دراسة ذرائعية بإستراتيجية الاسترجاع
كتبت: د. عبير خالد يحيي.. ناقدة سورية
مقدمة إغنائية:
أدب الجريمة: هو نوع أدبي من الروايات التي تركز على الأفعال الإجرامية, وخاصة على التحقيق, سواء من قبل أحد المحققين الهواة أو المحترفين في جريمة خطيرة, وبشكل عام جريمة قتل.
وهذا ما لا ينطبق على رواية (وكر السلمان) للشاعر والأديب شلال عنوز, فالرواية ليست بوليسية, محور الأحداث الرئيسي لا تدور حوله مجريات تحقيق جنائي للكشف عن الجريمة وهوية المجرم, الكاتب استهل العمل بالتعريف ببطل العمل, قدّمه منذ البداية بما يدّل على أنه قاتل متسلسل, ارتكب جرائمه المتكررة في ذات المكان, وخلال فترة زمنية معينة, معتمدًا آلية واحدة في القتل, وبقيت الجرائم لا يعلم بها إلا منفّذها, واعتُبر الضحايا في قيد المختفين جنائيًّا وليس في قيد المقتولين, فالتحقيقات الجنائية لم تأخذ مجراها إلا في الثلث الأخير من الرواية, شاغلة مثلث الانحسار الذي انقلب من بعد العقدة باتجاه النهاية.
الغريب أيضًا أن الكاتب لم يقدّم لنا البطل (نعمان) بصورة القاتل المتسلسل الذي تنطبق عليه الصفات الأساسية في شخصية القاتل المتسلسل, المستنتجة من الكثير من الدراسات السيكولوجية التي درست شخصية القاتل المتسلسل وخلفيته, والتي ترى أن الأغلبية الساحقة منهم أكثر من 90% من الذكور, يأتون من خلفيات عائلية مضطربة أو مفككة أو مستبدة, وغالبًا ما يكونون ضحايا الاعتداءات الجنسية أو الذهنية أو الجنسية, ومع أنهم أذكياء إلا أنهم عمومًا لا ينجحون في الدراسة, ويظهرون تصرفات عنيفة في سن مبكرة مثل تعذيب الحيوانات أو تشويه الذات أو محاولات الانتحار, يكبرون بميول جنسية منحرفة, يترافق أداءهم الجنسي بطقوس سادية مازوشية أو فتشية.
وهم لا يشعرون بالندم مطلقًا, فالقتل عندهم يتم بصورة عفوية, أما القاتل المتسلسل الذي قدّمه الكاتب فكان على النقيض تمامًا, فنعمان ينحدر من أسرة مثالية, هو الابن الوحيد لأبوين متحابين, مثقفين, الأب على الرغم من أصوله البدوية إلا أنه كان تاجرًا يشهد له الجميع بالاستقامة, كما يشهد سلوكه على نبل المبادئ والأخلاق التي يتبناها, والتي نجح في غرسها في وحيده, فنشأ نشأة صالحة, وتفوّق على أقرانه في الدراسة ودخل كلية الحقوق التي أرادها له والداه, وعندما توفي والده أورثه تركة من الأملاك والأموال تجعله يعيش في بحبوحة تغنيه عن أي احتياج مادي, كما أنه لم يتعرض لأي عنف أسري أو جسدي, وعندما أحبته سناء الشابة المنحدرة من أسرة برجوازية إنما أحبته لكياسته وكرمه ومروءته ونبل أخلاقه, ورهافة إحساسه ومشاعره, فهو شاعر ينطق لسانه شعرًا وأدبًا… أما عن الندم, فقد كان عند نعمان طقسًا دائم الحضور, لا يقطعه إلا لحظات تنفيذ الجريمة:
بعد كل عملية قتل ينفذها نعمان في وكره الشيطاني, يرمي السكين جانبًا, ويجلس قرب المجني عليه ويجهش بالبكاء, ثم يعانق الجثة الهامدة ويمسح ببقايا دم الضحية على وجهه, وحينما يشم رائحة الدم يهدأ كأنما نسيم من طمأنينة طاف روحه, ثم يبدأ عمله الشاق والمضني بدفن الجثة في ذلك النفق.
التبئير الفكري:
إن ما تقدّم, يجعلني أميل إلى افتراض أن الكاتب ما أراد أن يوجه ثيمة عمله باتجاه أدب الجريمة المتعارف عليه, وأنه ما قصد أن يكون بطل روايته قاتلًا متسلسلًا كشخص أو كفرد, فالكاتب أذكى بكثير من أن يقع في هفوة كهذه, فهو محام, درس المحاماة وامتهنها ويعرف كل ما قدّمتُ له في هذا الإغناء السابق, لكنه قصد أن يكون بطلُه- كقاتل- كاسرًا لأفق الواقع, مندخلًا في فضاء المحتَمَل, ليس فقط البطل كشخصية, وإنما أيضًا الأحداث ككل, وأراه يوجّه القارئ ليكون أكثر تشكّكًا, فلم يلاعبه على حبل التشويق, وإنما قطعه عليه ذاك الطريق حينما كشف حقيقة البطل من بعد الاستهلال بقليل, وكأنه يقول: إن بطلي من طينة طيبة لكنّه طغى!
