17 نوفمبر، 2024 11:34 م
Search
Close this search box.

لقاء القمة الروحية

لِقَاءُ القِمَّةِ الروحيَّةِ
ليس حدثاً عابراً ولا مشهداً مُتكرّراً أنْ يلتقي قطبان دينيَّان كبيران في العالم، يُمثِّلُ أحدهما مرجعاً للمسيحيِّين الكاثوليك ويمثل الآخر مرجعاً إسلامياً للشيعة، في لقاءٍ أقل ما يُوصَفُ به أنَّه لقاءُ قمةٍ روحيَّةٍ، وهو حدثٌ قلَّ نظيرُه في التأريخ المُعاصر ..

ويمكن بإيجازٍ إيراد أهمّ المعالم الرئيسة المُستقاة من هذا اللقاء:

 

1- تاريخيَّة اللقاء :

إنه حدثٌ تاريخيٌّ بكلِّ معنى الكلمة أنْ يلتقي هذان القطبان، فهو الحدث التاريخيُّ الأول من نوعه بين بابا الفاتيكان والمرجع الأعلى.

وسيبقى المُؤرّخون والكُتَّاب والمعنيُّون يتحدَّثون لسنين طوالٍ عن أهميَّة وتاريخيَّة وروحيَّة هذا اللقاء.

 

2- رمزيَّة المكان:

ليس أمراً عابراً أن يقوم رأس الفاتيكان بالذهاب بنفسه للقاء المرجع الإسلاميِّ الشيعيِّ الأعلى في مقرِّه في النجف الأشرف.

معروفٌ أنَّ النجف مُنفتحةٌ على الآخر عبر تأريخها الطويل، ومعلومٌ أنَّ بعض رجال الدين المسيحيِّين- كرادلةً ومطراناً وأساقفةً – قد زاروا النجف الأشرف غير مرَّةٍ في حقباتٍ تاريخيَّةٍ مُختلفةٍ لزيارة حرم أمير المؤمنين (ع) واللقاء بالمرجع الأعلى .. لكن النجف – وغيرها – لم تشهد من قبلُ زيارة الحبر الأعظم ورأس الكنيسة العالميَّة للقاء المرجع الأعلى في مقرِّه – بل ولم يحصل اللقاء من قبلُ حتى في غير مقرِّه- .. ما يعني أنّ مَعلماً من معالم اللقاء المُهمَّة تكمن في رمزيَّة المكان – النجف الأشرف – بوصفها حاضرةً علميَّةً عالميَّةً مرموقةً . وهي بهذا الوصف تحظى برمزيَّةٍ مثل رمزيَّة الفاتيكان لدى أتباع الكنيسة الكاثوليكيَّة.

 

ولئن كنَّا نعرف رمزيَّة النجف الأشرف ومكانتها وأهميَّتها، بيد أنَّ غيرنا قد لا يعرف ذلك، من هنا تأتي أهميَّة اللقاء في أنَّه سيُسلّطُ الضوء على مكانة النجف الأشرف لدى الإعلام العالميّ، الذي يُولي أهميَّةً قصوى لهذا الحدث التاريخيِّ، وما زال يتابعه لحظةً بلحظةٍ.

 

3- لقاءُ قُطبَيْ السَّلامِ:

لا أحد يشكُّ في أنَّ بابا الفاتيكان هو رجلُ سلامٍ، وأنَّ كلَّ أفعاله وكلماته وصلواته لتؤكد هذا. وليس هذا شأن البابا الحالي فرنسيس فحسب، بل هو دأب البابوات بشكلٍ عامٍّ .

وفي الاتجاه الآخر ليس بخافٍ أنَّ المرجع الأعلى سماحة السيّد السيستاني هو رجلُ سلامٍ بامتيازٍ، ولولا حكمته وحنكته ودعوته للسَّلام والأخوّة والعيش المُشترك لكان العراق في خبر كان.

 

ولا ريبَ في أنَّ اللقاء بين قُطبَيْ السَّلام هذين سيكون له بالغ الأثر، وستصل رسالة الرجلين السلميَّة لكلِّ أصقاع العالم، وستُصحِّحُ بعضَ ما علق في أذهان البعض من إلصاق تُهمة الإرهاب بالإسلام، إذ ها هو مرجع الإسلام -الشيعي – يُعلِنُ رسالة الإسلام المُتسامحة ويكشف صورته الحقيقيَّة، ومِن قبله أعلنها مرجع الإسلام -السنيُّ – شيخ الأزهر في لقائه بالبابا فرنسيس في (أبو ظبي) في العام 2019 .

 

4- التواضع:

لا يخفى على الجميع حجم التواضع الذي يمتاز به الرجلان، فالبابا بصفةٍ عامَّةٍ هو مُتواضعٌ مع الناس، والبابا الحالي (فرنسيس) ربما يكون واحداً من أكثر البابوات تواضعاً، إذ كان يُعرَفُ بـ(مطران الفقراء) حينما كان يمارس عمله الدينيَّ رئيساً للأساقفة في الأرجنتين .

وهكذا مراجع الشيعة عموماً، فهم من أكثر الناس تواضعاً، وإنّ تواضع السيّد السيستاني ممَّا لا يحتاج الى بيانٍ، وأضحى أمراً معروفاً للقاصي والداني، بما في ذلك شهادة مُمثلي الأمم المُتَّحدة !!

 

إذاً فالرجلان مُتواضعان مع الناس إلى أبعد الحدود، بيد أنَّ ما يثير الاهتمام بهذا الصدد هو أنّ البابا، رغم تواضعه الشديد مع النَّاس، لكنَّه يرأس دولة الفاتيكان ويعيش في قصورٍ ملكيَّةٍ في غاية الأبهة والترف، بصرف النظر عن القصر البابويّ وعدم السكن فيه !!

أما السيّد فهو يعيش في بيتٍ صغيرٍ في زقاقٍ (دربونةٍ) ضيّقٍ، وسط سوقٍ صغيرٍ أشبه بالشعبيّ بين بائع الحلويَّات وبائع القماش. والبيت الصغير هو في غاية التواضع والأثاث فيه شبه مُنعدم، ولا يحتمل العيش فيه سوى بعض الفقراء !!

 

ومن هذه الجهة فإني أُفكِّرُ في حجم الصَّدمة التي انتابت البابا ومرافقيه حينما دخلوا هذا البيت وجلسوا على أريكةٍ، ربما لا يجلس عليها الفقراء !!

ولعلَّ هذه الصَّدمة هي التي كانت باديةً على وجه البابا، وهو ينظر الى السيِّد في الصورة التي تمَّ نشرها للقاء.

وباعتقادي أنَّ هذه الصَّدمة الكبيرة لن تُمحَى من ذاكرة البابا والفاتيكان !!

 

قيمةُ الحوارِ:

إنَّ لقاء القطبين – البابا والمرجع الأعلى – ليؤكد أنَّ الدِّين لا يدعو للقتل وانتهاك حرمة الآخر، بل يدعو للتسامح والعيش المُشترك. وإنَّ الحوار هو الطريق الأوفق لترسيخ قيم السلام والتسامح وإزالة أسباب الخلاف، وإنَّ مثل هذا الحوار هو أمرٌ مُمكنٌ، ولا سيما بعد لقاء القطبين.

وإنَّ كلَّ قتلٍ باسم الدين هو تجنٍّ عليه، ويقع وزره على فاعليه لا على الدِّين ذاته، وهذا ما أشار اليه القطبان في لقائهما الذي مثَّلَ لقاءً للأديان وقِمَّةً روحيةً بكلِّ معنى الكلمة.

أحدث المقالات