كتب رشيد الخيون : عُقد الخميس الماضي (19 سبتمبر 2013) ببغداد «مؤتمر وثيقتي الشرف والسلم الاجتماعي». حضر من حضر وغاب من غاب، ولكل أسبابه ودوافعه. يأتي هذا المؤتمر بعد مؤتمرات وتوقيعات على عهود ظلت حبراً على ورق، ومازال التهرب من تنفيذها أُس العقبات، وأغلب الخطباء هم أنفسهم في المشهد. بلا ريب أن عقد المؤتمر، أي مؤتمر، قياساً بمهزلة العقل السياسي العراقي، يُعد غاية لا وسيلة، لهذا لا تُنتظر نتائج إلا نتيجة انعقاده.
لا يُعول على واحد منها، ولسان الناس يقول: «فإن تهادن قوم فانتظر شغباً/ إذ ليس هدنتهم إلا على دخن» (الرصافي، الدين والوطن). ولدى العراقيين كناية سائرة عندما يتكرر الكلام في قضية بلا نتيجة يُقولون: «صارت قصة عنتر». فالحكواتي، في مقاهي الزمن الغابر، يبدأ ولا ينتهي، وكم من حكاية تتكرر على مدار السنة بالنغمة نفسها، ولزين الدين (ت 1998): «سئمنا في الغرام حديث ليلى/ فصف للعالمين جمال دعدِ».
لكن اللافت في مؤتمر الوثيقتين هو بكاء الجعفري، متذكراً الشهداء، وتصفيق لا ندري هل للشهداء أم للجعفري! مع أن من الحاضرين من كان متشاغلاً عن الخطاب، منهم رئيس الوزراء، وكأن لسان حاله يقول: «سمعنا هذا الكلام»! الوجوه باتت بين مندهش ومتبسم، فليس أكثر من العراقيين مللا من الخطاب في الكتب والإذاعات والشاشات. فالجعفري، حسب خطابه، يريد التطبيق معبراً: «لا نتغنى به كمالياً»! وكالعادة لا يُسأل عن المعنى، إنه التّيه في الأقوال والأفعال.
أتوقف عند الشهداء الذين أبكت دماؤهم إبراهيم الجعفري، وأبكوا صدّام (أعدم 2006) من قَبل، حتى أمسى: «الشهداء أكرم منا جميعاً»! وصارت لهم منازل واعتبارات، وعطاءات لذويهم، إلا أن ثقافةً تشكلت ومازالت تعكس ظلالها، إنها رخص الحياة وتفكك الآصرة. حدثني صاحب معمل (مصنع) أن حارساً يعمل عنده لثلاثين عاماً، قُتل أحد أبنائه فحصل على سيارة وقطعة أرض، وابنه الآخر في جبهات الحرب، فقال لصاحب المصنع: إذا قُتل الثَّاني هل يعطوني أيضاً؟ قال: حرت في الأمر، فأصبحت لا أطيق هذا الرَّجل، وأخشى أن أطرده فأُتهم، وأعرف نتيجة الاتهام! فصبرتُ شهوراً حتى تخلصت منه!
أتيت بهذا المثال لا تقليلا من شأن القتلى في الحروب، ولأي سبب آخر، إنما تعبيراً عن مأساة الشُّهداء أنفسهم، فهم اليوم درجات عند «مؤسسة الشهداء»، وما كانوا درجات من قبل، حتى أن محبي عبدالكريم قاسم (قُتل 1963) تظاهروا احتجاجاً على المؤسسة لأنها لم تعده شهيداً، على اعتبار أن الشُّهداء مَن قتلهم «البعث»، وهو قتيل الحرس القومي، بينما الذي نفّذ عملية انتحارية في الثمانينيات وقتل عشرات الأبرياء بتفجير سفارة أو إذاعة أو وزارة، عُدّ شهيداً، والقتلى من المراجعين لتلك الدوائر صنفوا أعداءً! إنها فتوى التترس التي يستخدمها الجهاديون. هنا تمحى الطَّائفية، فلا يهم مَن أفتاها!
