خاص: حاورته- سماح عادل
“محمد الطيب يوسف”، كاتب سوداني، من مواليد السودان سنة 1977، حصل على بكالوريوس مع درجة الشرف كلية الصيدلة جامعة الخرطوم، كما حصل على ماجستير إدارة أعمال جامعة بحري. صدرت له رواية “الحبل السري” من الدار العربية للعلوم ناشرون 2016، كما صدرت له رواية “روحسد” من الدار العربية للعلوم ناشرون 2017. وفازت روايته ” بلاد السين الأم الرؤوم” بجائزة الطيب صالح 2020.
إلى الحوار:
** في رواية “بلاد السين الأم الرؤوم” منظومة من الرموز.. احكي لنا كيف أتتك الفكرة في رسم عالم خيالي محمل بالرموز الجديدة وكم استغرقت في كتابة الرواية؟
– الكاتب بشكل عام هو نتاج ما يقرأ، يأتي هذا ممزوجاً بالبيئة المجتمعية والخبرة الحياتية المكتسبة، كتبت رواية (بلاد السين الأم الرؤوم) ونحن نرزح تحت نير نظام قمعي، وكان لا بد من الإسقاط الرمزي لتجاوز تلك العقبة الكؤود، سعياً لوصولها بين يدي القارئ ومحاولة لزيادة الوعي بسوء الأنظمة الدكتاتورية، وأثرها المباشر في تحويل حياة الناس إلى كابوس، ومصادرة حقوقهم الطبيعية في عيش حياة كريمة يحترم فيها الإنسان ويوضع كقيمة عليا، فالوطن هو الإنسان الذي يمشي على التراب وليس التراب نفسه. وهذا ما تقدمه النظم الدكتاتورية، وهي تعلي من قيمة التراب على حساب الإنسان.
** للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن رواية “بلاد السين” هي رواية من نوع الديستوبيا. لكن يكتشف أن كثير من تلك الأمور قد حدثت على أرض الواقع.. ما رأيك؟
– ما هو الفرق بين الخيال والواقع؟ الفرق في أن الخيال يجب أن يكون مقنعاً فقط، الديستوبيا ليست في خيال الرواة فقط، ولكنها موجودة على أرض الواقع، بل وتزدهر وتنمو يوماً تلو الآخر، نحن نعيش في مجتمعات تصادر فيها الأحلام والحريات، والحق في الحياة، ويمجد فيها الإذعان والتبعية والمداهنة والرياء، ومن الحكم المنتشرة عندنا (الخواف ربى عياله) هل هناك دستوبيا أسوأ من تلك، وهل نحتاج إلى الخيال لننسج ديستوبيا تبدو أكثر إقناعاً؟.
** توقعت أن البصير سيكون من أحد المتمردين أو على الأقل ينضم لحركة معارضة تقوم بتغيير نظام الحكم في بلاد السين واعترف أني صدمت بنهاية الرواية.. لما كانت منظمة الأب منظمة موالية للسلطة ولما اختارت البصير؟
– كانت منظمة الأب في الرواية تشكل الأيدلوجيا التي استند عليها النظام كأب يستمد شرعيته في الحكم، ونحن شعوب أنهكتها الأيدلوجيات، وقذفتها يمينا ويساراً، وفرضت سطوتها على وعي الشعوب ذاتها، وأضحى الانضمام إليها رهين بالاستلاب وليس الوعي الذاتي في الاختيار، البصير وجد نفسه داخل المنظومة دون أن يملك حق الخروج منها، وفي ظل النظم الدكتاتورية يشرع الجميع في البحث عن الحل الفردي، والنجاة، وتضخم الأنا، وكذلك كان البصير، ليس استثناء، ولكن حتى في بحثه عن خلاصه، لم يكن يثق في الآخر، بل سعى للتغيير من موقعه فقط.
