24 ديسمبر، 2024 3:16 م

في رحاب “السيد” .. القادم إلى البيت الأبيض ! (4)

في رحاب “السيد” .. القادم إلى البيت الأبيض ! (4)

خاص : كتب – محمد البسفي :

4 – هل مازال “السيد” مسيطرًا ؟

بداية تحت ظلال “البخور المقدس”

.. وبين أداء القداس الإلهي في كنيسة واشنطن الكاثوليكية؛ وحلف اليمين الدستورية على إنجيل العائلة المقدس.. اختار جوزيف بايدن دخول عهده “رسميًا”، الذي أراده – هو ومن حوله من صقور وحمائم البيت الأبيض – أن يشهد عودة الولايات المتحدة الأميركية لمكانها الرائد والقائد لدول العالم.. وكما كان عهد “باراك أوباما” إنطلاقة جديدة لعودة واشنطن إلى وجهها الديمقراطي/التنوعي؛ بعد تلوثه في عصر “جورج دبليو بوش”، بالحروب والغزو المباشر ودماء النازحين على الهوية، كما أرادت الآلة الدعائية الإعلامية الأميركية التصدير لنا، بثت آليات نفس الآلة صور “جو بايدن” كقديس يرد الولايات المتحدة إلى طريق الحريات والديمقراطية الرشيد؛ حامية للاستقرار العالمي وحقوق الإنسان والمجتمعات المستضعفة، بعد عصر الجنون “الترامبي” الجامح؛ الذي جنح بإدارته كرجل أعمال للبيت الأبيض.. ولكن: هل هذه هي الحقيقة ؟

لو أردنا تنظيف الصورة الحقيقية لوجه “الولايات المتحدة الأميركية” ونفض مساحيق التجميل والتلوين الدعائية لآلتها الإعلامية العالمية الطاغية؛ لتلمس ملامحها الأصيلة التي تبرز في مفاهيمها الخاصة حول: “استقرار المجتمعات وحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية التعددية” وغيرها من القيم بصبغتها الأنغلوأميركية، التي طالما فرضتها إدارات واشنطن، على مدى تاريخها منذ البدأ، بقوة الغزو والتدخل العسكري المباشر وبسطوة السلاح المتطور، لم تهتز وتتساقط كأقنعة مهترئة إلا في الشهور القليلة الماضية.

محنة أميركا

ربما أبلغ ما يؤشر على حقيقة ما تحياه الولايات المتحدة الأميركية، اليوم، من أزمة ترتقي إلى مستوى المحنة التي قد تؤدي بها كقوة عظمى مهيمنة عالميًا، ليس فقط على مستوى الحكم فحسب بل على مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية، تلك الوثيقة التي أعلن عنها “البيت الأبيض”، في نهاية الأسبوع الأول من شهر آذار/مارس 2021، وقد أصدرها في 24 صفحة تحت عنوان: “إستراتيجية الأمن القومي الأميركية” المؤقتة؛ داعية إلى حل النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط التي تهدد الاستقرار الإقليمي، مشيرة إلى حل الدولتين للصراع “الفلسطيني-الإسرائيلي”، وأكدت الإستراتيجية الأمنية الأميركية الإلتزام بأمن “إسرائيل” وتشجيع السلام بينها وبين دول المنطقة، واعتبرت أن القوة العسكرية ليست الرد المناسب على تحديات المنطقة.

وقالت الوثيقة إن: “الدبلوماسية ستكون مفضلة على استخدام القوة العسكرية”، وأضافت: “بينما نحمي مصالح أميركا على الصعيد العالمي، سنتخذ خيارات حكيمة ومنضبطة في دفاعنا الوطني والاستخدام المسؤول لجيشنا”. (1)

وكشفت الإستراتيجية؛ أن الوجود العسكري الأقوى لـ”أميركا” سيكون في منطقة “المحيط الهاديء” و”أوروبا”، بينما سيكون في “الشرق الأوسط” بما يكفي لتلبية احتياجات معينة والدفاع عن مصالح “واشنطن”، وقالت إن: “مصير أميركا أصبح أكثر إرتباطًا بالأحداث خارج شواطئنا، وهناك العديد من القضايا التي تُشكل تهديدًا للولايات المتحدة، مثل (كورونا)، وتغير المناخ العالمي، وصعود الاتجاهات القومية العالمية، والتغيرات التكنولوجية، والقوى المنافسة مثل الصين وروسيا”، ولفتت إلى أن العديد من المشاكل التي تواجهها الولايات مادية، مثل الحدود والجدران، مشيرة إلى أن النظام الديمقراطي في العالم، خاصة في “الولايات المتحدة”، تحت الحصار، وأشارت الوثيقة إلى أن “الولايات المتحدة” يجب أن تُشكل مستقبل النظام الدولي، وأكدت أن: “هذه المهمة مُلحة”.

