لا شك في أن أي مجتمع يريد أن يقيم العدالة الراسخة ينبغي أن يعتمد على قيم التسامح التي تُعّد المفتاح الأساسي للسلام الأهلي غير أن تحقيق التسامح لا يتم دائماً بواسطة احترام العدالة لأن هناك أناساً يُعفى عنهم دائماً بينما يكونون مطلوبين للقانون، الامر الذي يعد موضوعًا دخل في مشغولية المفكرين في كل مكان، ففي لندن عرضت منذ سنوات مسرحية «الموت والعازبة» وهي مسرحية تشيلية أبطالها ثلاث شخصيات وهم المحامي جيراردو، وزوجته بولينا سالاز والطبيب ميراندا، حيث تُوكل للمحامي جيراردو مهمة المشاركة في لجنة تحقيق بالجرائم التي ارتكبتها دكتاتورية أغستو بينوشيه وكان من دُعاة التسامح ويريد أن يخرج من هذا التحقيق مع الجلادين بما يرسِّخ السلام الأهلي في العهد الجديد. يصادف المحامي وهو في الطريق إلى منزله أن تتعطل سيارته في مكان محرج وبعد ساعات طويلة من الإنتظار تقف إلى جانبه سيارة حيث يتطوع صاحبها بالقول: أنا الدكتور ميراندا، هل أستطيع أن أقدّم لك مساعدة ما؟ وبالفعل يساعده في إصلاح عطل السيارة فيبادر المحامي إلى دعوة الطبيب إلى منزله لتناول كوب من الشاي بهدف التعرّف عليه. وحينما يبادر المحامي بتعريف الضيف لزوجته تصرخ قائلة: إنه جلادي!إذ كان الطبيب يشارك في عمليات التعذيب في عهد بينوشيه ويشرف على اغتصاب النساء .
تُسلّط هذه المسرحية الضوء على الضحية والجلاد، كما أنها تتناول فكرة المحامي الذي يحاول أن يقنع زوجته الضحية بأن تتسامح مع جلادها بهدف تعزيز ثقافة التسامح وترسيخ مفهوم السلم الأهلي. تفقد بولينا سالاز السيطرة على نفسها فتمسك بالمسدس وتهجم على الطبيب الجلاد وتوثقه على كرسي وتدخل معه في حوار عميق ومؤثر، وقد اثارت هذه المسرحية كثيراً من الجدل حول موضوع التسامح والعدالة ومن هذه الاسئلة: هل أن التسامح يعفي الناس الذين ارتكبوا جرائم وتسببوا في أذى الآخرين؟ وهل أن الموظفين الذين ينفِّذون أوامر المسؤولين الكبار في الدولة يتحملون جزءاً من المسؤولية القانونية عن هذه الجرائم؟
أن هذه المسرحية تسلّط الضوء على الطريقة التي يتعامل فيها الضحايا المُنكّل بهم مع جلاديهم حينما يلتقونهم وجهاً لوجه، كما أن العديد من النصوص الروائية والمدوّنات تسلّط الضوء على هذه القضية المعقدة التي يقْدم في الإنسان الضحية على مسامحة جلاده، فيما فعل المسامحة بحد ذاته يحتاج إلى العديد من الرافعات السايكولوجية والثقافية والاجتماعية وخاصة حينما يكون ذات صلة بعقائد وقناعات فكرية وسياسية.
وهنا يمكن الاستدلال بحكاية الأسير الإيطالي السابق بريمو ليفي الذي روى لنا في كتابه المعنون «الهدنة» كيف أخلى الصليب الأحمر سبيله من أحد مراكز الإعتقال الهتلرية ومضى في رحلة طويلة مع مجموعة من أصحابه بهدف الوصول إلى منازلهم في إيطاليا غير أن ظروف الحرب لم تكن تسمح لهم بالعودة اليسيرة إلى منازلهم فيظل يتجول في عدد من القرى والمدن فيعثر على مجموعة من الجنود الألمان، الغستابو، الذين تقطعت بهم السبل ويبحثون عن لقمة خبز يسدّون بها رمقهم. كان أحد رفاق ليفي قد فقدَ في الحرب أمه وأباه وشقيقته وزوجته فكيف سيتعامل مع الجنود الألمان؟ يسلّط ليفي في هذه الأثناء الضوء على الملامح النفسية والتعبيرية لهؤلاء الجنود الذين قاموا مقام الجلادين وارتكبوا الجرائم والمجازر بحق الضحايا من شتى الجنسيات، والنتيجة، بأن رأياً عاماً يتعزز داخل المجموعتين مفاده أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا كبشر من دون فكرة التسامح.
ان خيار التسامح يطلق السؤال التفصيلي: كيف للضحايا أن ينسوا معذِّبيهم، وكيف للشعوب أن تنسى جلاديها؟ ومن خلال هذين السؤالين نطرح سؤالاً جديداً مفاده: هل يمكن لنا أن نبني سلاماً أهلياً من دون عملية التسامح؟ ومنْ يبدأ التسامح واحترام الآخر قبل غيره؟
**********
مارتن لوثر كينغ:
«للاسف، نحن نملك صواريخ موجهة ورجالا غير موجهين».
نقلا عن الصباح الجديد