17 نوفمبر، 2024 3:49 م
Search
Close this search box.

العشيرة والدولة في بلدان عربية وإسلامية

العشيرة والدولة في بلدان عربية وإسلامية

أثارت موضوعة العلاقة بين العشائر| القبائل والدولة خصوصا في البلدان النامية ومنها العربية الكثير من النقاش في أوساط الباحثين والأكاديميين والكتاب في السنوات الأخيرة، وذلك في ظل العودة القوية للانتماءات الفرعية القبلية والإثنية والدينية والطائفية التي شهدتها بلدان عربية ومنها العراق. وفي محاولة للتعرف على جانب من هذه النقاشات اخترنا تقديم قراءة عن كتاب “العشيرة والدولة في بلدان المسلمين”، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2019. يضم الكتاب أحد عشر بحثا قيما كُتبت بمنهج أكاديمي، لمجموعة من الباحثين العرب والأجانب، وتندرج البحوث في قسمين: الأول، العشائر| القبائل، الإسلاموية والدولة، ويضم ثلاثة بحوث، والثاني، العشائر والقبائل في مناطق النزاعات، ويضم بقية البحوث. الكتاب من تحرير وإشراف الدكتور هشام داوود، وترجمة رياض الكحال ونبيل الخشن ومراجعة سعود المولى. ويقع الكتاب في 336 صفحة.
يشير داوود في المقدمة إلى أن الكتاب يطمح إلى تقديم توصيف خصوصي لكل حالة تندرج ضمن الإطار العام المذكور، وهو كتاب مؤلف بطريقة تسعى إلى الإضاءة، والإضاءة هنا ضرورية وغير مسبوقة، على بعض جوانب المسألة العشائرية في المجتمعات العربية والإسلامية المنخرطة اليوم في صراعات ونزاعات عنيفة. عمل الكتاب بداية على تحليل العشيرة| القبيلة بوصفها بنية مجتمعية سياسية، وعلى تبيان على ماذا تقوم “استمرارية” هذا الثابت العشائري و| أو تبيّن أنه كان على قطيعة مع ما عرفناه منه في القديم. ثم انصب الاهتمام على تحليل العلاقة بين العشائر| القبائل والدول من جهة، وبينها والحركات الإسلامية المحلية والعالمية من جهة ثانية.
العشائر| القبائل والدولة
شجعت القوى الاستعمارية في المغرب والسودان الهويات القبلية بشكل رسمي، ونجحت بشكل بارع في تشكيل إدارة عشائرية بهدف كبح جماح الحركات الوطنية. وبنتيجة ذلك، فإن الحكومات التي تشكلت في تلك البلدان بعد نيلها الاستقلال أعلنت قطيعة أيديولوجية مع الماضي الاستعماري بحلّ العشائر| القبائل بصفتها ترتيبا إداريا. مع ذلك، احتفظت الهويات العشائرية بأهميتها السياسية على الصعيدين المحلي والإقليمي.
قد تكون العشيرة| القبيلة في بعض الظروف المعاصرة عنصرا مؤسسا يحفظ هوية وطنية عصرية وليس ذخيرة من الماضي فحسب، أو أثرا بدائيا للتنظيم الاجتماعي، كما يشعر أبناء المدن العرب غير المتحدرين من شبه الجزيرة العربية. وقد تعايشت عشائر الشرق الأوسط إما مع السلطة الملكية أو الدولتية، وإما استُخدمت كممالك معارضة. وشكل زعماء العشائر| القبائل في الماضي أحيانا سلالات ملكية في الشرق الأوسط، لكنها مع ذلك لم تكن تُدار بحسب المبادئ العشائرية.
تستند دول عدة حاليا كما في السابق إلى العشائر بدل معارضتها. فقد أكد معمر القذافي أنه صاغ هويات ليبية جديدة. مع ذلك، فإن المنظومة السياسية والأمنية في ليبيا ارتكزت دائما على التوازن بين جماعات قبلية، تماما كما كانت عليه الحال في عهد الملك إدريس السنوسي (حكم 1951-1969) ومن سبقه في الحقبتين العثمانية والاستعمارية.
