رائعة، وأعتقد أنني ملم بالتحليل النفسي جيداً. هذه هي الخصال الخمس الضرورية لكي يكون المرء سينمائياً. عندما يأتي بعض الشباب طالبين العمل معي كمساعدين، أدرك بعد عشر دقائق من محادثتهم، إن كان أمامهم مستقبل سينمائي أم لا. أعتقد أنه ينبغي رؤية كل شيء والاحتفاظ به. إذا لم تكن لهم ذاكرة ممتازة، ولم يستطيعوا الإجابة عن مثل هذا السؤال: “سيدي، لقد جلستَ هنا، قبل بضع دقائق، ماذا يوجد خلفك؟” إذن كيف تنتظر منهم تذكَر متطلبات الديكور؟”.