” الحياة أمل، فمن فقد الأمل فقد الحياة”
– أفلاطون –
بادىء ذي بدء من المهم الى المختصين أو الفضوليين من الناس الاشارة الى أن رواق الفلسفة يقود الى مادة فكرية تجمع بين الأدب من جهة العبارة والأسلوب والعلم من جهة المنهج والنسق وتعني حب الحكمة والرغبة في المعرفة والبحث عن الحقيقة وإضفاء المعنى وتشريع القيمة وتعلم الانسان طرق التفكير وتدربه على فنون الحياة الجيدة وتبعده عن الوقوع في الآفات وتدفع عنه المضار وترشده الى جلب المنافع وتهديه الى الطريق المستقيم وتساعده على الارتقاء.
اذا شخصنا واقع الفلسفة في حضارة إقرأ نجدها تعاني من أزمة عميقة وتوجد في ورطة وسوء تفاهم دائم مع الفضاء العمومي بل ان اسمها نفسه يثير مشكلة ويصطدم بجدار الواقع الذي يصدها ويحد من اشعاعها وبروزها وهذه الخصومة بين الفلسفة والجمهور ناتجة عن عودة الديني وتصاعد أسهم الفقهاء وهيمنة الفهم الظاهري للنص وكثرة التقليد وكذلك استقلالية العلوم وتطور التقنيات واستبداد المقاربات المنهاجية الصارمة بالأروقة المعرفية واقتناع الجموع برسالة العلماء والحل التقنوي وايمانهم بالنجاعة وعزوفهم عن التفكير المعمق والقعود عن التأمل وزهدهم في الحكمة وتغييبهم للسعي نحو المعرفة لغاية المعرفة وجريهم وراء المعرفة للمصلحة ورضاهم بالمغالط والمغشوش والتعجل في الحكم من دون جودة روية مع سوء التمييز. غير أن دور الفلسفة في الحضارة العربية الاسلامية كان كبيرا وأهميتها في الحراك الاجتماعي زمن الانتفاضات كان حاسما وملفتا للانتباه والمكانة التي احتلتها بين العلوم الأخرى كان مرموقا.
لقد أوجد الناطقون بلغة الضاد تحالفا عجيبا بين اللوغوس الاغريقي والبيان العربي وجعلوا من النحو العربي والمنطق اليوناني يسيران جنبا الى جنب الى درجة أنهما يتقاطعان ويتكاملان في تحديد العلاقة بين الفكر واللغة وبين الكلام والوجود وبين الشعر والعلم وبين البرهان والعرفان.
من المعلوم أن الفلسفة تسعى الى الخروج عن المألوف والتمرد عل السائد وتنقد بشكل مستمر الحياة اليومية وتشكك في البديهيات وتعمم المساءلة على مجموع اليقينيات الجاهزة وتبطل مفعول المعتقدات الموروثة وتقي نفسها من مرض التبرير عن طريق الحجج الكسولة وتتفادى التجميل الايديولوجي للواقع البائس وتحاول النأي بنفسها عن مفاسد السلطة وتحرص على ألا تقع في المحافظة والانتهازية والنفاق وذلك عن طريق الانحياز الى المظلومين والانتماء الى الفكر المعارض والحلم بالثورة والتغيير والبناء.
زيادة على ذلك إن الخطاب الفلسفي هو خطاب ثوري بالضرورة وذلك لأن الحقيقة الفلسفية هي حقيقة ثورية وأن المهمة الرسالية للفلسفة هي تشخيص الأمراض ومداواة عقم الشعوب وتأسيس المدينة الانسية على دعائم عقلانية وقيم تقدمية ومبادىء كونية مثل الانصاف والصفح والتعايش والسلم. كما يمتاز الفلاسفة بالترحال الوجودي ويقومون بدروس قاسية ويبتلون بتجارب ومحن وجودية عسيرة وينخرطون في التجريب مر المذاق على اصحاب الأذواق الهابطة وصعب التحمل على القلوب الرهيفة والنفوس المبتورة والخانعين للسلطة والقانعين بالحياة الثكن.
في كل الأحوال لم يزد تدريس الفلسفة في السنوات النهائية من التعليم وإحداث أقسام للفلسفة في الجامعات سوى علو الأسوار وسماكة الجدران التي تعرقل التفلسف وتمنع الفكر الحر من النماء. لقد تحولت البرامج التعليمية والمؤلفات الرسمية الى عوائق معرفية ومسلمات قبلية تجهض تجربة السؤل لدى الناشئة وتمنع العقول المرتابة والقلوب الحائرة من اتقان فن التشرد على حوافي الوجود والإقبال على المطالعة برؤية متنوعة والانتشار الاقليمي في الكون بلا تحفظ.
الاشكالي أن المراهنة على الفلسفة في الزمن التأسيسي هو ما ليس منه بد وضرورة مفصلية ومطلب ملح والانصات الى الخطاب الفلسفي هو لزومية وجودية وتشريعية ورغم ذلك نرى الكل يدير ظهوره للفيلسوف ويضرب عرض الحائط بالبحوث والتحقيقات الفلسفية والحكمة الحية.
ربما الفوز الكبر من التدريب على الحكمة هو ادراك حياة هادئة وفضيلة السعادة وغبطة الخير الأسمى ولذلك يمكن الاحتجاج على لغة الفلاسفة الصعبة والمنهج المعقد والمتاهات التي توقع فيها الأبنية النظرية التي يشيدها الخيال العلمي ولكن يعجز اللسان البهجة التي تغمر المرء حينما تكلل جهوده الفلسفية على الصعيد النظري والعملي بالنجاح ويرى ثمرة عمله تبرزن للعيان بجلاء ويضع نفسه على ذمة مجتمعه من أجل المساعدة والإحساس بالغير والتشجيع على المودة.
من هذا المنطلق لا يمكن الحديث عن آفاق رحبة للفلسفة وانبعاث لها واستئناف مديني للإنسية العربية إلا توقف الفكر الابداعي عن السكن في الأبراج العاجية للنخب وتلقفته الأيادي العاملة وسكن الالتزام السياسي وجدان المثقفين وبادر الكتاب نحو خوض معركة النضال الاجتماعي. لعل قدر الفلسفة على وجه الحقيقة أن تحطم الأرقام القياسية للمعارف الأداتية وتخطي الحدود.
ألا يليق بالفلسفة مساعدة الانسان على البحث عن ذاته وتمكنه من دراسة الشخصية والوعي بالعالم؟ وما قيمة تشخيص فلسفي يعجز عن تطهير الهويات من دنس التمركز والجهالات ويدفع بها في يم الكلي بلا قوارب نجاة وأشرعة عتيقة؟ وهل قدر الفيلسوف أن يأتي في غير زمانه استباقا وتأخرا بالرغم من تكرر المناداة عليه بالقدوم والمطالبة الدائمة بلزومية العود على بدء؟
كاتب فلسفي