يذكر ديل ف. إيكلمان أسر لي وزير خارجية دولة في شبه الجزيرة العربية، بأنه فخور بمنشئه في مجتمع عشائري، وبأن موظفي وزارته هم في أغلبيتهم من العشيرة نفسها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوفد المرافق لتنقلات ملك الأردن في الخارج؛ ففيه تمثيل للعشائر الأردنية الرئيسة والحمولات الفلسطينية والأقليات العرقية والطائفية للبلد.
دافع محمد سياد بري (الذي حكم الصومال بين 1969-1991) وصدام حسين (الذي حكم العراق بين 1979-2003) عن القوانين التي تمنع أن يذكر أمام الملأ العشيرة| القبيلة والهويات العشائرية| القبلية للفرد، مع أنهما بقيا طوال عهديهما مدركين بعمق أهمية تلك الروابط. ص 24 وقد عاد الأخير لإنعاش هذه الروابط فيما بعد كما سنرى لاحقا.
قضى المرجع محمد صادق الصدر (1943-1999) وقتا طويلا في العمل مع عشائر جنوب العراق(1)، وفي التوفيق بين العرف العشائري والشريعة (يُنظر كتابه: فقه العشائر). وفي رأي بارام، “كان ذلك مقاربة منه لتقوية سنده الشعبي أكثر من كونه حركة دينية”(ص 33).
ربما كانت العشائر أكثر مناعة إزاء الحركات الدينية الأصولية. وكما لاحظ أندرو شرايوك، فإن العشائر الأردنية ما دامت تربط الإسلاميين بالفلسطينيين، فإنها لن تتأثر بالتطرف الديني. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من بضع جماعات دينية، خصوصا الأخوان المسلمين، لتكييف البنى العشائرية والعمل ضمن تلك البنى، تبقى العشائر الأردنية منيعة نسبيا من تأثيرهم. في ما يعتقد بأنه الصورة الإجمالية الأكثر كمالا حول عشائر العراق المعاصر. تتوافق هذه النتيجة تماما مع دور الزعماء العشائريين| القَبَليين في مناطق أخرى من العالم وتلمح للأهمية المحدودة التي توليها الأوساط العشائرية للزعماء الجهاديين.
إذا كانت القبائل والسلطة القبلية في إيران قد تزعزعتا بشكل قوي ومنظم في القرن العشرين ما قبل الثورة، فإنهما تلقيان في الأقل انبثاقا موقتا منذ الثورة الإيرانية. لن تُضع السلطات الثورية من جانبها فرصة، عن قناعة أو عن حذر، لمدح القبائل، وذهب الخميني إلى درجة وصفهم بـ “كنوز الثورة” و “ذخائر الثورة” (ص 49).
لم يدم مع ذلك شهر العسل هذا سوى مدة من الزمن، بحسب جان بيير ديغار. فبعد عشرين عاما من تأسيس الجمهورية الإسلامية، تم توطين بدو إيران الرحل بشكل شبه كامل -والكثير من تنقلاتهم قد استُبدل بحركات انتجاع لقطعان الماشية يرافقها الراعي فحسب- ونزع عنهم الطابع القبلي، بعد تدمير مؤسساتهم التقليدية بشكل شبه كامل أو إهمالها.
في الجزائر لا تتمتع أشكال التنظيمات القبلية (عرش، قبيلة) سوى بوزن هامشي في الحياة السياسية، وتمثل أنواع التنظيمات العشائرية الأقلية في الجزائر حاليا؛ والمجتمع الجزائري هو مجتمع خال من العشائرية في أغلبه. إن السياسات الاستعمارية (حرب، نزع الملكيات العقارية، بروليتاريا) وسياسات ما بعد الاستقلال قد أدت إلى اختفاء القبائل في مقاطعات الشمال، بينما لا تزال أشكال التنظيم العشائري موجودة في المناطق الجنوبية وهي مناطق قليلة السكان.
خلال حقبة الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطنية) من عام 1962 إلى عام 1989، بقيت الخطابات الأيديولوجية مبهمة نوعا ما في ما يتعلق بالقبائل في الجزائر. كانت ترفض فكرة أن شعب الجزائر هو شعب قبلي، لكن “القيم القبلية” كانت توسم بالكمال المثالي، أو بشكل دقيق، القيم الاجتماعية التي كانت تُنسب إلى التنظيم القبلي. ففي اجتماع سياسي عام 1968، صرح الرئيس هواري بومدين بأن جزائر القبائل لم تكن سوى ابتكار استعماري.
