يحمل بابا روما هويتين أولاهما دينية و الثانية سياسية ، فهو رأس الكنيسة الكاثوليكية التي يتبعها أكثر من مليار ونيّف إنسان يشكلون نصف مسيحيي العالم يعتبرونه ممثل السيد المسيح على الأرض والمتربع على كرسي بولس الرسول ، وهو أيضاً المرجع الديني المسيحي الأعلى وله الكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بكنيسته و كهنته و مؤسساته ، و سياسياً هو رئيس دولة الفاتيكان التي تتمتع بالسيادة و بشرعية دولية ولها تمثيل دبلوماسي مع كل دول العالم و يحميها حرسها البابوي ، والأهم من ذلك كله أن لديها جهاز مخابرات هو من بين الأفضل في العالم من حيث غزارة معلوماته ودقتها بحكم انتشار كهنة الفاتيكان و قساوسته في أنحاء الكرة الأرضية بدءاً من مجاهل إفريقيا حتى صحراء آلاسكا الجليدية مروراُ بكل بقعة معمورة على سطح الأرض ، ولعل هذه الحقيقة تفسر إلمام البابا المدهش بأحوال العراق وشعبه و طبيعة نظامه السياسي.
ومع أن البابا أضفى على زيارته طابعاً دينياً حتى أنه وصفها برحلة حج إلا أن لهذه الزيارة جانب سياسي مسكوت عنه من طرفه و أيضا من طرف الذين تحدث معهم بهذا الشأن إذ أفادت مصادر لاشك في مصداقيتها بمعلومات تناثرت عشية انتهاء لقاءاته بالرئاسات العراقية الثلاث أنه تطرّق إلى إمكانية تحقيق السلام في الشرق الأوسط منوّهاً بما يجري بين دول الجزيرة العربية واسرائيل وأفاض في سرد ما يظنه مميزات هذا السلام وانعكاساته الإيجابية على العراق و المنطقة و العالم مغلفاً تنظيره السياسي بموعظة عن ضرورة التآخي بين ما أسماه بالديانات الإبراهيمية ، ثم انتهى إلى استمزاج رأي الرئاسات العراقية بهذا السلام ، والغريب أن الرؤوساء الثلاثة برغم اختلافهم في كل شيء – باستثناء توافقهم على الفساد والعمالة – رد كل منهم وعلى غير اتفاق فيما بينهم بإجابات تكاد تكون متطابقة ومؤداها أنهم مبدئياً ليسوا ضد السلام مع اسرائيل لكنهم يعتقدون أن ظروف الإقليم لم تنضج بعد للتقدم باتجاهه و يُستحسن الإنتظار ومتابعة مسيرة السلام الخليجية – الإسرائيلية ، بمعنى أنهم تركوا الباب موارباً ومفتوحاُ على كل الاحتمالات مع يقينهم بأن الشعب العراقي بأكمله لن يمرر هكذا مشروع باستثناء الجيب الكردي المتعامل منذ خمسينات القرن الماضي مع العدو الإسرائيلي أمنياً وعسكريا.
وبالنظر إلى الهوية الدينية لبابا روما فقد كان غريباً ألا يستقبله في مطار بغداد ممثل عن المسلمين أو بقية المكونات الدينية في العراق ، كما كان غريباً إعلانه المسبق عن نيته زيارة السيستاني حصراً دون بقية المراجع الدينية مما يدلّ على أن البابا يعرف يقيناً أن السيستاني و الدائرة الضيقة المحيطة به و المكوّنة من ابنه رضا ونسيبه الشهرستاني إنما يمثلون ولاية فقيه مستترة لها كلمة الفصل في شؤون الدولة العراقية عبر هيمنتهم على حركة الأحزاب و التيارات المتشيعة و فصائلها المسلحة ، وأنه إذا أراد للشق الديني من مهمته النجاح فعليه أن يطرق الباب الصحيح دون إضاعة الوقت في محادثات فارغة مع آخرين لا يملكون حتى قرار وضع عمائمهم على رؤوسهم ، و بالتالي فقد توجه البابا إلى السيستاني ليناشده إصدار فتوى ملزمة لأجهزة الدولة بحماية مسيحيي العراق و ممتلكاتهم من تسلّط و اضطهاد الفصائل و التيارات المنفلتة والتي تحميها أجنحتها السياسية المشاركة في السلطة ، و ليطالب بتسهيل عودة المهجرين المسيحيين إلى بيوتهم التي اغتصبتها تلك العصابات و تقديم العون المادي و الإداري لهم لإعادة ترميمها و منحهم حصة عادلة و مؤثرة في القرار السياسي القائم أصلاً على المحاصصة الطائفية ، ومن المؤكد أن البابا استمع من السيستاني إلى عبارات المجاملة التقليدية حول التعايش و المساواة و لكن يجب الإنتظار لمعرفة الرد العملي للولي الفقيه على تلك المطالب ، وإن كنت أحد الذين لا يأملون خيراً من تلك المرجعية و لا يتوقعون منها النطق بكلمة تخدم العراق وأهله فمنذ الغزو الأميركي و حتى يومنا هذا شكلت هذه المراجع جميعها مواجع للعراق وأهله .