قبل عام تقريبا من رحيل آخر رئيس معتدل في تاريخ العراق( توفي في اب/ اغسطس 2008)وكنا في العاصمة الاردنية ، نتحسر علىسنوات الاستقرار في عراق
الستينات ، وبين ثنايا الذكريات، سمعنا ان الراحل ، يقيم في عمان منذ سنوات ، فالتمعت في ذهني فكرة إجراء حوار مع الشيخالذي ينوء بتسعين حولا .
استقبلنا نجل الرئيس عارف ، الضابط المتواضع ، قيس ، في منزل ، لا يشبه بيوت الاعظمية، حيث عاش الرئيس الراحل مع أسرته ،لكنه يعبق برائحة نادرة لماض اضاعته أهواء أحزاب ترفع شعار يا أعداء الديمقراطية إتحدوا !
كنّا ثلاثة::
الاكاديمي المقيم في لندن، موفق السامرائي، والسينمائي العتيد، قاسم حول. وكاتب السطور.
لم يتحدث الشيخ الجليل كثيرا ، لكن محياه انفرج عن ابتسامة، مفعمة بالطيبة، حين قلت له بين الجد والهزل:
” اسمح لي سيادة الرئيس بان اعتذر لك باسم جيلي عن سوء فهمنا لمرحلة كان يتعين علينا ان نعمق روح التسامح التي سادتهاوالرغبة في احترام الرأي والرأي الاخر ” .
رويت للرئيس عارف ، كيف خرجنا من كليات بغداد خريف العام 67 نهتف بسقوط نظامه ” العميل ” فيما كانت السجون تودعالمعتقلين وتعيد المفصولين الى وظائفهم بعد إنقلاب شباط عام 1963
رويت له كيف ان شرطة عبد الرحمن عارف وَعَبَد الرحمن البزاز ، كانت تسير على الرصيف منزوعة السلاح ولم تفرق التظاهرة، حتىوصلت الى الباب الشرقي، فطلبوا منا التفرق بسلام ولم يعتقلوا متظاهرا واحدا ، وأخبرته، ان رفيقا، متورما بالعداء لنظامه ،التفت نحونا ونحن نتفرق نحو مقهى إبراهيم ”مقهى المعقدين ” وهتف بصوت عال ” رفاق مظاهرتنا اليوم تشبه تظاهرة فيشارع لندني “!
لم نتنبه حينها الى مزحة الرفيق ” الحاقد ” لكن العسكر الذين كانوا يحضرون للانقلاب على عبد الرحمن عارف ، ادركوا ان مسيرةمن هذا القبيل ، تعني بداية حقبة سياسية تهز أجندة الحزب الواحد الاوحد.
المؤكد ان القوى الخارجية التي سعى الرئيس عبد الرحمن عارف الى التفاهم معها وفق مبدا المصالح الدائمة ، وليس العداواتالدائمة او الصداقات الدائمة ، وجدت في ديمقراطية عبد الرحمن عارف ضعفا ، قد يحمل الى سدة الحكم قوى اجتماعية تؤمنبالتعددية ، وتعيد الى عراق الثكنات ، قبة البرلمان .
السينمائي ، الصديق ، قاسم حول ، ذكًًَر الرئيس عارف ، كيف ان إدارة سينما “السندباد” ، خرقت الاتفاقية مع منتجي فلم
” الحارس ” وأوقفت عروضه ، رغم ان مبيعات التذاكر بلغت رقما قياسيا . ولم يجد بطل “الحارس “، قاسم حول ،سبيلا “لقمع ” إدارة السينما غير التوجه الى القصر الجمهوري الذي دخله بعريضة كتبها على عجل معنونة الى السيد الرئيس عارف ؛ يلتمسهالتدخل .
ويروى قاسم حول ، كيف استقبله حراس القصر ، وقبل ان ينهي ” خوطة الجاي ” خرج أحدهم معتذرا :
” الرئيس عارف في اجتماع لمجلس الوزراء ويعتذر عن مقابلتك لكنه أوعز الى رئيس الوزراء اتخاذ الاجراء اللازم ” .