في شباط| فبراير 2004، وضعت يومية وهران في عنوان رئيس أن قبائل تيديكلت تدعم الرئيس بوتفليقة. وفي شباط| فبراير 2005، وفي ملف لمجلة الإكسبرس خاص بالشبكات في الجزائر، يرد هذا المقطع “ليذهب إلى الجحيم من لا توجد عنده قبيلة يتكئ عليها!” (ص 64).
في الحقيقة، لا يعني اعتماد الأشخاص لمرجعية العالم القبلي بأن هذا الأخير موجود بشكل ملموس. لكن الاستخدام العام لتلك المفردات يحضّ على الاعتقاد بأنها في آن واحد جواب لأسباب خيالية وملموسة. يؤدي هذا الإقرار بالنتيجة إلى التساؤل عن أسباب استمرارية أو تذكية مشاعر الانتماء القبلي. إن تنشيط حجة القبيلة يظهر بشكل خاص في ظروف انتقالية محددة، لإرساء أشكال من التعبئة الجماعية، وإعطائها الشرعية. ولا يترتب على ذلك أن القبيلة تبدي تعبئة سياسية دائمة.
ويذكر يزيد بن هونات، ليست الجزائر البلد الذي تتمتع فيه القبائل بوزن على الساحة السياسية، على الرغم من مقدرتها على ذلك محليا في مناطق السهول العالية والمناطق الصحراوية. إذ تبقى الحقيقة العشائرية مختلفة تماما عن تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام.
العشائر والقبائل في مناطق النزاعات
في أفغانستان، لم يكن الدخول في الحرب الأهلية اعتبارا من عام 1979 يدل على “عودة القبلية”، بل إنه شجع على بروز نخب جديدة استمدت شرعيتها من الإسلام أو من القومية العرقية. تعتبر الحرب ناقلة للتسييس: لم تكن تدار الحرب من زعماء القبائل بل بشكل أساسي من علماء دين يرأسون أحزابا سياسية وقادتهم الميدانيين. في المحصلة، كان دور القبائل في الاضطرابات السياسية خلال السنوات الثلاثين الماضية محدودا، وأي تاريخ معاصر لأفغانستان يعتبر القبيلة لاعبا مرجعيا في اللعبة السياسية هو تاريخ لا سند له بحسب جيل دورونسورو.
تتشكل النواة الأولى لطالبان من الملالي، الذين كانوا غالبا في المدارس نفسها وتناهض أيديولوجيتهم الأصولية القانون القبلي. وخلال الفترة التي كانت فيها طالبان في السلطة (1996-2001)، كانت علاقاتها بزعماء القبائل سيئة عموما. ويلاحظ أن أشكال التضامن المحلي داخل طالبان هي أكثر تعبوية من الانتماء إلى إثنية البشتون في حد ذاتها. وقد شكلت طالبان مجموعات محاربة من قبائل مختلفة، وكانت تعير أهمية للخريطة القبلية والعرقية لتوسيع نفوذها.
حاولت الولايات المتحدة -أسيرة الإدراك الخاطئ للقبائل- استخدام هذه الأخيرة ضد طالبان، لكن ما يمكن أن يبدو اعترافا أو تدعيما للسلطة القبلية، يعمل في الواقع كتبعية تؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير النظام القبلي. في الواقع، تُفرض هذه المحاولات على القبائل التي لا تستطيع التشكيك في ممثلي الدولة، ولا معارضة طالبان. لكن سواء عادت طالبان إلى كابل أو أن حلا سياسيا آخر برز على السطح بعد مغادرة قوات التحالف، فإن موقع القبائل في اللعبة السياسية لن يكون إلا هامشيا، وبشكل أساس كشبكة تضامن في المؤسسات أو كلاعب في ألعاب سياسية محدودة جدا.
في باكستان، إن دعم كامل القبائل تقريبا لعناصر القاعدة بشكل فاعل أو سلبي قد شكل عنصرا ظرفيا مواتيا لحركة طالبان على اعتبار أن عناصر القاعدة كانوا يحظون بمكانة الضيوف. إن الانحياز إلى الطرف الضعيف من وجهة نظر البشتون يقوي الإحساس بالشرف عند الفرد.