وهنا يجب ملاحظة نقطتين أرادت الإدارة الجديدة للبيت الأبيض، تحت رئاسة، “جو بايدن”، إبرازهما – عن عمد – في إستراتيجيتها الأمنية لتحديد سياساتها المقبلة تجاه دول العالم – وبالتالي يُظهرا مدى تأزمها الحالي -، أولهما تضمينها “الاتجاهات القومية العالمية” كظاهرة تهديد عّدتها الوثيقة ضمن سردها لقائمة خصوم “الولايات المتحدة الأميركية؛ التي يجب محاربتها ومكافحتها مستقبلاً؛ بجانب “القوى المنافسة مثل الصين وروسيا”، ومن المفارقات أن نص الوثيقة الذي وضع الاتجاهات القومية كظاهرة صاعدة بدول العالم تهدد الهيمنة والسيطرة الأميركية عالميًا، متجنبة مفردة “اتجاهات اليمين المتطرف”، تُبرر استهداف القوى المنافسة مثل الصين وروسيا وغيرهما، بالطبع، بدوافع: “وطنية أميركية” (قومية) متعصبة للتفوق الأميركي !

ثانيًا؛ أصرت وثيقة “إستراتيجية الأمن القومي الأميركي” على تصدير فكرة أن “واشنطن” تعلمت من أخطاءها التاريخية السابقة وتُصر إدارتها الجديدة على حل المنزاعات الدولية وفرض ديمقرطيتها، “النموذج”، بالطرق الدبلوماسية والأساليب الناعمة؛ دون التطرق إلى التدخلات العسكرية المباشرة، وهذا ما صرح به وزير الخارجية الأميركي، “آنتوني بلينكن”، معلقًا على وثيقة إستراتيجية إدارته، قائلاً إن: “إدارة بايدن ستسعى إلى تغيير المسارات التي أتبعت في الماضي لتغيير الأنظمة في البلدان الأخرى من التدخلات العسكرية المكلفة، إلى إجراء حوارات دبلوماسية”، ورأى أن: “التدخلات الأميركية السابقة؛ شوهت سمعة الديمقراطية وفقدت ثقة الشعب الأميركي”، وأكد “بلينكن”: “سنقوم بالأمور بطريقة مختلفة، لن نشجع على الديمقراطية عبر التدخلات العسكرية المكلفة أو بمحاولة الإطاحة بالأنظمة الاستبدادية بالقوة، لقد جربنا هذه التكتيكات في الماضي، ورغم حُسن النية، إلا أنها لم تنجح”.

وأضاف: “جهود إدارة بايدن ستسعى إلى تشكيل سياسة خارجية جديدة؛ تتعارض مع الإنعزالية التي سادت خلال حكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، وشعار (أميركا أولًا)، كما ستسعى إلى تجنب الانتقادات التي تعتبر أن الولايات المتحدة تتدخل في كل بلدان العالم من أنحاء آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية”، معتبرًا أن: “العالم لا ينظم نفسه”، وقال إن غياب “الولايات المتحدة”، عن المسرح العالمي، أدى إلى: “فوضى أو قيادة بديلة قوضت المصالح والقيم الأميركية”، مشيرًا إلى أن “الصين” كانت الدولة الوحيدة، التي يمكن أن: “تتحدى النظام الدولي المستقر والمفتوح”، وأوضح: “عندما انسحبنا ملأت الصين مكاننا”.

