من رواية قنابل الثقوب السوداء
وصل خبر تمزيق الاتفاقيّة الرباعيّة إلى آذان اتحاد المقاومة الفلسطينية نغمًا، ولقد علّق مؤيد على فعل مهديّ: «الحمد لله أن أرسل الله مَن يعاوننا في هذه الظروف الحالكة، شعاع من الأمل أرسله الله لنا لنتثبت تحت وطأة الحصار القاتل، وخاصة بعد تفسخ عزائم المقاومة المتمركزة عند مداخل ومخارج الأنفاق.»
***
حصل جاك وفهمان على درجة البكالوريوس بدرجة امتياز بعد أن قضيا أربع سنوات أبهرا فيهنّ كلَّ مَن له صلة بعلم الفيزياء.
كان بكالوريوس فهمان في الفيزياء النظريّة، بينما جاك فبكالوريوس في الفلك وعلوم الفضاء.
ولقد أسرّ جاك لفهمان برغبته في الالتحاق بوكالة ناسا وعمل الدراسات العليا في بيركلي، كذلك أسرّ فهمان هو الآخر لجاك برغبته في عمل الدراسات العليا في جنيف ليكون قريبًا مِن مصادم سيرن الجديد FCC-1 حيث يريد أن يتدرب عليه.
احتفلا معًا، وتبادلا الحديث بشأن الفترة المقبلة، وقد عزما على استكمال الدراسات العليا بطبيعة الحال. ولقد بدا عليهما طموح الشباب الجامح؛ هذا الطموح العاصف الذي يعتري المتفوقين ولاسيما الأفذاذ منهم، ولقد ظلا يتبادلان البسمات ويطنُّ كلٌّ منهما في أُذن الآخر الدعابات والنكات التي تجود بهما قريحتاهما فتهزّهما الآمال العِراض والأحلام الوردية. ولقد باغتهما الليل وهما على هذه الحالة، وفور أن ذهبا في النوم تبدل حالهما. حيث يرسل إليهما ربُّ النّصارى والإسلام رسالة لكلٍ منهما، تحملان في مضامينها عبء الحفاظ على العالم مِن الفناء.
وهذه هي المرة الثانية التي يرسل الله فيها رسله (أوّل مرّة كانت هي مبيت أول ليلة في المدينة الجامعية ببيركلي).
هبَّ جاك فزعًا وسط صراخ فهمان الذي يستغيث بقوله: «أغيثوني، أغيثوني.»
هرول نحوه، ثم سأله: «هل عاودك الكابوس كما عاودني؟»
أجابه وجسده يرتجف: «نعم.»
– «أهذه هي المرة الثانية؟»
– «نعم، مرّتان فقط، لكن أبي رأى لي نفس الكابوس.»
سكتا معًا متدبرين، قال فهمان بعدها: «تدبّرتُ أمر هذا الحلم، وحاولتُ أن أفكَّ طلاسمه بنفسي، ولم أهتدِ إلّا لأمرٍ واحد، أمر واحد.»
عاجله جاك قائلا بشغف: «ما هو؟»
– «هو أنّ العالم سيأتي عليه يوم سيكون على شفا حفر الهلاك، وكلانا سوف يكون المخلّص، لأننا نمتلك العلم والبذل والفداء.»
نظر إليه جاك ولم ينبس بكلمة، ولكنه مؤمن بما قاله فهمان؛ لأن ذلك الشعور يعتريه من الأساس، ولم يفارقه قط، وشعر به أول ما شعر مذ قابل فهمان أول مرة.
***
بعد مرور قرابة أربعة عشر شهرًا على الثورات العربيّة والثورة المصريّة نجد رئيس المخابرات الأعلى لإسرائيل يصرخ من داخل أجهزة المخابرات الإسرائيلية: «اِستمروا في تنفيذ قرارات الكابينت، لقد نجحتم نجاحًا ساحقًا في تمزيق أشلاء المنطقة العربية إلّا هذا المعتوه المسمى ب “مهديّ”.»
***
يجلس جاك وفهمان الآن في حجرة المسكن صامتين، كلاهما ينتظر رسول رئيس الجامعة لمقابلته خلال عدّة ساعات.
يحاولان أن يطردا مِن قلبيهما شبح الفراق الملتهب، ذاك الفراق القاتل الفتّاك لأن كلاهما ليس له أهل ولا عشيرة، ووجدا السلوى والأنسة في بعضهما. طال الصمت ولم ينبس أي منهما بأي كلمة.
وثب فهمان قائمًا، وفتح التلفاز؛ كمحاولة منه لتفتيت كثافة الصمت القاتل، ومشاهدته لحين الخلاص بتسديد رصاصة الرحمة، وعلى قناة السي إن إن .
وجد القناة تعرض عناوين الأخبار.
يقول الإعلامي: «إليكم أيّها المشاهدون عناوين الأخبار: انتخابات الرئاسة الأمريكيّة تخوض مرحلة غير مسبوقة من تاريخها… سفن حربية أمريكيّة تدخل تايون ردًا على تعويم ال «يوان»… الثورات العربيّة بعد أربعة عشر شهرًا تقريبًا مِن انطلاقها تتحوّل إلى حروب أهليّة وانقسامات داخل الجيوش…. سقوط أكثر مِن مائة قتيل في مسجد سنّي كبير بمصر ردًا على اشتعال الحرائق في عشرين كنيسة مصريّة أمس… إسرائيل تؤيّد حقَّ البلاد العربيّة في امتلاك السلاح النوويّ تحت شعار صهيوني جديد «الديمقراطية النوويّة»…. اليهود تسيطر على أكثر مِن 60% مِن اقتصاد العالم… المقاومة الفلسطينيّة تناشد المجتمع الدولي بفكِّ الحصار على الأنفاق، وكالتا ناسا والفضاء الأوربيّة على وشك الانتهاء مِن عمل محطة شمسيّة على سطح القمر، وروسيا تسعى لبناء محطة خاصة بها….
