مع كلّ معلومة مميّزة تدخل ذاكرة الانسان ينطبع الأبرز منها فيها خاصّة تلك الّتي تحفر أيّام الصبا ومع أوّل شغف بالقراءة والاطّلاع , فلطالما دُهشت في واحدة منها في تلك المرحلة من أنّ < قبائل الأعراب قبل الإسلام كانت تحتفل وتتقبّل التهاني من القبائل الأخرى عند مولد شاعر لهم > ودهشتي تلك ليست فقط في أهميّة الاحتفاء بمكانة الشاعر بين تلك القبائل ياما علقت في ذاكرة كلّ منّا على أنّه كان عصر “جاهلي” ! , بل هو من أين لتلك القبائل “الجاهليّة” علم الغيب لمعرفة شاعر وهو لم يزل جاء للدنيا للتوّ ؟!! كيف !؟ , قبل أن أعرف فيما بعد أنّ هنالك قراءة أعمق في الفهم لم أدخل تجربتها بعد ! .. الآن وفي هذه اللحظات لحظات مصاب أليم بموت فنّان كبير لم يفهمه العراق ! رغم كلّ هذا العمق الحضاريّ الّذي يتمتّع به هذا البلد , سرعان ما تزول الدهشة , للعقم “المؤقّت” وعساه ن يكون كذلك لا مؤبّد , الّذي أصاب العراق فكريّاً ومعرفيّاً بعدما غلّف “النصّيّون” و “المستشيعون” مدركاته بعد ظهور “الإسلام” بغيبيّات لا أوّل لها ولا آخر قبل أن يدرك ذلك “المأمون” بعد فوات الأوان , أصبح من الصعب إظهار وجه العراق “رِيلِيفه” Relief عميق التجاعيد , بعد أن ساهم النصّيّون “شيوخ ومفتون” خاصّةً في ضلّ “الإسلام” بتفاسيرهم المضلّلة والمحدودة الأفق في إركاس العراق فكريّاً وفنّيّاً لمهاوي الانغلاق والغيبوبة الطويلة..
أن تكون فنّاناً تشكيليّاً ومخرجاً تلفزيونيّاً في نفس الوقت في مؤسّسة حكوميّة بالنسبة لعراق “ما بعد اندثاره الكوني” يمتلئ غلاف مؤسّساته بزَبَد العلائق وعيوبها الاجتماعيّة المعروفة ما منها يقطع سبيل “المواهب” يصعب معها ولوج تلك المؤسّسات الغائرة في كلّ ما يميت الإخلاص للوطن إلاّ عبر “الفلترة” ! ؛ فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته فلتة من فلتات الدهر أسبغها على الراحل “عماد” رحمه الله , هنّ هاتين الموهبتين المكمّلة إحداهما للأخرى “حرفة التشكيل العالية الإتقان يضاف لها الحدس الاخراجي الحاضر” كان يتمتّع بهما عماد عبد الهادي , وهو ما ينقص عمليّة الفنّ “السمع ـ مرئي” عندنا في العراق بحكم عدّة عوامل أهمّها برأيي الشخصي إضافةً للانقلابات العسكريّة ؛ انعدام التواصل السيمائي بين العراق وبين مصر المتمتّعة بالكادر الغربي الّذي قامت على أكتافه صناعة السيما المصريّة سوى احتكاك خاطف معها ؛ لم يستفد العراق من تجربتها رغم البذخ الهائل الّذي أطلق عنانه “النظام السابق” سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي على مجالات الثقافة والفن ذهب غالبيّته مع