وهنا سنعود إلى الدراسات التي أشرت إليها, والتي تتمحور حول فكرة أنه تمّ تشكيل القتلة المتسلسلين على ما هم عليه, ولم يولدوا على هذه الهيئة, وأنهم نتاج التجارب الوحشية المبكرة في حياتهم, لكن الكاتب أخرج كلمة( المبكرة) واستبدلها بكلمة ( الطارئة), وعلى هذه (التجارب الطارئة ) بنى المحور الرئيسي أو الثيمة الرئيسية في الرواية, ألا وهي تجربة الحرب بالعموم, والحرب العراقية الإيرانية بالخصوص, التي حصدت من الأرواح والحيوات ما أتخمها لسنوات زادت عن الثمان, مات الأنس وتكاثرت الشياطين في العقول التي عجزت عن احتمال وقع الصدمة, وفي النفوس التي كمن فيها الشذوذ فقوّى فيها نزعة العنف, فغيّب عنها الضمير, وجعلها ذكاءها وتحكّمها الواقعي في أفعالها بعيدة عن سطوة القانون لفترة طويلة, قابل ذلك افتقارها إلى الشعور بالذنب الذي إن راوَدَها يكون آنيًا يزول بسرعة, وهذا ما يبرر قدرتها على تعذيب الآخرين دون وازع من ضمير, أليس هذا هو واقع كل الطغاة من القادة الذين ارتكبوا الويلات بحق شعوبهم, وكل يقينهم أنهم يستحقون( أن تموت الرعية ليحيا الملك)؟!.
سنرى أن الكاتب قد أحاط بكل المؤهبات الخارجية التي أسست لتشكيل البطل القاتل, بإسقاطاتٍ عامة على أرضية الطغيان, لكنه حام حول الحقيقة البيولوجية دون أن يدخل في تفصيلها, الحقيقة التي تفسّر لنا بشكل تشريحي قد يكون قاطعًا كيف يختلف سلوك الناس اتجاه نفس التجربة, فمن غير المعقول مثلًا أن يتحوّل جميع الناس إلى قتَلَة إن أصابتهم شظية أكلت عضوًا من أعضائهم! حتى ولو كان العضو الذكري كما حصل مع بطل الرواية ! هنا نسأل هل الاختلاف بين الأسوياء والسفاحين المحتملين مردّه إلى خلل دماغي أم نفسي؟ بيّنت الدراسات أن هناك اختلاف بالمبنى الدماغي بين الأسوياء والسفاحين, “فوجدت عدّة دراسات أن هناك خللًا في الجزء الأمامي من الدماغ وفي منطقة الحصين وسط الدماغ وفي الجهاز الحوفي limbic system والذي يتسبّب بسلوكيات عدوانية متطرّفة, كفقدان السيطرة واتخاذ قرارات خاطئة”. بمعنى أن هناك شذوذ بيولوجي عند السفاحين, تذكّر بالإنسان البدائي أو غير المتطور, وهذا ما لا يمكن الجزم به في حال بطل روايتنا إلا لو تمّ الكشف على دماغه فعليًّا, لذلك وجّه الكاتب فكره منطقيًّا باتجاه الخلل النفسي, مركّزًا على العناصر التي تكوّن الشخصية, بمستوياتها الثلاث من الأسفل إلى الأعلى: الهوَ (الغرائز), وال (أنا) الشخص نفسه, وال (أنا العليا) الضمير.
فإذا صعدت الغرائز (الهو) إلى (الأنا) يتم إشباعها دون النظر إلى أي اعتبارات (أخلاقية أو دينية), لذلك يقف الأنا الأعلى (الضمير) رقيبًا بين الفرد وغرائزه, فيضبط سوية الفرد, فإن لم يفعل, يكون هناك خلل نفسي يُخرِج الفرد من خاصية الإنسان السوي, باتجاه النمط المتوحّش البدائي أو الإنسان غير المتطوّر, وعلى هذا الخلل النفسي بنى الكاتب شخصية البطل نعمان.