أعاد المجتمع القبلي هيكلة نفسه حول المقاتلين الذين نجحوا حيث أخفقت الحكومة والمؤسسات التقليدية، وتوصلوا إلى إرساء جيوب سلطة بديلة. لقد راهنوا على غضب الجماهير إزاء الفوضى العامة والجريمة وأصبحوا بذلك سلطة أخلاقية بديلة. لقد استُبدلت البنية القبلية ببنية دينية مفروضة، هي نفسها مبنية على تفسير محلي للشريعة التي تولي أهمية كبيرة للعرف السائد محليا. لقد أسس طالبان باكستان مراكز بديلة للإدارة القضائية وفض النزاعات، ودفن دور الأعيان القبليين حين أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية جنوب وزيرستان في آذار| مارس 2006.
لقد نُقِض العقد الاجتماعي القبلي، ويعتبر أفول الأعيان المحليين أحد التغييرات الرئيسة في المناطق القبلية المذكورة. فمنذ عام 2004، اغتيل عدة مئات من الأعيان المحليين في وزيرستان بسبب الاشتباه فيهم بالتجسس لمصلحة الولايات المتحدة أو الحكومة الباكستانية، وغادر كثيرون المنطقة ولجأوا إلى المدن. ويؤكد أفراد نخب البشتون الذين يرفضون قبول التغيير الاجتماعي بأن النسيج الاجتماعي القبلي لا يزال على حاله، وسيعاد العمل به حين يتم التخلص من طالبان. تجسد هذه النخبة القيادية فكرة الإبقاء على نظام يفاقم الفقر ويحرم الشعب من نيل فرصته في الارتقاء الاجتماعي. وبحسب مريم أبو ذهب، يمثل الجهاد في نظر الشباب القبليين المهمشين وسيلة لتطوير السلطة الحالية التي لا يمكن تقويضها في رأيهم بطريقة أخرى.
في اليمن، بغض النظر عن الادعاء بالانتساب إلى سلسلة النسب البعيدة -التي هي بلا شك “وليدة الخيال” إلى حد بعيد- فإن النظام القبلي اليمني يبدو أقل تأثرا “بعلاقات الدم” منه إلى الانتماء إلى إقليم جغرافي محدد لم تتطور حدوده في نهاية المطاف إلا قليلا خلال قرون عديدة. يلاحظ بول دريش في هذا الصدد مدى غياب خطاب الغزو عند القبائل اليمنية. ومن ثم يشكل استقرار الإقليم وما ينجم عنه من استقرار لأسماء الأمكنة خاصية يمنية تمنح علماء الآثار والتاريخ معلومات قيمة.
وعلى الرغم من استناد القبلية إلى قانون شديد الترابط يسمح بالإجابة عن حالات عديدة، فإنها تبقى من وجهة نظر عدد لا بأس به، مرتبطة بـ “الفوضى” وغياب النظام. في هذا الخصوص، تبقى الخطابات السائدة للدولة مزدوجة المعنى وتجعل من القبيلة مصدر عجز السلطة عن السيطرة على أراضي البلاد وتأمين الخدمات العامة لمواطنيها، في الوقت الذي ساهم فيه النظام باستمرارية المتغير القبلي في النظام السياسي.
في هذا المنحى كانت الاستمرارية بين نظام الإمامة السابق، الذي كان هو أيضا رهن حماية القبائل إلى حد بعيد، والجمهورية واضحة. إن انحياز تلك القبائل القاطنة في المرتفعات إلى جانب الجمهورية خلال الحرب الأهلية هو الذي منح الاستقرار للنظام المؤسساتي ورسخ النظام الجمهوري في الستينيات. منذ ذلك الحين، تم إدراج البنى القبلية، أو في الأقل بنى القبائل القاطنة في المرتفعات، في النظام السياسي، مستفيدة من نظام زبائني تطور خلال عهد علي عبد الله صالح. وبعيدا من تقدمية سلفه إبراهيم الحمدي الذي اغتيل عام 1977، أو النظام الاشتراكي لليمن الجنوبي الذي جعل من النخب التقليدية تجسيدا للتخلف، دعم صالح مباشرة البنى القبلية.