لذا؛ يرى الدكتور “سومر صالح”، الباحث في القضايا الجيوسياسية، معلقًا على ما جاءت به إستراتيجية الأمن القومية الأميركية لإدارة “بايدن”؛ بأنّها تُركز على استعادة الأحادية القطبية الأميركية، والتخلي تمامًا عن مفردات: (أميركا أولاً)، التي حملتها وثيقة الأمن القومي السابقة، العودة إلى الأحادية القطبية، (القيادة والحفاظ على نظامٍ دولي مستقر ومنفتح، تدعمه تحالفات ديمقراطية قوية وشراكات ومؤسسات وقواعد متعددة الأطراف)، ومسألة استعادة الأحادية القطبية وقيادة النظام الدولي، هي مسألة حساسة ومهمة، فهي تعني إعلان المواجهة الإستراتيجية مع خصوم واشنطن الإستراتيجيين الدوليين والإقليميين”.

وتابع “صالح”: “حددت الوثيقة إستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ بأربع نقاط أساسية، هي: الإلتزام الصارم بأمن إسرائيل، وتعزيز تكامل إسرائيل مع الدول التي عقدت معها اتفاقيات إبراهيمية، وعدم إعطاء شركاء واشنطن في الشرق الأوسط شيكًا على بياض لمتابعة سياسات تتعارض مع المصالح والقيم الأميركية، إضافة إلى مواجهة إيران، لذلك ستقوم واشنطن، وفق الوثيقة، بتصحيح حجم الوجود العسكري الأميركي إلى المستوى المطلوب لتنفيذ هذه النقاط الأربع فقط”.

وهكذا تكشف وثيقة إستراتيجية الأمن القومي، في طبعتها “البايدونية”، صراحة وبالأسماء، الأشباح التي تخيفها وجاءت لكي تطردها وتحارب فلولها.. وتتركز في الإنعزالية التي تطالب بإنكفاء أميركا على نفسها، واستعادة نفوذها الصناعي وعودة أسلوب التصنيع لما قبل العولمة، وقد دخلتها “واشنطن”، في الطبعة “الترامبية”، وسمحت بقوى “قومية” منافسة مثل: “الصين وروسيا” بالصعود على المستوى الدولي. (2)

استقرار “التناقضات” : كمنهجية حكم بورجوازية

يرى “نيكولاس بولانتزاس”؛ إن الطابع البنيوي للدولة البورجوازية يعطي حضورًا خاصًا للطبقة السائدة في أجهزة الدولة المتعددة: (الأجهزة التنفيذية – البرلمان – الجيش – الشرطة – القضاء – الإعلام – الأحزاب… الخ)، من خلال دوائر وشبكات وقنوات موزعة في الغالب، حسب المصالح المتعارضة لسائر أقسام هذه الطبقة وللقسم الممسك بالسلطة فيها، وحسب تناقضات أقسام هذه الطبقة مع بعضها البعض أو مع الجماهير الشعبية. (3)

لذا فإن هذا الحضور لمختلف طبقات تكوين اجتماعي معين – وحضور ما بينها من تناقضات بالتالي – في بنية الدولة (جهازًا وسلطة)؛ هو الذي يفسر معظم الظواهر التي تستعصي على الفهم في ضوء منظور دوجماطيقي وغير مادي، وغير جدلي، من هذه الظواهر :

  • حلول وسط، وتكتيكات مرنة ومتناقضة في جانب: كالجهاز الإعلامي، تتعارض مع جانب آخر: كالجيش أو التعليم أو القضاء.
  • عدم اتخاذ قرارات، أو اتخاذها دون تنفيذها.
  • تحديد أولويات في البناء التنظيمي لجهاز معين؛ تتعارض مع أولويات أخرى داخل الجهاز ذاته.
  • تركيبة من التدابير المتصارعة أو الإمتصاصية التي تتحدد بحسب المواقف والمشكلات المعطاة.
  • استبدال مجالات السلطة الفعلية بمجالات جديدة صورية إذا ما رجح ثقل قسم طبقة مناوئة داخل هذا المجال، وإعادة تنظيم وحدة الدولة حول الجهاز المهيمن الجديد، الذي تهرع إليه الطبقة المهيمنة في الوقت المناسب، وهكذا تظهر بعض الأجهزة فجأة – أو تختفي في صمت – بعد أن كانت تلعب دورًا ثانويًا أو ديكوريًا.
  • تحويل الجماهير الشعبية، وخاصة البورجوازية الصغيرة والجماهير الفلاحية، إلى دعائم حقيقية للكتلة الحاكمة، وذلك بتفكيكها وتقسيمها عبر سياسات جزئية وموقوتة.
  • استثمار سلطة الدولة في توطيد السلطة الطبقية، من خلال الصراعات، التي ليست بطبيعتها صراعات طبقية؛ كالصراعات الجنسية بين الرجال والنساء أو الصراعات الطائفية أو الجيلية. (4)