وهنا كان لابد من الفشل، التغيير فعل جمعي، لذا وجدت الثورات، حين تختلف الدوافع ولكن يتوحد الهدف، هل كان من المفترض أن أتحدث عن المقاومة فقط حتى أكتب رواية، هناك جانب مهمل شعرت بالرغبة في تسليط الضوء عليه، وهو التماهي مع السلطة القائمة، والبحث الفردي عن سبل النجاة الذاتية، والآليات التي تضمن لك الاستمرار، وقيمة الشك وقلة الثقة والإحساس بالأمان في استمرار النظم الدكتاتورية، رغم هشاشتها الخفية، وضعفها البائن.
** لما حرمت البصير من حب طيف؟
– لا أملك أن أحرم أو أمنح، ولكن سياق الأحداث هو ما أفضى إلى تلك النهاية، وإن كنت موقناً بأنه لم يخسرها بشكل كامل وإن استحال الحب إلى واحد من صوره المتعددة، وربما حقق البصير واحد من أهدافه وإن كنت أراه الأقل أهمية وإن كان الأعلى قيمة في ذات الوقت.
** هل كتبت رواية بلاد السين قبل أحداث ثورة السودان أم خلالها أم ماذا؟
– كتبت “بلاد السين” على جزأين، “الأم الرؤوم” و”الختم”، وكلاهما كتبا في العام 2017 قبل الثورة بعام تقريباً، وظلت حبيسة لحاسوبي الشخصي حتى خرج الجزء الأول منها عبر مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي متقلدا جائزة الطيب صالح مناصفة في دورتها الثامنة عشر.
** فازت روايتك بجائزة الطيب صالح ما وقع ذلك عليك؟
– الجوائز داعمة في مشروع الروائي وتلفت الاهتمام لمنتوجه الأدبي، وجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي واحدة من الجوائز القليلة في الوسط الثقافي التي ما زالت تلتزم النزاهة والحيادية، والفوز بها جالب للفخر ويعد اعترافاً رسمياً بمشروعك الروائي في الوسط الثقافي السوداني.
** هل تحلم بأن تخرج من نطاق السودان وتعرف على مستوى بلدان منطقة الشرق وهل تسعى لأن تفعل ذلك؟
– ليس حلماً، ليس للبحث عن الشهرة دور فيما أقوم به، ولكن على الكاتب القتال من أجل نشر مشروعه الروائي، فالروايات كتبت كي تقرأ، وهذا يستلزم انتشارها على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي أيضاً، في تتابع يترافق مع نضج المشروع نفسه وتطوره المستمر، وتجاربي السابقة في النشر لروايتين عبر واحدة من أكبر دور النشر العربية، وسأواصل في ذات الاتجاه في عملين جاهزين للنشر وهما “سادل” و”تاسوع الريح الأخير”.
** ما هو توقعك لردود الفعل على روايتك “بلاد السين” وهل ستروق للقراء؟
– يظل هاجس التقبل لما يكتبه الروائي قائماً طالما العمل لم يعانق أعين القراء، ولكن ذلك ليس الرهان الوحيد الذي يراهن عليه الكاتب، فبعد امتلاك الروائي لكافة أدواته، تظل قناعته الشخصية بجودة العمل هو المحفز الأساسي الذي يشكل معبراً لرضا الكاتب، وهذا ما أعمل عليه دائماً، وهو السعي الدؤوب لإرضاء النفس في عملية الكتابة نفسها ومن ثم البحث عن رضا القاريء لاحقاً.
** هل اختلف حال الثقافة في السودان بعد الثورة الشعبية الكبيرة؟
– تأثير الثورة كان كبيراً على الحراك الثقافي السوداني، عملية المثاقفة تحتاج إلى جو معافى، وحيز من الأمان والحرية، ويمكنني أن أفترض أن مساحة الحرية في التعبير قد زادت بشكل كبير وإن لم نصل للوضع الأمثل، ولكن الطريق يصنعه المشي، والمجتمع الثقافي يخلق مساحات الحرية اللازمة لإبداعه كل صباح، وكما نقول عندنا في السودان (السايقة واصلة).