الأسف بين معمعة فساد وغياب المسائلة بسبب عدم كفاءة “الوسيط الناقل” وأمّيّته الفنّيّة والفكريّة ؛ أي ما بين القيادة السياسيّة , وما بين متصدّرو المشهد الفنّي عموماً من “ذوو الحظوة” الفنيّة من الكوادر المحسوبة على الحزب ومن عصابات “التكتّل” والتآكل الفنّي والعقم الابداعي , دفنت في رحى طاحونته مواهب كثر كانت واعدة , منها شكّلت آمالاً مستقبليّة تنظر لها الجماهير بحماس في رؤية منها بعض الومضات المضيئة كروّاد الإخراج في بداية تألٌه المتأخّرة جدّاً , “مثل مشروع العالميّة الواعد” ل “محمّد شكري جميل” , والراحل عماد , الّذي كان هذا الأخير رحمه الله يشكّل , للمنصف المحايد , أحد ألمع من سيجد له مكاناً بقوّة في المحافل العالميّة لو كتبت له ظروف تسمح , ولا نريد التطرّق أكثر .. ولكن ما يحزننا أكثر انتقال تلك “المحاصصيّة” السابقة إلى سوح الاعلام “الشيعي” الحاليّة وذوبانه وسطها بالتنسيق مع نفس بعض من “عصابات” الأمس ! .. إذ كيف نفسّر لمؤسّسة إعلاميّة “شيعيّة” مثلاً , مثل فضائيّة “العراقيّة” قامت على قائم الحكم الشيعي : “الإتلاف الوطني الحاكم” , تتجاهل فنّان ؛ ولنقل “شيعي !” وهم لا يعلمون بكلّ تأكيد إنّه ابن عمّة “السنّي” كاتب هذه السطور كي يجافوه وإلاّ لقلنا آمين ! .. ولا يقتصر الجفاء ونكران “نصرة المذهب” فقط على الراحل بل شملت المخرج القدير فيصل الياسري “النجفي” أيضاً ! رغم تواصله الإبداعي الاعلامي الواضح والنشيط لحد الآن أطال الله بعمره ..
لقد قدّم الراحل عماد أهمّ أعمال التلفزيون الدراميّة وأهمّ الكوميديّا الغير سفيهة فيه , كانت باكورة أوّل تأسيس علمي لعمليّة “اكتشاف المواهب” بدأها بشكلها المقنع “لملأ فراغ الأحقيّة المفقودة بالمواصفات الفنّيّة” لا العشوائيّة أو “الانتقائيّة” كالّتي عوّدتنا عليها مؤسّسة التلفزيون منذ تأسيسها سوى بالنزر اليسير المبدع ؛ علاوة على “التشكيليّة” , هذه الأخيرة تخرّج من معلمها الرئيسي الراحل , أكاديميّة الفنون الجميلة ببغداد , بأعلى درجة في التقييم النهائي “للألوان” في أعمال التخرّج حصدها من لدن الفذّ “فائق حسن” كانت “100 بالمائة” لم يحظ بمثلها أحد سوى المبدع العالمي “ضياء العزّاوي! ..
قدّم المخرج “عماد عبد الهادي شاكر العامري” ألمع نجوم التمثيل العراقيّين “هديل كامل هند كامل محمّد حسين عبد الرحيم جواد الشكرجي” للدراما التلفزيونيّة و “للضرورة الفنّيّة” الّتي تبحث عنها “الشخصيّة النصّيّة” لا لشيء آخر ولا لأجل العلاقات “الخاصّة” المستشرية في مؤسّساتنا الفنيّة المتصلّبة وغيرها لا تستطيع أقسى الظروف تليينها ..
