التوافقية شكل ما أو طريقة لتقاسم السلطة في نظام ديمقراطي، تنقسم فيه الدولة عامودياً على أسس عرقية أو دينية وتمنع تشكيل الأغلبية، وتُبنى التوافقات بتشاور الطبقة السياسية، ويؤدي الى إستقرار تقاسم السلطة وتجنب العنف السياسي..
ما يجري في العراق توافق وتقاسم، لكنه سبب عدم رضا للأغلبية؛ ساسة كانوا أو شعب، معتبرين أن التوافق سبب المشكلات، بتقاطع العمل السياسي والإداري، وإستئثار طبقة سياسية على حساب الشعب، وتغليب الطائفية على مبدأ التوافق.
تهدف النظم التوافقية الى الإستقرار وتجنب العنف، والتوازن بين السلطات وتمثيل الأقليات، وترك مهمة رسم السياسات للخبراء لا للسياسيين، ودفع القوى بإتجاه التهديدات الخارجية، بالولاء للدولة لترسيخ مفاهيم المساواة والعدالة.
التعددية مفهوم لقبول الآخر لا التقاطع ورفضه أو عرقلة إيجابياته، وتحفيز النخب للإنخراط في تنظيم الصراعات، وإبعادها عن فرعيات التطرف في العمل السياسي، وهذا من مسؤولية النخب لتسويق الإيجابيات، والإشارة الى السلبية بعين التقويم، وإبعاد ما يثير الإنقسام في وسائل الإعلام.
يعتقد مؤيدو التوافقية بأنها خيار لمجتمعات منقسمة، وتمهيد للإنتقال الناجح الى الديمقراطية، وحجر أساس لبناء الدولة بعد الديكتاتورية والفوضى، وأثبت جدواه في خلق نوع من الإستقرار السياسي في بداية التجربة في العراق، إلاّ أنها بقيت تراوح مكانها وزادت التقسيمات داخل المكون الواحد، ولم تخرج من أطار هذه التقسيمات الى التفكير بالأغلبية أو تجاوز المكونات، وحتى الأحزاب الليبرالية والمدنية، تعود الى مكوناتها، بعد صراعات ضارية قبل الإنتخابات، بل وحتى بعد تشكيل الحكومة، فهي تتهادن في فترة التشكيل لتعود مرة آخرى، مخلفة واقعا سياسيا وشعبيا غير مستقر وغير راضٍ، وتتعثر التوافقية، وتغيب قدرة النخب عن صياغة مخرجات سياسية.
أثبتت التجربة أن العودة للتوافقات السياسية في الحكومة القادمة، يستبعد أن تنتج حكومة قادرة على تحمل كل الإرهاصات المتراكمة، لإنعدام الثقة والمخاوف القائمة بين القوى السياسية، والجانب الشعبي من جهة آخرى، ونظراً لتراجع دور الدولة في فرض سياساتها وسيادتها وقانونها، نتيجة عدم قدرتها على إقناع جماهيرها، على أنها شريكة في تحمل المسؤولية في حال مرور الدولة بمحنة كالإقتصادية وكورونا حاليا.
يقابل ما سبق ممانعة بعض القوى السياسية للخروج من قواعد التوافق، وقد يدفعها لذلك الإستقواء بالخارج، أو زج الجمهور على أساس قومي وطائفي، وأضعاف الثقة بالدولة بالعودة للإنتماءات الفرعية أو الإملاءات الخارجية.. وهذت ساهم في إفشال الحكومات المتعاقبة، وشكل تفاوتا إجتماعيا وإقتصاديا؛ كعامل مضاف لعوامل عدم الإستقرار، وتزايد وتيرة الفقر ونسب العاطلين ونقص فرص العمل، وفقدان القبول بالقوة السياسية المرنة، التي تتميز بالتعامل بواقعية للوصول الى تفاهمات وترسم خارطة طريق تجنب النزاعات.
إن إستحضار الماضي الأليم، والسير بنفس أدواته، لا يمكن أن يعطي حلاً بل سيعقد مشهد الإنقسامات والتنافر الى حد القطيعة، والتلويح حتى بالسلاح في حال عدم تحقيق المصالح، وسيؤدي الى إنشقاقات داخلية هدفها الوصول للسلطة والتمسك بها ونفي الآخر، وبدل التفكير بالديمقراطية، بدأ تراود بعضهم فكرة رئيس مجلس الوزراء القوي، ولا تستبعد تلك القوى إستخدام القمع لتحقيقها والمحافظة عليها، ويدخل العراق للمجهول وسط تحولات جيوسياسية كبيرة في المنطقة، ومقصات عالمية جغرافية جديدة على حساب الدولة، تكون نتائجها أسوأ من تقسيمات سايكس بيكو.
يمر العراق بمرحلة مصيرية في ظل تحديات داخلية وأقليمية ودولية، مع إنعدام الثقة بين الشعب والدولة والقوى السياسية فيما بينها، وغياب مشروع وطني يؤسس لعقد إجتماعي جديدة يتجاوز الطائفية، وينهض بديمقراطية تحافظ على المكونات وفق نظام الأغلبية، والتفكير بعقلانية وهدوء، لعدم الإنجرار بفعل الضواغط الداخلية والخارجية، وتغيير الوضع بإطار بناء معادلة إستقرار دائم وتقاسم سلمي للسلطة، الذي يؤسس الى ألإنتقال من نظام التوافقية، الى الأغلبية العابرة للطائفية والمكوناتية، ورسم عقد إجتماعي جديد يعيد الثقة بين القوى السياسية والشعب، على أن تؤمن تلك القوى أن موقعها أما موالية وداعمة للسلطة أو معارضة بناءة، ويقوم النظام السياسي على أساس المنافسة السياسية والمواطنة.