** في رأيك هل نجحت الثورة في السودان وكيف ذلك؟
– الثورات لا تقاس بمعيار الفشل والنجاح بشكل مباشر، ولكنه حراك مهول يفضي إلى نهايات مأمولة، يمكننا الحكم على مدى النجاح لحراك بحجم ثورة ديسمبر بعد عقدين من الآن، على كل ما تحقق حتى الآن ليس هو المأمول، لكن ما يميز هذه الثورة أنها تنهض من عثراتها وتطيح بأعدائها واحداً تلو الآخر، ربما يكون التغيير بطيئاً ولكنه مستمر ولا يتوقف، مستوى الوعي الذي وصل إليه الشعب في غضون الثورة وما يليها، يجعل التفاؤل بالنجاح هو الأرجح، ولكن تظل المحاذير قائمة من تغول العسكر والضائقة الاقتصادية، والانفلات الأمني المتعمد، ولكن يظل الرهان على وعي الشعب بقيمة الحرية والديمقراطية، ورفض الرجوع إلى الخلف، والارتهان للدكتاتوريات البغيضة وأيدلوجياتها العقيمة.
جزء من رواية (بلاد السين الأم الرؤوم)..
انتشرت قوات الأمن الشعبي بسياراتها المموهة، عند الأسواق المغلقة، وبجوار المدارس، وعند إشارات المرور، وفي مداخل الأحياء، أينما التفت تجد سيارة من سياراتهم، يتسكع حولها أفراد الأمن الشعبي، وهم يرصدون الطرقات والمارة، كما قاموا بمسح العبارات المكتوبة على الجدران باستخدام الطلاء، وبعد عدة أيام تم القبض على عدة شباب بتهمة إثارة القلاقل، وكتابة عبارات تحض على هدم الثورة، ونشر الأكاذيب الهدامة، بغرض إثارة الفتنة، وبعد ثلاثة أيام تم القبض علي البصير، وزجه لأول مرة في واحد من مراكز الأمن الشعبي في عاصمة بلاد السين.
بعد أن أخرجته طيف من المعتقل، ظل ثمانية أيام وهو داخل شقته لا يغادرها، الحياة متوقفة في الخارج، ينام على الأريكة الرمادية، يشاهد التلفاز بنصف وعيه، يحاول إغراق نفسه في الطبخ، وقراءة عدد من الكتب التي أجل قراءتها كثيراً، ولكن عقله كان يذهب إلى هناك، السكين لا زالت تعبث في أحشائه، وعمود النار يلتهم مثانته، عندما يتذكر يهرع إلى دورة المياه ويفرغ مثانته في عجلة مطفئاً النار قبل أن تلتهمه، ((أبي كان شهيد الأسئلة وكدت أن أكون شهيد تشابه الأسماء)) همس لنفسه وهو ينظر من خلف النافذة إلى الطريق الخالي، يشق عويل سيارات مراكز الأمن الشعبي هدوء الحي الصامت، التلفاز يتحدث عن أسعار البترول، وحروب العالم، وقضية المراهنات، يتحدث عن كل شيء ماعدا عن العاصمة، وما يحدث فيها، يخفق قلبه وهو يتخيل أحدهم آتياً ليطرق الباب، ينام فيرى حبال المشنقة تتراقص في ساحة الأحكام، والحمير تجلس على المدرجات تنهق في استمتاع، وهي تتابعه يجاهد لالتقاط أنفاسه، يستيقظ مفزوعاً ممسكاً بعنقه، يشعل الأنوار، يرفع صوت التلفاز لأعلى درجة، يغني بصوت عالي، يبحث عن الطمأنينة في قليل من الأنس، ينظر من خلف النافذة، أحدهم يقطع الطريق عدواً، يتفقد أسنانه خوفاً من سقوطها، كان يخشى أن يعودوا ثانية، يطرقون الباب ثم يأخذونه إلى هناك، حيث تنتهي الحياة.