وإن نجحت الولايات المتحدة، على مدار تاريخها، في تطبيق جانب كبير من شكل “خاص” للدولة البورجوازية الإمبريالية المهيمنة، سواء بآلياتها العسكرية الخشنة أو الفكرية الثقافية الدعائية الناعمة، إلا وأن سنوات حكم “دونالد ترامب” – الأكثر صراحة في إبداء الوجه الحقيقي للأميركي الذي أسس جمهوريته واتحدت ولاياته على أسس الدولة/الشركة الاستثمارية الكبرى الهادفة لجني الأرباح بكافة أنواعها؛ على خلفية شديدة اليمينية الدينية القحة الهادفة والخادمة لاستثمارات الشركة في جني المزيد من الأرباح – وتحديدًا شهوره الأخيرة – التي تجمعت خلالها عوامل شتى تهدد “شعلة الديمقراطية” في العالم وتهدد باشتعالها في الجسد الأميركي ذاته لكي لا يبقى منه سوى ملامحه الحقيقية التي بدأ بها.

الخريف الأميركي

فمنذ البداية.. تربط الأساطير الأميركية وجود البلاد بـ 67 من”الآباء الحجاج”، مهاجروا سفينة (ماي فلاور-May Flower)، وهم مجموعة من المسيحيين المتشددين الإنكليز الذين كانوا يعيشون كـ”جالية” في هولندا. وقد حصلوا من التاج البريطاني على مهمة الاستقرار في “العالم الجديد” لمحاربة الإمبراطورية الإسبانية هناك. نزلت إحدى مجموعاتهم في “ماساتشوستس”؛ وأنشأت مجتمعًا طائفيًا هناك، مستوطنة “بليموث”، (1620).

كانوا يفرضون الحجاب على نسائهم، وينزلون أقسى العقوبات الجسدية بمن يقترفون ذنبًا يُبعدهم عن “الطريق الطاهر”، ومن هنا جاء اسمهم: “الطهريون”. لا يعرف الأميركيون شيئًا عن الرسالة السياسية للآباء الحجاج وطائفيتهم. ومع ذلك، فإنهم يحتفلون بهم في يوم “عيد الشكر”.

صار لهؤلاء المتشددين، الـ 67، تأثير كبير على بلد يبلغ عدد سكانه، اليوم، 328 مليون نسمة. ثمانية رؤساء من أصل 46 رئيسًا هم أحفادهم المباشرون، بما في ذلك الرئيس، “فرانكلين روزفلت”، أو الرئيسان: “جورج بوش” (الأب والابن).

قام المتشددون بثورة في “إنكلترا”، حول اللورد “أوليفر كرومويل”. فقطعوا رأس الملك، وأسسوا جمهورية غير متسامحة، (الكومنولث)، وذبحوا “الزنادقة” الإيرلنديين (البابويين). يُشير المؤرخون البريطانيون إلى هذه الأحداث باسم: “الحرب الأهلية الأولى”، (1642 – 1651). وبعد أكثر من قرن من الزمن، ثار المستوطنون في العالم الجديد ضد العبء الضريبي الساحق للملكية البريطانية، (1775 – 1783). يُعرٍفُ المؤرخون الأميركيون هذه الأحداث باسم: “حرب الاستقلال”، على خلاف المؤرخين البريطانيين الذين يرون أنها: “الحرب الأهلية الثانية”. في الواقع، إذا كان المستعمرون الذين خاضوا هذه الحرب، هم من الفقراء الذين كانوا يقومون بأعمال مجهدة، فإن أولئك الذين نظموها كانوا من نسل الآباء الحجاج الذين أرادوا تأكيد مبادئهم الطائفية في مواجهة النظام الملكي البريطاني المستعاد.