والآن إليكم تفصيل الأخبار …يقول جورج رامسفيلد بأنّ ..»
أغلق جاك الجهاز في هذه اللحظة.
فضحك فهمان وجاك ضحكات ساخرة، قال فهمان: «لقد استغنيتَ من رمضاء فراقي بنار العالم فاكتوينا.»
وتابع كلامه بعدما امتقع وجهه لحظات: «ماذا يريد هذا العالم بالضبط؟ التدمير؟ بئس ما يصنعون!»
ردَّ جاك متبرّمًا: «تلك الأحداث تذكّرني بالحرب العالميّة الأولى والثانية.» سكت هنيهة، ثم أخذ يهز رأسه قائلا: «ألم أقل لك من قبل، إنّ العالم يطرق أبواب الحرب النوويّة.»
– «هو كذلك بالفعل، خراب المنطقة العربيّة يمثل نوعًا من التمهيد الإسرائيلي لقيام الحرب النوويّة، كان أبي يكلّمني كثيرًا في هذا الشأن؛ لكني لم أرد الدخول في دهاليز السياسة وأبواقها وقتئذٍ.»
– «أبوك كان رجلاً عظيمًا يا فهمان رحمه الربَّ، ألم تفكر يا فهمان مطلقا في كلام أبيك؟!»
– «بعد تلك الأحداث العاصفة التي تمر بها أمتنا العربية أود أن أعرف الآن كيف لهؤلاء إثارة العالم من خلال خراب منطقتنا.»
حرّك جاك يده اليمنى ذهابًا وإيابًا بمحاذاة الأرض بطريقة أفقية وقال وهو لا يزال يحرك: «لابدَّ مِن تعبيد الطريق لدخول قوى العالم إلى الشرق، حيث إن توراتهم تنص على دخول هذه القوى منطقة الشرق الأوسط، ثمّ زحْف هذه القوى إلى وادي مجدو بفلسطين، ثمّ زحفها أخيرًا إلى سوريا حيث الملحمة الكبرى -وهي معركة آخر الزمان- ولكي يتمَّ لهم ذلك لابدَّ مِن استنفاد القوى الحيّة في المنطقة عن طريق البدء بالثورات والاحتجاجات والاعتصامات ضد الأنظمة الحاكمة تحت مظلة الديمقراطيّة، وحقّ تقرير المصير للشعوب، والذي بدأوا فيه منذ أربعة عشر شهرًا تقريبًا، وللأسف قد حقّقوه، ثمّ عملوا على تأجيج هذه الثورات للتحوّل إلى حروب أهليّة وانقسامات داخل الجيوش، وقد نجحوا أيضًا في ذلك.»
بلغ قلبُ فهمان حنجرتَه ثمّ قال: «ثمّ ماذا بعد.»
– «الانقسامات.»
– «انقسامات! أهناك انقسامات غير تلك التي ذكرتها آنفًا؟»
– «نعم، بعد الثورات والحروب الأهليّة وانقسامات الجيوش يتبقى انقسامات الدولة الواحدة إلى عدة دويلات صغيرة حتى يمهّدوا الطريق للخطوة التي تليها.»
– «وما هي؟»
– «إثارة الدول أو الدويلات على بعضها حتى يضربون بعضهم بعضًا، ثمّ تنزل القوات الأجنبيّة أرض العروبة.»
صمت جاك هنيهات يتأوه ثم استأنف متوجعًا: «والمخطط لم ينته إلى هذا الحدّ؛ بل هناك تنازع هذه القوات على المواقع الإستراتيجيّة في المنطقة، فتقع الواقعة وتقوم الحرب العالميّة الثالثة؛ بينما هم يقفون منتظرين هلاك العالم لينقضوا عليه بعد ذلك، ثمّ يبنون الهيكل على أنقاض الأقصى، وينتظرون المسيا الملك؛ ليحقق لهم ملك العالم، ومن إحدى خطواته العمل على تدمير أمريكا وحلفائها.»
كان فهمان يتوجع من داخله أثناء كلام جاك، ثم صرخ: «رحماك يا رب.»
وعم الصمت المجلس بضع دقائق، كان فهمان يبكي خلالها، ثم تماسك وسأل جاك وهو يمسح خنين أنفه بإبهامه وسبابته: «قلتَ إنّ المخطط الصهيونيّ يسعى إلى تدمير الشرق، فِلمَ تؤيّد حقّ البلاد العربيّة لامتلاك السلاح النوويِّ؟ أليس مِن الأَوْلى نزْع هذا السلاح ليسهل لهم السيطرة على المنطقة؟»
أقام جاك إصبع إبهامه رأسيًا، وظل يحركه يمينًا ويسارًا وهو يقول: «المنطقة العربيّة محدودة القوى، وامتلاكها للنوويّ سيؤدّي إلى احتراق المنطقة كلّها بدمار شامل، إسرائيل لا تريد دخول القوات الأجنبيّة بسهولة، فالخطة الأساسيّة هي استنفاذ القوى الحية لكلِّ جيوش العالم، وامتلاك المنطقة للنوويّ سيؤدّي تبعًا إلى هلاك خلْق كثير مِن الطرفين…العربيّ والأجنبيّ.»
قال دهشًا: «ألَا تخشى الكتل المشاركة في الحرب النوويّة مِن الجيوش العربيّة وقتئذٍ؟»
– «لا، لا، امتلاك دولة أو اثنتين للنوويّ لن يؤثر على خط سير المخطط.»