تعد اللغة أبرز إبتكار عرفته البشرية، بها تميز الإنسان وإختصت بها الشعوب والأقوام حتى صارت جزءا أساسيا من هويتها. ولأنها مثال الخصوصية، فقد ظهر ما يزيد على 6000 لغة في العالم حسب تدوينات منظمة اليونسكو. ولكن وبأسباب العولمة فإن الكثير جدا من هذه اللغات يتهدده اليوم الإندثار كليا، وبإندثاره يخبو ألق تنوع ثقافي من نتاج البشرية ويضيع إرث أتباعه. ولذلك إهتمت دول ومؤسسات أكاديمية وإنسانية بالعمل على تعزيز بقاء هذه اللغات أو على الأقل توثيقها قبل إندثارها، وهذا ما كان وراء اليوم العالمي للغة الأم.
واللغة المندائية، وهي لغة الصابئة المندائيين، تعد الفرع النقي للآرامية الشرقية، عمرها يزيد على 2500 عاما. وهي شأن اللغات السامية تكتب من اليمين إلى اليسار وتتكون من 24 حرفا، وتتميز بأبجديتها الخاصة التي تكتب بها، وبها كتبت وما زالت تنسخ جميع المخطوطات الدينية للصابئة المندائيين. هذه اللغة مازالت هي المعتمدة في إجراء جميع الطقوس الدينية وبذلك حافظ الصابئة المندائيون على بقائها حية على الأقل ببقاء ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية. ولأنها لغة عراقية أصيلة، فمازالت آثارها باقية أيضا في اللسان العراقي بتميز من خلال المئات من المفردات لعل أبرزها مفردة (أكو ماكو)، ومفردة الـ (ﭼـا).
ما يؤسف له أن الجهات الرسمية المعنية في العراق لم تول هذه اللغة العراقية القديمة ما تستحق من رعاية حتى بعد سعينا لتسجيلها كلغة مهددة بالإنقراض وإقرار منظمة اليونسكو لذلك في أطلسها عام 2006. ومقابل ذلك سعى عدد من أبناء الصابئة المندائيين وبجهود ذاتية محدودة لتحقيق بعض الإنجازات توثيقا وتعليما للغتهم.
واليوم ولمناسبة اليوم العالمي للغة الأم وبالتعاون المشترك مع جامعة لندن/ معهد SOAS
بقسمه المتخصص باللغات المهددة بالإنقراض المعتمد عالميا للتوثيق، تمكنا من توثيق إنجازين يتعلقان باللغة المندائية وتثبيتهما ضمن المشاريع المعتمدة في هذا المعهد لتكون متاحة مجانا ويستفيد منهما المندائيون وغيرهم من الراغبين.
الإنجاز الأول: قاموس نهورا (النور) الذي وضعته عام 2012، وهو عبارة عن قاموسين في كتاب واحد، جهة اليمين قاموس مندائي- إنكليزي، وجهة اليسار قاموس إنكليزي- مندائي. وبهذا صار يمكن تحميل القاموس مجانا والبحث فيه، وسيتم العمل على تحميل القاموس مندائي- عربي وبالعكس لاحقا.
الإنجاز الثاني: تحميل الفونت المندائي الجميل (زازَي) للطباعة بالكومبيوتر. لقد قمت بإنجاز هذا الفونت تلبية للحاجة في طباعة الكتب التعليمية ونسخ بعض الكتب الدينية، وأسميته (زازَي) إكراما لأقدم ناسخ للكتب المندائية في قائمة الناسخين المندائيين قبل أكثر من 1500 عاما. وتلبية لطلب وحاجة المتعلمين والراغبين بالكتابة بحرف طباعي كومبيوتري فقد قمنا بتسجيله وتوثيقه، وإطلاقه للتحميل حسب تعليمات جهة النشر. يتم تحميل الفونت بسهولة في جهاز الكومبيوتر ضمن قائمة الفونتات ويوضع على المحور العربي، أما مواقع الحروف على لوحة المفاتيح فتظهر في صفحة خاصة في الموقع نفسه.
نأمل أن يكون لنا بهذين الإنجازين إسهاما عراقيا في خدمة اللغة المندائية ضمن ما أقرته الأمم المتحدة بهذا الخصوص وما تبنته منظمة اليونسكو، آملين بأن تتحقق إلتفاتة مطلوبة من الحكومة العراقية لتوثيق كل ما يتعلق باللغة المندائية كبعض الإرث اللغوي العراقي والعالمي لما لها من قدم معروف ولبقاء أتباع هذه اللغة موجودين إلى اليوم في وطنهم العراق، ولتوثيق مرجعية مئات المفردات العراقية من هذه اللغة الأصيلة كما ثبّتُ ذلك في كتابي: معجم المفردات المندائية في العامية العراقية 2006، 2019.
أ. د. قيس مغشغش السعدي
الرابط المعتمد للتحميل هو:
http://hdl.handle.net/2196/70607394-af7c-4fe2-af53-fd40fd7gdc56