وها هي بعد ثمانين عامًا، تتمزق الولايات المتحدة بفعل الحرب الأهلية، (1861 – 1865)، التي يشير إليها بعض المؤرخين الأميركيين باسم: “الحرب الأهلية الثالثة”، الأنغلوسكسونية. كانت تلك الحرب مواجهة بين ولايات وفية للدستور الأساس، تهدف إلى الحفاظ على الرسوم الجمركية فيما بينها، ضد ولايات أخرى كانت تريد على العكس من ذلك، تمرير الرسوم الجمركية إلى المستوى الاتحادي، وبالتالي إنشاء سوق داخلية كبيرة. ومع ذلك، كانت مواجهة أيضًا بين النخب البيوريتانية في الشمال، ضد النخب الكاثوليكية في الجنوب، بما سمح بظهور اصطفافات الحربين السابقتين.

يرى الصحافي والباحث الفرنسي، “تييري ميسان”؛ أن “الحرب الأهلية الرابعة”، الأنغلوسكسونية، التي ترتسم ملامحها اليوم، هي من نسج النخب البيوريتانية. وما يخفي هذه الاستمرارية هو تحول هذه النخب، التي لم تُعد تؤمن الآن بالله، لكنها تحتفظ بنفس التعصب. وهم ذاتهم الذين يكرسون أنفسهم الآن لإعادة كتابة تاريخ بلدهم.

ووفقًا لهذه النخب، فإن الولايات المتحدة الأميركية هي بالأصل مشروع عنصري للأوروبيين؛ فشل “الآباء الحجاج” في تصحيحه. ولا يزالون مقتنعون بضرورة إعادة تأسيس “الطريق الطاهر”، من خلال تدمير جميع رموز الشر: كـ”تماثيل الملوك، والإنكليز، والكونفيدراليين”. إنهم يتحدثون: “الصحيح سياسيًا”، ويؤكدون أن هناك العديد من “الأجناس” البشرية، ويكتبون “أسود” بأحرف كبيرة و”أبيض” بالحروف الصغيرة، ويتدفقون على ملاحق صحيفة (نيويورك تايمز) الغامضة. (5)

لذا يعتبر “ميسان” الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020؛ تؤكد الاتجاه السائد منذ تفكك “الاتحاد السوفياتي”، وتهدد “واشنطن” بنفس مصيره؛ فالسكان الأميركيون يمرون بأزمة حضارية، ويتجهون بلا هوادة نحو حرب أهلية جديدة ينبغي أن تؤدي منطقيًا إلى تقسيم البلاد. كما ينبغي أن يؤدي عدم الاستقرار هذا إلى نهاية الغرب كقوة عظمى. ويقطع الباحث الفرنسي بوجوبية موت “حلف شمال الأطلسي”، الـ (ناتو)، قبل الولايات المتحدة، تمامًا كما مات حلف (وارسو) قبل الاتحاد السوفياتي. “وفي الواقع، البلد منقسم منذ زمن. لم تُعد الولايات المتحدة تُشكل شعبًا واحدًا، بل أحد عشرة شعبًا مختلفًا”.

ويلاحظ أنه؛ عندما انتهت حرب الاستقلال أو الحرب الأهلية الأنغلوسكسونية الثانية، صاغ خلفاء “الآباء الحجاج” الدستور. فلم يخفوا رغبتهم في إنشاء نظام أرستقراطي على النموذج الإنكليزي، ويُظهر إزدراءهم للشعب. “لذلك، لا يعترف دستور الولايات المتحدة بسيادة الشعب، بل بسيادة حكام الولايات”.

عندما بدأت قوة الولايات المتحدة في الإضمحلال، (بعد سنوات طويلة من الحرب الباردة وزوال خصم عتيد، وظهور إستراتيجيات النظام العالمي الجديد محمولة على أجنحة العولمة وتطبيق نظم الاقتصاد العالمي الحر المفتوح بوجهه الشرس، والتي كانت أميركا من أوائل ضحاياه في التسعينيات)، وضع اللوبي الإمبريالي الذي يهيمن عليه “البيوريتانيون” في السلطة، أحد الأحفاد المباشرين للآباء الحجاج الـ 67، الجمهوري “جورج بوش الابن”. فنظم صدمة عاطفية، (هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001)، وقام بتكييف الجيوش مع الرأسمالية المالية الجديدة، تحت نظر مواطنيه المرعوبين. وواصل خليفته الديموقراطي، “باراك أوباما”، مسيرته بتبني الاقتصاد. لهذا اختار الجزء الأكبر من فريق ولايته الأولى من بين أعضاء: (مجتمع الحجاج). (6)

في عام 2016؛ حدث أمر مدمر للغاية، حين ترشح مقدم برنامج تلفزيوني يدعى: “دونالد ترامب”، كان يعارض تحول الرأسمالية وهجمات 11 أيلول/سبتمبر، لمنصب الرئيس. ما يهم هو أنه خلال فترة ولايته، عادت قرون من الصمت إلى الظهور علانية. “ها هم سكان الولايات المتحدة ينقسمون مرة أخرى حول البيوريتانيين”.