عماد كان منذ طفولته مشروع ل”شاعر” جديد في الساحة الفنّيّة لمدينة الديوانيّة “جنوب العراق” لم يعر أهمّيّة موهبته أحد من مسؤولي الديوانيّة آنذاك سوى والده الحقوقي “مدير مصرف رهون الديوانيّة” آنذاك وبعض المثقّفين من أقاربه رغم أنّ الوسط الّذي وُلِدَ فيه هو في جوهره من رحم أولئك “الجاهلون” قبل الإسلام !!! .. تبّاً لدين لم يرع حق الله في خلقه المبدعون !!! .. ( الديوانيّة ) مدينة , لو يعلم الكثير , أخرجت للعراق “وللأمّة” إضافةً لكبير شيوخ الدين في العراق والعالمين العربي والإسلامي الشيخ “أحمد الوائلي” ولا اعتراض فقط على بكاءه عند نهاية كلّ درس ديني ؛ كبار التشكيليين والمسرحيين والرياضيين رغم صغر حجم المدينة المُترع بنهر صغير ساحر سالب للّبّ يخترقها بهدوء تنام على ضفتيه جميع مؤسّسات الديوانيّة الحكوميّة والثقافيّة والتعليميّة والرياضيّة والاقتصاديّة وعلى ضفافه الرقيقة تمّ إنشاء أوّل فرقة عسكريّة ( وطنيّة ) للجيش العراقي هي ( الفرقة الأولى ) وعلى ضفافها , وفي وقت تشكو من نقصها محافظات كثيرة في العراق ثلاثينيّات وأربعينيّات وخمسينيّات القرن الماضي كانت الديوانيّة تغفو على ضفاف نهرها الربّانيّ الرائع أربع دور عرض سيمائي متساوية لعددها عددها في بغداد !! صيفي وشتوي .. وهل تصدّق عزيزي القارئ أنّ شباب الديوانيّة آنذاك قبل شباب بغداد ارتدى زيّ وتسريحة “الفسّ برسلي” ! وأن شابّاته ونسائه “بنات ونساء المثقّفين والتجّار” كنّ يرتدين في تجمّعاتهنّ آخر صيحات ما كانت ترتديه الممثلة الراحلة “مارلين مونرو” ! .. وسط تلك البيئة وُلدت موهبة الراحل وبوقت مبكّر جدّاً ومنذ “أوّل ابتدائي” كان يرسم جميع رسومات “القراءة الخلدونيّة” ويعمل “ريليف” لوجه عبد الكريم قاسم بالطين “الحرّي” على ظهر “صينيّة الشاي” وبإتقان مبهر لغيرنا “حنش أبو الداطلي” ولنا نحن الّذين كنّا نصغره بخمس سنوات ! في نفس الوقت تتجلّى موهبته السيمائيّة بإشارات كان يبعثها بواحدةٍ منها من خلال ولعه “بماكنة السيما” مثلاً يحاول صناعتها بيديه استلف بدنها من “الفيتر” جاسم العجمي! ثمّ يقوم بتجربتها وهو في سنّ الرابع ابتدائي ! يرتقي إلى بلكونة أو “أُرسي” البيت المطلّة من داخله على حوش الدار المكشوف يثبّت “ماكنته” العجيبة يخرج “أنفها” المحتوي على عدسة “شيئيّة” خارجيّة من بين أحد فتحات جداره الحديدي سلّطها على جدار أبيض عمق شرفة أو زاوية أرضيّة “الحوش” ينظّف ذلك الجدار أوّلاً كي يكون مؤهّلاً لاستقبال الأشعّة البنفسجيّة المعتمة باللون الأزرق المعتم الجميل حاملةً معها “الفلم” المزمع عرضه ! .. لتفشل ونحن نرقب بلهفة ! .. ثمّ تفشل جميع محاولاته بعدها , أدرك واحدةً من أسباب ذلك الفشل , بعد سنين , أنّ “العرض” كان يتمّ في النهار وسط حوش مكشوف ! .. المهم كانت قوّة الولع بالإخراج لديه في تلك السنين الواعدة كالبركان الكامن بالانتظار ..
المهم أفرغ حزني بفقده وبالمسافة الطويلة عن لقاءه زمنيّاً 25 سنة ومكانيّاً 8 الاف ميل بهذه السطور لعلّي أفرغت بها شيء من الأسى والرحمة على روحه الطاهرة بمساعدة القرّاء عبر هذا الموقع الكريم ؛ تأسّياً لروحه المشعّة بالألوان طبعت حياتنا بطيف منها في تمثيليّته “ثابت أفندي” كان “الحوش” فيها مناسبة عماد إسقاط ذكرياته اللونيّة لصباه على زجاج حوش “ثابت أفندي” المبدع جواد الشكرجي على خيالات “ثابت” ببنت الجيران “هديل كامل” بعمله الإخراجي .. كماً لعلّي بهذه السطور أوقف بها نزيف دموعي على فقده .. أو تؤجّل انهمارها على الأقلّ ..