إذا، يتحمل القادة السياسيون من دون شك، وفي طليعتهم صالح قسطا من المسؤولية في استمرار تلك الصورة. لم يتوقفوا قط في الواقع عن استخدام القبائل وتحويلها إلى وسطاء ورهانات لسلطتهم في آن واحد. ففي لقاء شهير خصصه لمجلة أسبوعية سعودية عام 1986، أكد صالح: “تشكل الدولة جزءا من القبائل، وشعبنا اليمني هو تجمع قبائل” (ص 124). لقد وضع بهذا الشكل متغيّر القبيلة في صلب هوية بلده.
مع ذلك، لا يمكن اختزال المجتمع اليمني بمجرد ديناميات دولة ذات نظام جمهوري تستغل القبائل وتستغلها القبائل؛ تلك القبائل المتحدرة بشكل أساسي من مرتفعات اليمن الشمالية الغربية. إذ، إن هيمنة هذه المناطق القبلية على باقي المناطق ليست كاملة. على الرغم من غياب الإحصاءات الجدية حول الموضوع، فمن الممكن أن لا يخص الواقع العشائري في النهاية سوى أقلية عددية. فمن الحجرية في جبال تعز حتى المناطق الحضرية مثل عدن وصنعاء مرورا بحضرموت وتهامة، هناك بنى أخرى راسخة تستحق من دون شك أن يوليها الباحثون عناية أكبر.
لقد تراجعت المرجعية القبلية إلى حد بعيد، لأسباب تاريخية وديمغرافية، في اليمن المنخفض حول مدينة تعز وفي عدن وريفها. إذ، شجعت الهجرات الداخلية والخارجية إلى منطقة تعز المزدحمة بالسكان، وإلى الحجرية، على نشوء أشكال بديلة للتنظيم، وعلى تكوّن الهويات المحلية حول وحدات حضرية صغيرة.
هناك علامة أخرى على أزمة الزعامة القبلية، إذ لم تضع انتفاضة عام 2011 المناوئة لنظام صالح الشخصيات القبلية البارزة في الواجهة. فوجدت تلك الشخصيات نفسها تلهث وراء الانتفاضة، أو تحاول أن تجير لمصلحتها حركة بدأها شباب المدينة بشكل أساسي. ولم يلق اقتراح الوساطة في آذار| مارس 2011 الصادر عن صادق الأحمر شيخ مشايخ حاشد أي صدى حقيقي وهذا له مدلوله. وهكذا فالمجتمع اليمني ليس قبليا فحسب، بل متأثر أيضا بالدرجة نفسها بمراجع عدة متعلقة بالهوية، لا تنافس أو لا تلغي بعضها بعضا بالضرورة، وإنما تزيد من تعقيده وغناه، كما يشير لوران بونفوا.
في ليبيا، كان نظام القذافي يعمل وفق صيغة تستبعد كل أشكال المأسسة، إذ لجأ النظام، من أجل شرعنة سلطويته الشعبية وشخصنته، إلى تطوير خطاب معاد للدولة وترويج ثقافة تحدي الدولة. كان هذا المفهوم النافي للدولة يُستكمل ويُسوغ بإشادة ملتبسة بالقبيلة، تزدري في الوقت نفسه الحقائق القبلية التي تنتقد بأنها بالية. وفي الممارسة العملية، كان أدوات التحكم المؤسساتية وتفكيك هيكليتها يعوض، جزئيا، بتسليم وسائل الاتصال بالسكان والتفاوض معهم لجهاز قبلي، تناط به بهذه الطريقة وظيفة سياسية غير مسبوقة على هذا المستوى. وبهذا فإن تفكيك هيكلية أدوات التحكم المؤسساتية والاستعانة بأدوات مستمدة من الواقع القبلي كانت العناصر المكملة لإستراتيجية هيمنة غرضها تحاشي المجتمع المدني، بحسب علي بن سعد.
عند اشتداد موجة الاحتجاج التي اجتاحت تونس ثم مصر، تحدث القذافي عن الهوية القبلية كنقيض للمجتمع المدني. ففي 28 كانون الثاني| يناير 2011، أعلن القذافي في خطاب متلفز “إن مفهوم المجتمع المدني غير قابل للتطبيق في ليبيا”. فليبيا طبقا للقذافي، “مدنية بالكامل” على عكس الغرب حيث يتميز “مجتمع حكومي رسمي عن مجتمع مدني (يتشكل) من مؤسسات غير حكومية” (ص 182).