وبتشريح “المحنة” الأميركية، التي جسدتها الانتخابات الرئاسية الأخيرة، للإقتراب أكثر من مسبباتها ودوافع أطرافها المتصارعة، في “رقصتهم الأخيرة”، نجد أن “واشنطن” قد رجحت بشكل مهين كفة بطانة صغيرة من أصحاب المليارات؛ وصار لزامًا عليها الآن مواجهة شياطينها القديمة، والاستعداد للانفصال والحرب الأهلية. البطانة الصغيرة التي سيطرت على الولايات المتحدة فرضت الرقابة على الرئيس، “دونالد ترامب”. من ضمنها أغنى رجل في العالم، “غيف بيزوس”، صاحب (آمازون) و(بلو أوريغين)، و(واشنطن بوست). يرغب كل من المعسكرين المتصارعين في الولايات المتحدة، الجاكسونيون والبيوريتانيون الجدد، في التخلص من الآخر. فالمعسكر الأول يتحدث عن التمرد، بينما يرغب الثاني في القمع، لكن الجميع يستعد للمواجهة، لدرجة أن ثلثي المواطنين يستعدون للحرب الأهلية.

فوفقًا للتعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، على المواطنين واجب تسليح أنفسهم، وتنظيم أنفسهم في ميليشيات للدفاع عن حرية دولتهم، (ولايتهم)، عندما تتعرض للتهديد. هذا التعديل هو جزء من “وثيقة الحقوق-Bill of Rights”، التي كان اعتمادها شرطًا غير قابل للتفاوض ليتسنى للمواطنين الذين حاربوا من أجل الاستقلال، قبول الدستور الذي صاغته “اتفاقية فيلادلفيا”. إنه يعني أن أي مواطن يمكنه امتلاك أسلحة حربية أيًا كانت، وجعل من الممكن تكرار المجازر التي أبتلي بها المجتمع الأميركي. بيد أنه على الرغم من التكلفة الباهظة بشريًا لهذه الجرائم، إلا أنه تم المحافظة عليها، حتى الآن، لأنها ضرورية لتوازن النظام السياسي الأميركي. وتكشف أشهر الإحصاءات الرسمية الأميركية أنه: وفقًا لـ 39% من المواطنين الأميركيين، فإن اللجوء إلى السلاح ضد سلطة فاسدة ليس خيارًا، بل واجب. ووفقًا لـ 17% من المواطنين، فقد حان وقت التحرك الآن. (7)

وهنا تتجلى حقيقة الصراع المسبب والمحرك لجميع ملابسات أحداث يوم السادس من كانون ثان/يناير 2021، واستهداف جزء لا يستهان به من المواطنون الأميركيون لفكرة تسلم “جو بايدن” لمقاليد الحكم، حتى ولو بقوة “السلاح”. فبخلاف ما يتم تصديره من الآلة الإعلامية الأميركية/الغربية في تصوير المشهد بمجرد أنه صراع انتخابي يعتمل داخل المنظومة الديمقراطية الأميركية يدلل على صحتها وقوة رسوخها.. تمثل أحداث اقتحام مبنى (الكابيتول) إحدى ذُرى تفاعلات صراع أكبر وأعمق؛ ضارب في جذور أزمة الحكم “السياسية/الاجتماعية/الثقافية” الأميركية، لها ما بعدها من مواجهات وتصادمات.

إنها إحدى روافد الصراع بين “البيوريتانيون الجدد والجاكسونيون”، الذي ألهبه الآن عدة عوامل اقتصادية/اجتماعية داخلية وخارجية.. ينتسب الجاكسونيين لإسم الرئيس، “أندرو جاكسون”، الذي عارض، قبل الحرب الأهلية، إنشاء الاحتياطي الفيدرالي، (البنك المركزي المستقل). وقد اختفوا من الحياة السياسية طوال قرن؛ حتى تم انتخاب واحدًا منهم، “دونالد ترامب”، للبيت الأبيض. فهم يعارضون، قبل أي شيء آخر، العلاقة غير الشرعية بين البنوك الخاصة والبنك المركزي الأميركي الذي يصك “الدولار”.