في هذا التنافس، وتكثير الشهداء، لنا الاستشهاد بما كتبه الجاحظ (ت 255 هـ) عن ملك «الزنج» وكان سفاكاً للدماء: «سمع صارخةً فقال: ما هذا؟ وقطع الأكل! قالوا: امرأة سقط ابنها في هذا الخليج فأكله التمساح. قال: وفي مكان أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل النَّاس؟» (رسالة فخر السُّودان على البيضان). لا تفكروا بأنها من مختلقات الجاحظ الأدبية، إنما فكروا في منطق ما يحدث الآن، وهو التنافس على القتل، ولا أحد يتنافس على الحماية!
شغل الشهيد والشهادة الفكر السياسي الديني، فعندما يُذكر القتيل يعبر عنه بالشهيد السعيد، وصار تزيين الشهادة ثقافة في هذا الفكر، حتى غدا الموت في سبيل الحزب أو الجماعة رزقاً من الله. نعم أتت كلمة «شهادة» (مفردة وجمع) و«شهداء» و«شهيد» أكثر من خمسين مرة في الكتاب، غير أنها ليست بمعنى الموت (كمفردة)، إنما بمعنى الإثبات أو البيان أو الإقرار.
لكن دينياً، مثلما ورد في الحديث النبوي و«نهج البلاغة»، هي الموت في سبيل الله. واستغل هذا المعنى سياسياً، وصار كلُّ قتيلٍ في سبيل مبدأ سياسي أو قومي شهيداً، مع أن المتحاربين كليهما من دين واحد بل في أحيان من مذهب واحد، وكلٌّ منهما يعتبر شهيده في الجنة وخصمه في النار.
ساد هذا أيضاً لدى الأحزاب غير الدينية، إلا أنها تعد قتلاها شهداء الوطن أو الحزب أو الفكر، فلا يتوهمون أنهم قتلى في سبيل الله، والعراق، بسبب ظروفه، تعددت أيام شهدائه، وأشهرت القصائد في هذا النوع من الشهادة. فلمحمد مهدي الجواهري (ت 1997)، «دم الشهيد»، و«يوم الشهيد» (1948)، و«إلى أطياف الشُّهداء الخالدين» (1963) وغيرها الكثير مما تضمنه شعره، لكن يبقى قوله الأكثر حضوراً: «خَلفتُ غاشية الخطوب ورائي/ وأتيت أقبس جمرة الشُّهداءِ»، فعلى أثر هذا المطلع منح اللجوء السياسي بدمشق (1956).
كُف رسمياً عن تسمية قتلى الحرب مع إيران بالشُّهداء، وإذا قيلت فعلى حياء، مع أن إيران مازالت تعتبر قتلاها في تلك الحرب شُهداء، وهذه واحدة من دواعي الاضطراب السياسي، لأن الأحزاب التي حكمت كانت تقاتل إلى جانب إيران، فكيف تعترف بمَن قاتلته من جنود العراق أنهم شهداء، بعد أن منحت قتلاها في الحرب تلك الصفة؟! بينما كان عليها غلق هذا الملف تماماً، والتعامل مع القتلى بمستوى واحد. حالياً توالدت التسميات: «كتائب سيد الشُّهداء»، «شهيد المحراب»، «ثأر الشُّهداء»، والأخير اسم لعمليات عسكرية في حزام بغداد، ولكل حزب مكتب «الشُّهداء»!
إن الحديثَ عن الشهادة والشهداء، بالعراق على وجه الخصوص، ذو شؤون وشجون، لكن ما لم نحسب حساب ما جاء في كلمة الجعفري قوله: «الشهيد مستقبل وليس ماضياً»! وبتعالٍ قال: «إذا لم تكن مثقفاً أجلس في بيتك»! والثقافة في محاضرات وخطابات الجعفري يراد فتح ملفٍ لها من لندن إلى بغداد، أوصلته إلى شتم منظمات المجتمع المدني، على أنها جاءت مع الأميركان، ويفهم من خطابه أنها وراء المفخخات وكواتم الصوت، وكأنه لم يهدِ لفاتحها مجسم سيف النبي والإمام (ذي الفقار)، وما أبلغ القول: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ»!
هذا، وثقافة ربط المستقبل بالموت، ليست غموض فكرة أو زلة لسان، إنما تبدو واحدة من إلهامات الخضراء، وحاشا الشُّهداء لم يدعوا أنهم فتحوا أبوابها، حسب ما نسبَ إليهم الجعفري، إنما الأميركان!