شكل كثير من الشبان المثقفين، الذين درسوا في الخارج أو الذين قدموا خصيصا من بلاد الشتات كي ينظموا إلى حركة الاحتجاج، إطار الحركة وواجهتها في أثناء شهورها الأولى. وحين فُرض على السكان طريق الكفاح المسلح، ظلت الحركة الثورية تنظم على قاعدة خليط اجتماعي واسع لا وزن فيه للأصل قبلي، كما يشهد على ذلك تشكيل الكتائب، وهي وحدات مقاتلة ثائرة ذات مستوى يماثل السرية.
بينما يدفع عدم اليقين الليبيين إلى الرجوع إلى البنى القبلية وبنى الجماعات، بما يشمل الرجوع إليها مع إعادة بنائها، تظهر الكيانات المحلية في يومنا هذا على الأرض كأجهزة وحيدة للإدارة. وقد فرضت نفسها على هذا النحو لأن الهبة الشعبية كانت بفعل عمليات تعبئة متفرقة على أساس مناطقي، لم يترك لها التدخل الأجنبي، السريع والقوي، وقتا كافيا كي تتحد. وتحاول هذه الكيانات، أن تموقع نفسها، وأن يكون لها وزن لدى حكومة طرابلس الجديدة. ويؤدي هذا الوضع من عدم اليقين ومن إعادة التشكيل غير المستقرة للحقل السياسي والاجتماعي إلى زيادة حدة التنافس بين الجماعات من أجل الوصول إلى قنوات السلطة الوطنية مستعينة في ذلك بتعبئة الانشقاقات الفئوية التي كان نظام القذافي يستخدمها.
في العراق، لم ينجح التحديث في إزالة العشيرة من المشهد الاجتماعي والثقافي(2)، مع أنه أضعف العشيرة وأرغمها على التراجع إلى المقام الثاني، بحيث وجدت نفسها محرومة من دورها السياسي. ولم تكن الدولة العراقية تتقبل إخضاع الفرد سياسيا لبنى أخرى غير الدولة ذاتها.
مع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، كان الملاحظ أن الطابع العشائري يعاد فرضه من فوق (أي من السلطة) على المسرح السياسي والاجتماعي. وكان ضم الأفراد إلى عدد من أجهزة الدولة ووحدات النخبة من الجيش يجري أساسا بمراعاة الأصول العشائرية والجهوية، إلى حد أن وحدات عسكرية وأجهزة شرطة واستخبارات أصبحت متطابقة على نحو تام تقريبا مع العشيرة. ولئن كانت الستينيات والسبعينيات قد تزامنت مع مرحلة إخضاع العشيرة للدولة والتي أطلق عليها هشام داوود “دولنة العشائر”، فإن الثمانينيات والتسعينيات دشنت “إعادة عشرنة الدولة” (ولا سيما في وظائفها الإكراهية). وقد رافق هذا المنحى الاجتماعي-السياسي عامل ذو مغزى، هو نشر أدبيات كثيرة ذات طابع نصف علمي، في عهد صدام حسين من أجل الإشادة بدور العشائر.
في الحقيقة، اعتُرف علنا بدور العشائر وشيوخها أثر غزو الكويت وانتفاضة 1991. ولئن كانت الثمانينيات مؤشرا على عودة العشائر إلى المسرح السياسي، فإن ذلك لم يكن يسمح بعد بتأكيد أن الواقع العشائري كان يحدد بنية الشأن العام. وقد كانت التسعينيات، مرحلة الانتقال الرمزية التي كان شيوخ العشائر خلالها يقدمون الولاء لصدام حسين، هي الحقبة التي شكلت فيها العشائرية الركيزة الرابعة لنظام البعث، بعدما أضيفت إلى نوع من الإسلام المسيس وإلى العروبة والماضي المجيد لبلاد ما بين النهرين. ونتيجة لذلك، استعاد كبار رجال الدولة أسماءهم المرتبطة بعشائرهم. وسمح تراخي القيود هذا باكتشاف أن عددا كبيرا من عناصر الحرس الجمهوري الخاص، ومن المسؤولين في الأجهزة الأمنية، ومن أفراد الحرس الشخصيين المقربين من صدام، أضافوا لقب “الناصري” إلى أسمائهم (وهذا اللقب مشتق من البو ناصر، وهي عشيرة صدام حسين).