مازالت مشاعر أغلبية الشعب الأميركي من أبناء الطبقات البورجوازية الوسطى والصغرى متألمة منذ الأزمة المالية، في 2007 – 2010. فلم يقبل غالبية السكان خطة الإنقاذ المصرفية التي قدمها الرئيس، “باراك أوباما”، بقيمة 787 مليار دولار، (بالإضافة إلى 422 مليار دولار في عمليات إعادة شراء القروض المسممة التي أعلنها، “جورج دبليو بوش”). في ذلك الوقت، أسس الملايين من المواطنين، الذين صرحوا بأنه فرض عليهم في السابق ضرائب باهظة، (حزب الشاي-Taxed Enough Already)، في إشارة إلى حفل شاي بوسطن، الذي مهد الطريق لحرب الاستقلال.

كانت هذه الحركة، الموجهة ضد الضرائب الباهظة، تهدف حصريًا إلى إنقاذ أصحاب المليارات الفائقة في كلا المعسكرين على حد سواء، في أوساط اليمين واليسار، كما يتضح من حملات الحاكمة، “سارة بالين”، (جمهورية)، والسيناتور “بيرني ساندرز”، (ديمقراطي).

إن الافشال الهائل لطبقة البورجوازية الصغيرة، الذي يعزى إلى عواقب عمليات الترحيل القسري، أدى إلى أن 79% من المواطنين الأميركيين صاروا متأكدين بأن: “أميركا تنهار”، وهي نسبة غير مسبوقة من المصابين بخيبات الأمل في “أوروبا”، باستثناء “السترات الصفراء” الفرنسية. (8)

على عكس الجاكسونيين، فإن المجموعات الغاضبة ضد، “دونالد ترامب”، يعتزمون إنشاء أمة للجميع، ليس مع خصومهم قطعًا، بل من خلال إقصاء كل من لا يفكرون مثلهم. لذا فهم يرحبون بقرارات (تويتر، وفيس بوك، وإنستغرام، وسناب شات، وتويتش)، التي فرضت رقابة على أولئك الذين يعترضون على نزاهة انتخابات 2020. لا يهمهم أن تنتحل هذه الشركات، متعددة الجنسيات، لأنفسها سلطة سياسية تتعارض مع روح التعديل الأول للدستور، لأنهم يشتركون في نفس مفهوم الطهارة مثلهم: “حرية التعبير لا تنطبق لا على الزنادقة.. ولا على الترامبيين” (أنصار ترامب). وقد أخذتهم الحماسة، فأعادوا كتابة تاريخ هذه الأمة، (نور على التل)، قادم لتنوير العالم. إنهم يجعلون الوعي الطبقي يختفي ويضخمون كل الأقليات، ليس بسبب ما تفعله تلك الأقليات، ولكن لأنهم أقلية. إنهم يطهرون الجامعات، ويمارسون الكتابة المشتملة، ويقدسون الطبيعة البرية، ويميزون المعلومات عن الأخبار المزيفة، ويهدمون تماثيل الرجال العظماء.

كان “البوريتانيون”، في القرن السابع عشر، يمارسون “الاعتراف العلني”، من أجل الوصول إلى الحياة الأبدية. وفي القرن الحادي والعشرين، يواصل خلفاؤهم “البوبوريانيون الجدد” تكفير ذنوبهم من أجل: “الإمتياز الأبيض”؛ الذي يعتقدون أنهم استمتعوا به من أجل تحقيق الخلود.

وثمة مليارديريون كبار مثل: “غيف بيزوس، وبيل غيتس، وآرثر ليفينسون، وسوندار بيتشاي، وشيريل ساندبرغ، وإريك شميدت، وجون دبليو تومسون”، أو حتى: “مارك زوكربيرغ”، يروجون لإيديولوجية جديدة تفترض تفوق الرجل الرقمي على بقية البشرية. ويأملون في التغلب على المرض والموت. لقد مضى وقت طويل منذ أن تخلى هؤلاء الأشخاص، العقلانيون جدًا، عن عقولهم، لدرجة أنه أصبح من المستحيل الآن، وفقًا لثلثي الأميركيين، الاتفاق معهم على حقائق أساسية.