إذًا, نحن أمام عمل روائي قصد فيه الكاتب أن يسرد فيه ويلات الحرب الإيرانية العراقية, عبر شخصية مختلّة إنسانيًّا, هي بالإسقاط المنطقي شخصية (الطاغية), بغضّ النظر عن الخلل الفني في بناء تلك الشخصية, فإن كان سرد أحداث تلك الحرب بكل الأهوال والويلات قد جاء سردها على لسان شخص طاغية مختل إنسانيًّا, فكيف لنا أن نتخيّل الحجم الحقيقي لإرهاب وويلات تلك الحرب؟! وكيف لنا أن نتخيّل فداحة نتائجها؟! حول هذه الثيمة ألّف الكاتب روايته هذه, هي رواية أدب حرب, وجرائم القتل إحدى نتائجها الفادحة.
يؤكد ذلك ما أورده الكاتب في الصفحة 35:
…. الحرب هي التي كبّلته بقيود الوجع, فعطّلت الحياة وشيطنت الفطرة, حوّلت الإنسان من كائن وديع إلى قاتل مفترس, جرّدته من ثوب إنسانيته, الحرب تغرس شجر العداء وتوقد نار البغضاء, فتبثّ صراخ الفناء في نفوس البشر وتقتلع فسائل الحب من الجذور….
فالتجنيس: رواية واقعية من نوع أدب الحرب.
الخلفية الأخلاقية:
حمل العمل الكثير من الرسائل الوجدانية الإنسانية, بعضها كانت مباشرة, والبعض الآخر إيحائي عبر سوق قصص فيها العبر والمواعظ, وكلها تدعو إلى فكرة السلام المجتمعي, الذي لن يتحقق إلا بتحقق السلام الإنساني, وهذا لن يكون إلا بتحقق السلام العالمي, وهذه العلاقات هي علاقات عكسية تقبل اتجاهات سهمية متوازية ومتعاكسة.
وبدأ بتحديد مشكلات الأمة من النواة, الفرد, الإنسان, الذي خاض حربه الخاسرة ضد الإنسانية, فانتهى قاتلًا أو مقتولًا, وكان لزامًا على الكاتب أن ينظر في العمق السيكولوجي والأيديولوجي للإنسان الطاغية, والضحية على حدّ سواء, وأن ينظر أيضًا بشمولية تاريخية وثقافية من الخارج, فأشار إلى ابتلاءات الأمة:
هذه الأمة ابتليت بالفتن والجهل والخرافات, ونكبت بالطغاة الذين كانوا أشد فتكًا بها من الأعداء.
واستعرض ويلات الحروب, التربة الخصبة التي ترعرعت ونمت وشاعت فيها الجريمة بشرعية العنف والإرهاب لضمان ديمومة الشر, و شيطنة النرجسية في عقول شذّت عن الإنسانية لتدخل في حيّز الوحشنة الحيوانية, يقول:
إن الحرب لا تورث سوى الويلات والدمار والقتلى والأيتام والمعاقين والنفوس المريضة, ومن قال إن الحرب فيها منتصر؟! وهي تسرطن النفوس…
لم يتطرق الكاتب لموضوع الطائفية أبدًا, بل نظر إلى الحرب العراقية الإيرانية على أنها حرب بين جارين, بالدرجة الأولى, انتهكا حقوق الجيرة إنسانيًّا, ثم مسلمَين بالدرجة الثانية, دون أن يذكر الانتماء الطائفي لأي من البلدين, إذ يكفي أنهما انغمسا في مستنقع الحرب الآسن, لينزع عنهما رداء الإنسانية أولًا, والإسلام ثانيًا, ليرتديا ثوب الحمق والغباء والمرض والطغيان.
يؤكد الكاتب على أن المرأة هي معادل موضوعي هام في الحروب, تطرحها الحرب ضحية, مقتولة بجرم الجسد وجرم الحاجة, المومس التي التقاها نعمان في حانة, كانت زوجة وأم, سرقت الحرب منها عائلَها, واضطرت لبيع جسدها, وكان تجارة رائجة أفرزتها الحرب بكثافة, لتعولَ الأفواه الصغيرة الجائعة. حتى هذه المومس جعلها الكاتب تبوح بالندم والاعتراف بالخطيئة, وتنوي التوبة.
أدان الكاتب الجريمة, ونصر العدل, وهاهو جاسم ابن عم نعمان يتبرّأ من مشاعر الحميّة اتجاه نعمان, ويلبي نداء الواجب الإنساني والأخلاقي والقانوني, ويترأس قوة للقبض على ابن عمّه دون أي تردّد, فالكاتب لم يدع منفذًا لمجرم, وربما كانت النهاية التي جعلها مفتوحة أكثر تشدّدًا من حكم القانون, فالموت البيولوجي محكوم به كل البشر, يختلف الناس بدروب العبور إلى الموت, ودرب العبور الذي اختاره الكاتب للمجرم نعمان هو درب الشقاء بكل ألوانه, فهل أصعب من حياة فأر هارب في الصحراء؟!