بعد احتلال العراق عام 2003، وبعد شهور من التأرجح، لم تكن القوات الأمريكية خلالها قد وضعت في حسابها المتغير العشائري، عادت العشيرة إلى الظهور، ليس كأداة للحكم، بل كبنية اجتماعية-سياسية يُستند إليها في الاستراتيجيا العسكرية. وفي تشرين الثاني| نوفمبر 2003، أي مع بروز أولى المصاعب الحقيقية، تضمن مستند صادر عن قيادة القوات الأمريكية في العراق، وصفا لإمكانيات العشائر في إطار سياسة إعادة الإعمار، ولكن هذه المرة بطريقة فيها مبالغة.
كُلف المقدم آلن كينغ، بالاتصال بالعشائر، وعيّن رئيسا لمكتب الشؤون العشائرية (المسمى رسميا مكتب التوعية الريفية). وحاول أثناء وجودة في العراق ما بين آذار| مارس 2003 وتموز| يوليو 2004، أن يقيم بشتى الوسائل علاقات تعاون مع كبار الزعماء العشائريين في منطقة بغداد.
حاول رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، استخدام التجربة الأمريكية مجددا، لكن بدرجة أقل من النجاح. كان يشاهد يوميا لدى شيوخ العشائر،وكانت حكومته توزع الأموال بسخاء وتقدم الدعم السياسي للأشخاص الأكثر إخلاصا (كانوا يسمون مجالس الإسناد). في المقابل، كان المالكي يتوقع بالطبع الإخلاص والولاء لشخصه وسياسته. إلا أن المالكي، مع أنه كان يمثل الدولة العراقية على مستوى معين، كان يبدو في الحقيقة زعيما للطائفة الشيعية. وقد أدت لعبة الهويات السياسية هذه، التي كان منطلقها المركز إلى تشويش العلاقة بين العاصمة والضواحي العشائرية، ما دفع عددا من العشائر العربية في المناطق السنية إلى إتباع سياسة التسويف والمماطلة، بينما انضم عدد آخر من العشائر (الأصغر حجما) بشكل كلي أو جزئي إلى داعش.
وفي الخلاصة يذكر داوود “تظل العشيرة، في نظر السلطات السياسية والعسكرية وكذلك التحالف الدولي (ولا سيما الولايات المتحدة)، فاعلا مفيدا على الصعيد المحلي أو في الحالة المعاكسة، فاعلا يزعزع استقرار النظام المحلي. وتحتاج عشائر اليوم، كي ترسخ دورها كفاعل، إلى دعم الدولة إذا كانت الدولة تتمتع بالوجود والهيمنة، وإلا فإنها ستحتاج إلى دعم القوى الأخرى في المنطقة، وربما إلى دعم مباشر من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة”(ص 228).
وأخيرا، يشير سعود المولى في خلاصة نظرية إلى أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في المشرق العربي كما في المغرب ليست علاقات مترسبة من الماضي، متناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل على العكس من ذلك تماما، فهي علاقات سياسية واقتصادية مباشرة في آن واحد. ذلك أن هذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. ولم ينشأ في هذه الكيانات نشاط رأسمالي، بل إن علاقات الإنتاج القديمة دُمّرت ولم تُستبدل، أي إنه لم يجر الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر، ولم يكن لعملية الاستبدال تلك منحى تكثيف الأنشطة الإنتاجية وتحديثها، بل على العكس تماما من ذلك.
الهوامش
1- للمزيد حول العشائر العراقية راجع: عبد الجليل الطاهر، العشائر العراقية (بيروت: مكتبة الحضارات، 2011).
2- للمزيد حول دور العشيرة في العراق راجع: هشام داوود، “المجتمع والسلطة في العراق المعاصر”، في المجتمع العراقي: حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات (بغداد| بيروت: معهد الدراسات الإستراتيجية، 2006)، خصوصا الصفحات 167-191.

 

أحدث المقالات