لقد أثار تعصبهم الحرب الأهلية الإنكليزية، ثم حرب الاستقلال الأميركية، والحرب الانفصالية. كان أكثر مايخشاه الرئيس، “ريتشارد نيكسون”، هو أن تندلع حربًا رابعة من شأنها أن تمزق “الولايات المتحدة”. وقد وصلنا إلى هذه النقطة. لقد آل جزء من السلطة من مؤسسات ديمقراطية إلى أيدي عدد قليل من أصحاب المليارات.

المشهد الأكثر إثارة، في أحداث مبنى (الكابيتول)؛ لم يكن المظاهرات بحد ذاتها، ولا أحداث العنف التي رافقتها، بل كانت “الجماعات” التي وصفتها وسائل الإعلام الأميركية: بـ”المتطرفة”، التي دعمت طرفي النزاع حول الانتخابات الأميركية الأخيرة.

بحسب وسائل الإعلام الأميركية، قادت جماعة متطرفة أطلقت على نفسها اسم: (براود بويز-The Proud Boys)؛ عملية اقتحام “الكونغرس”، وقد بدأت الجماعة نشاطًا ملحوظًا، منذ العام الماضي، بعد أن طلب، “دونالد ترامب”، من المجموعة: “الوقوف إلى جانبه” خلال مناظرة رئاسية، وهو طلب احتفل به الأعضاء، حيث اشتبكت المنظمة المتطرفة، بحسب (الواشنطن بوست)، أكثر من مرة مع ناشطين من التيار اليساري.

بالمقابل، وقع “دونالد ترامب”، سابقًا، على أمر تنفيذي طالب من خلاله وزير الخارجية، آنذاك، “مايك بومبيو”: “تقييم تصرفات نشطاء (أنتيفا)”، ومنع أعضائها من دخول الولايات المتحدة، ومعرفة ما إذا كان يمكن تصنيفها على أنها منظمة إرهابية. وتصنف (أنتيفا) على أنها حركة: “مناهضة للفاشية”، ومن الجماعات المتشددة ذات الميول اليسارية المتطرفة، والمعروفة أيضًا بمواجهة المتعصبين للبيض واستخدام تدابير عدوانية لترهيب من يعتبرونهم سلطويين أو عنصريين، بحسب الصحف الأميركية.

وكان السكرتير الصحافي للبيت الأبيض، في إدارة “ترامب”، قد أشار في بيان له إلى أن: “نشطاء (أنتيفا) هاجموا بوحشية أصدقائنا، (مناصري ترامب)، وجيراننا وأصحاب الأعمال الملتزمين بالقانون، ودمروا معالم تاريخية تعتز بها مجتمعاتنا منذ عقود”. لكن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، “كريس راي”، أشار إلى أن (أنتيفا)؛ هي إيديولوجية وليست منظمة، تعليقًا على محاولة الرئيس، “ترامب”، وأنصاره تصنيفها كمنظمة إرهابية.

…………………………………………………..

(1) نشوى الحفني – (إسراتيجية “بايدن” الجديدة.. هل تنجح في إعادة هيمنة أميركا إحادية القطبية ؟) – صحيفة (كتابات) الإلكترونية، في 8 آذار/مارس 2021.

(2) أرجو مراجعة: محمد البسفي – (في رحاب “السيد”.. القادم إلى البيت الأبيض 1) – صحيفة (كتابات) الإلكترونية، في 21 تشرين ثان/نوفمبر 2020.

(3) نيكولاس بولانتزاس – (نظرية الدولة) – ترجمة ميشيل كيلو، دار التنوير – بيروت 1987.

(4) نيكولاس بولانتزاس – (نظرية الدولة) – مرجع سابق.

(5) تييري ميسان – (الانتخابات الرئاسية الأميركية: افتحوا أعينيكم !) – شبكة (فولتير) – باريس في 10 تشرين ثان/نوفمبر 2020.

(6) تييري ميسان – (الانتخابات الرئاسية الأميركية: افتحوا أعينكم !) – مرجع سابق.

(7) تييري ميسان – (بعد الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة إلى الإنهيار) – شبكة (فولتير) – باريس في 19 كانون ثان/يناير 2021.

(8) تييري ميسان – (بعد الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة إلى الإنهيار) – مرجع سابق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة