والمقصود بهذه المناشدة ، الملك فيصل الاول (1883 – 1933) ، ملك العراق للفترة (1921 – 1933) . هو فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي ، الابن الثالث للشريف حسين امير مكة . ولد في (الطائف) ، وقيل في (مكة) . وفي الجزء الاول من (موسوعة أعلام وعلماء العراق) ، يذكر الباحث حميد المطبعي ، ان الامير فيصل ربي في القرى الصحراوية لتعليمه حياة الخشونة والفروسية والتنقل بين الخيام . وأمضى في تلك القرى زهاء سبعة اعوام ، ثم اصطحب والده لما نفي الى الاستانة سنة 1891 ، ثم عاد سنة 1909 ، ورشح عن مدينة (جدة) نائباً الى مجلس النواب العثماني سنة 1913 .
الوالد الثائر
وعندما ثار والده ، الشريف حسين ، على الاتراك ، عام 1916 ، أُنيطتْ بالامير فيصل قيادة الجيش الشمالي ثم اصبح قائداً عاماً للجيش العربي الذي ساند الانكليز في حربهم ضد الاتراك ، ثم رحل الى سورية ، وَرَغَبتْ به ملكاً عليها سنة 1920 . ولما احتلتْ فرنسا دمشق ، غادرها الى بعض الدول الاوربية ، ودعته بريطانيا الى حضور مؤتمر في القاهرة الذي رأسه تشرشل ، وفي هذا المؤتمر تقرر ترشيحه لعرش العراق سنة 1921 ، متبعاً منهج الاصلاح والتوفيق بين سلطته ومطامح بريطانيا . قام منهجه في الاصلاح على اصدار الدستور وتأليف مجلس للنواب وآخر للأعيان وسن العديد من التشريعات لصالح الدولة العراقية ، ثم حسم القضايا المعلقة بين القطر وجيرانه . مات في سويسرا بالسكتة القلبية وحمل جثمانه، ودفن بالمقبرة الملكية في بغداد .
قصة هذا التمثال
هناك الكثير مما يُقال ويُكتب لصالح هذا الملك الهاشمي ، وربما هناك القليل مما يكتب أو يُقال لغير صالحه . وفي كل الاحوال يبقى فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة ، والزعيم المعتدل والاصلاحي . ولأنه كذلك أقيم له تمثال ونُصب في الساحة المعروفة بالصالحية .
صَنَعَ التمثالَ النحاتُ الايطالي (كانونيكا) . وفيه ظهر الملك فيصل الاول بملابسه العربية (الكوفية والعقال والعباءة) وهو يمتطي ظهر جواده . وحول هذا الجواد ، هناك معلومة من المفيد الاتيان عليها نقلاً عن زميلنا الباحث التراثي عادل العرداوي : قام الملك بجولة في أرياف الفرات الاوسط في النصف الثاني من عشرينات القرن الماضي ، وضمن الجولة زار مضارب ( السادة آلبو طبيخ ) ، وحل ضيفاً على السيد (محسن ابو طبيخ ) في ناحية غماس التابعة لقضاء الشامية. وتجول الملك على اسطبل الخيل العائد للسيد . وأعجبتْ الملك فرسٌ اسمها الصقلاوية (اﻟﺼگلاوية) . وبعد عودة الملك الى بغداد ، وصلتْهُ تلك الفرس ، إهداءً من السيد محسن ابو طبيخ هذه الفرس هي التي إمتطاها الملك فيصل الاول في التمثال .
(النحس) .. يصاحب التمثال
كان التمثال يُضفي (لَمْسةً) عربية بدوية على الساحة وما جاورها . الملك الهاشمي بعباءته وعقاله وكوفيته ، ممتطياً المهرة (اﻟﺼگلاوية) .. ولكن إلى حين . كان التمثالُ (منحوساً) إن صح التعبير . ففي يوم (14/تموز/1958) ، هاجمته جماهير غاضبة وحطّمتْه. كما هاجمت هذه الجموع تمثال الجنرال الانكليزي (مود) ، الموجود أمام السفارة البريطانية في الشواكة ، وحطمته أيضاً . وبقيت ساحة الملك فيصل الاول بدون تمثال لفترة طويلة ، لكنها سميت لاحقاً باسم رئيس عربي مشهور . وقبل نهاية ثمانينات القرن الماضي ، قررت الدولة العراقية ، اعادة صنع التمثال الاصلي للملك فيصل الاول ، ونصبه في مكانه السابق .
وبهذا العمل ، وباعادة الاعتناء بالمقبرة الملكية في الاعظمية ، وباعادة تسمية شارع الملك غازي ، أُعيد الاعتبار ، الى حدٍ ما ، للعائلة الملكية التي حكمتْ العراق ، وفي المقدمة منها : الملك فيصل الاول .
ولكن بقيت مفارقة مُزعجة ومُحرجة : الساحة تحمل إسم (جمال عبد الناصر) ، والتمثال للملك فيصل الاول . وقد حاولت الرئاسة العراقية في حينها ، تخفيف هذا (الالتباس) ، فبعثت برسالة لعائلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، ذكرتْ فيها : ان ساحة مهمة في بغداد ستسمى باسم عبد الناصر ، وسيُقام فيها تمثال له . لكن هذه الرسالة التوضيحية (وربما الاعتذارية) بقيت حبراً على ورق بدليل ان لا ساحة سُمِّيت ولا تمثال أقيم ! ؟ .
والآن : رفقاً بالتمثال وصاحبه
ويشعر الناظر للتمثال أنه محاصر بقسوة ، ومعزول بشدة ، وقد تكون هذه النتيجة المحزنة غير مقصودة . ولكنها تشكل واقعاً مؤلماً .
فقد أُنشئ مجسر ضخم يمتد من الشارع القادم من ساحة المتحف ، ثم يقترب جداً من ساحة وتمثال الملك فيصل ويتقوس متوجهاً نحو الشواكة ، ماراً بين وزارتَي العدل والحكم المحلي .
هذا المجسر عديم الفائدة الآن ، وقليل الفائدة مستقبلاً . لكن الأهم من كل ذلك ، حَجَبَ المجسرُ التمثالَ ، الذي تحول الى شاخص صغير .
وهكذا فان القادم من ساحة المتحف ، لا يرى التمثالَ إلاّ بعد أن يصبح على بعد أمتار قليلة منه . لقد تم (تقزيم) التمثال ولو بدون قصد ، بينما صاحبه عملاق !! .
الملك الهاشمي ، وفرسه (اﻟﺼگلاوية) محاصران ، فمن يفك الحصارَ عنه ؟ .