في خطوة تستهدف إحكام القبضة والسيطرة على النظام التركي، طالب الكونغرس الأميركي بضرورة محاسبة تركيا على انتهاكاتها الجسيمة في ملف حقوق الإنسان ، في رسالة لوزير الخارجية الأميركي، “آنتوني بلينكن”، التي تضمنت اتهامات قوية للرئيس التركي أردوغان وحكومته على مدى ما يقرب من عقدين في السلطة، كما أصدر أعضاء مجلس الشيوخ قبل عدة أسابيع، رسالة أخرى، تدعو الرئيس بايدن إلى محاسبة تركيا على حملتها القمعية على مواطنيها.
وكانت إدارة الرئيس بايدن، قد وعدت بأنها ستضع حقوق الإنسان والقضايا الديمقراطية في مقدمة العلاقات في التعامل مع الدول والحلفاء، وقد أكد بايدن في خطابه في مؤتمر “ميونيخ للأمن”، على أن الشراكة مع الحلفاء ستستند إلى الديمقراطية والرؤية التي تدعم سيادة القانون، وليس المعاملات. في السياق قال أعضاء الكونغرس: “من مصلحتنا المشتركة أن تظل الولايات المتحدة وتركيا حليفين استراتيجيين وإصلاح الخلافات بيننا، فإننا نعتقد أن التغييرات في سلوك الرئيس أردوغان، وحزبه ضرورية لاستعادة تلك العلاقة.
المتابع للمشهد الدولي، يرى بوضوح أن الرسالة من قبل نواب الكونغرس، لها دلالات وأبعاد أخرى في غاية الأهمية و تحمل في طياتها الكثير من المعطيات والمعلومات إلى الداخل التركي، من أهمها الضغط على السلطات التركية والتراجع في بعض الملفات العالقة بين الجانبين( الأمريكي- التركي)، وعلى رأسها شراء تركيا لنظام الصواريخ الروسي “إس-400” الذي أغضب حلفاءها في الناتو وأدى إلى عقوبات أميركية، وكذلك عملها العسكري ضد حلفاء أمريكا الأكراد في شمال سورية، ودعمها للجماعات المتطرفة التي تدافع أنقرة عنها بأنها ليست إرهابية وهي ضرورية لحماية مصالحها في المنطقة، بالإضافة إلى تحركات أردوغان العدوانية ضد اليونان وقبرص بسبب موارد الغاز في شرق البحر المتوسط، فضلاً عن تفجر الخلافات حول قاعدة “إنجرليك” الجوية المشتركة، حيث تستضيف تركيا عدداً كبيراً من القوات والطائرات الأميركية، والتي هدد أردوغان بقطع الوصول إليها إذا تعرضت بلاده لعقوبات أميركية، بمعنى أن هذا الأمر ليس له علاقة بحقوق الإنسان بشكل أساسي، بالتالي لن يكون هناك تصعيد قوي بين واشنطن وأنقرة لأن تركيا غير مستعدة للخروج من حلف الناتو أو الصدام أكثر مع أميركا، لذلك فإن أنقرة قد تتراجع في بعض الأمور وتتفاهم مع واشنطن، بعد أن أبدت تركيا استعداداً للقيام بخطوات إيجابية بهذا الشأن.
من أهم هذه الخطوات تصريحات الرئيس أردوغان التي أدلى بها عن خطة عمل حقوق الإنسان، وهي عبارة عن وثيقة تتضمن 9 محاور و50 هدفاً و393 نشاطاً، ولجنة مراقبة حقوق الإنسان للمؤسسات العقابية، معتبراً إياها مثالاً على الإرادة للتغيير والإصلاح المستمر، والهدف من هذه التصريحات هو أن يبدو أردوغان لطيفاً أمام بايدن وكسب ود أمريكيا.
برغم كل ذلك تعيش تركيا في الوقت الراهن أسوأ مراحلها من حيث خسارتها لأكبر شبكة تحالف صنعتها لعقود طويلة، مع انخفاض عملتها إلى مستويات قياسية، وتفاقم التضخم المرتفع والبطالة بسبب جائحة فيروس كورونا، لذلك فإن أي اشتباكات مع الولايات المتحدة تخاطر بفرض عقوبات تكون أكثر خطورة على الاقتصاد التركي، وهذا سوف يضعف موقف أردوغان بشكل كبير أمام بايدن.
كحاصل نهائي يبدو أن أمريكا لا تعول كثيراً اليوم على تركيا لأنها بدأت تنظر باستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط ولربما توسيع نفوذها من خلال سيطرتها على بعض دول المنطقة، لذلك فأن هناك خيارات متاحة أمام الرئيس التركي، إذا كان يرغب في التعامل مع بايدن، فلن يُعطى بعد اليوم الحرية الكاملة لكي يحقق طموحاته الإقليمية الواسعة على غرار ما كان يفعل خلال رئاسة ترامب، حيث كانت الأعمال المتهورة وغير المسؤولة تمر من دون عواقب، وهو يعلم أن بايدن سيتصرف بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وأعضاء الناتو، حول مجمل القضايا تقريباً، وهذا يعطيه مساحة صغيرة جداً للمناورة وتحقيق الأهداف.
وأختم بالقول، من تابع تصريحات وتهديدات الرئيس أردوغان في البداية لا يمكن أن يتوقع تراجع نبرته تجاه واشنطن في هذه الفترة، لذلك يبدو أن تركيا اقتنعت أخيراً، أنها أمام مأزق حقيقي، وهو أنه لا يمكن لتركيا الخروج من عباءة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة أبداً، مع الأخذ بعين الاعتبار استمرار العلاقات الأمريكية- التركية تحت الطاولة.