تواصل عرض فلم الحارس أسابيع اخرى ، ورعى رئيس الوزراء المرحوم طاهر يحي بتكلبف من الراحل عبد الرحمن
عارف ، العرض .
وتصدح في وجه السينمائي المخضرم ، قهقه عالية ، لتخط على وجه الرئيس عارف ، المطرز بتجاعيد الجد
الطيب ، ابتسامة عريضة وكلمة واحدة ” الله كريم ” .
رحل عبد الرحمن عارف ، فانطوى مشهد نادر في تاريخ العراق . حين كان الساسة ، يخشون الشعب ، ويخافون غضب الله ، ويسعونبإمكانيات ذهنية ، وثقافة سياسية متواضعة ، لكنها تحنو على شعبها؛ لبناء البلاد وتوظيف ثرواتها لخدمة مشاريع التنمية والأعمار .
هذه ليست مرثية بمناسبة رحيل نجل الرئيس عارف، قيس الذي فارق الحياة في عمان بعد أكثر من عقد على رحيل والده.
انها ومضة سريعة لحقبة سياسية ، اغتالها المغامرون الدمويون ؛ عن فترة حكم عبد الرحمن عارف الذي وافته المنية في صيفعمان القائض وكأن الشيخ الطيب ، اراد ان يتضامن حتى اخر نفس مع العراقيين ، شعب الله المحتار في أصقاع الارض.
عاش قيس عبد الرحمن عارف؛ فخورا بفترة حكم والده، لانها كانت نزيهة، ولم تشهد، كما قبلها وبعدها، قمعا او تعدِ على الناس.
وكنا تعرفنا على الضابط الشاب، أثناء الخدمة العسكرية الإجبارية، بعد التخرج من الجامعة، وجرى نقلنا بعد التدريب الى القوةالبحرية في البصرة، مع تقارير عن نشاطنا السياسي سنوات الجامعة.
كان البعثيون؛ يحكمون سيطرتهم على السلطة منذ خمس سنوات تقريبا. ولاح لنا ان خدمة الضابط قيس عارف في القاعدة البحريةعلى ساحل الخليج، ربما كان نفيا او أبعادا، لضابط رحّل الانقلابيون والده الى إسطنبول، في لحظة تأريخية، يتضح اليوم، ان الرجلكان يبحث خلالها، مع عبد الرحمن البزاز، وقيادات سياسية قومية وديمقراطية، إعتماد دستور جديد دائم، وفتح نوافذ على حريةالتعبير والصحافة وتأسيس الاحزاب.
تعامل معنا الضابط الدمث قيس، باحترام، وكنا نلجأ له من تغول العرفاء الأجلاف. وتمتع فصيل ” الخريجين” الكلمة التي كانيصعب على غالبية العرفاء لفظتها، ببعض
الامتيازات، سواء بتدخل الملازم او ربما النقيب آنذاك ، قيس او امر الوحدة، الذي لم اعد اتذكر اسمه، لكنا كنّا نتهامس في خلواتناالبعيدة” يقال ان الامر من جماعة الزعيم عبد الكريم قاسم، ويتعاطف مع التقدميين“!
ربما كان مسحوق الهمس ذاك، مجرد أوهام وأمنيات.
واصل قيس عبد الرحمن عارف، اتصالاته معي، بعد ان كتبت شهادة حق عن والده الجليل. وكان يبعث لي بين الحين والآخر، طلبةماجستير، كتبوا دبلومات عن حقبة والده، كانوا يسالون تقيما لها من شاهد حي، يعترف بان العراقيين، لم يحرصوا عليها، وجاءتالكوارث تترى على العراق، بعد رحيل عارف الاب،الطيب.
رحم الله العسكري الدمث؛ المثقف قيس عبد الرحمن محمد عارف. ورحمنا جميعا من شرور الجهلة والمنافقين.