18 ديسمبر، 2024 9:57 م

علي شريعتي المفكر الثائر

علي شريعتي المفكر الثائر

حينما سُئل اينشتاين عن الاله الذي يعبده، فقال بأنه يعبد إله اسبينوزا. وقال جان بول سارتر: “أنا لا دين لي لكن لو خُيّرت، سوف أختار دين علي شريعتي”. على الرغم من إنّ سارتر ينتمي الى النزعة الوجودية الملحدة، وهو فيلسوف وروائي كبير حصل على جائزة نوبل لكنه رفضها، وثمة فجوة فكرية كبيرة بين الاثنين. وقول سارتر هذا في شريعتي قول لم يخرج جزافا، قول له دلائله ومعانيه السامية، خصوصًا وإنّ مثل هذا لم يحدث من ذي قبل، أعني أنّه لو طلب من احد اللادينيين أو الملحدين أن يؤمن فأنه يختار دينا كدين علي شريعتي، او غيره من المفكرين الاسلاميين على كثرة عددهم؛ والسؤال: لماذا يختار سارتر علي شريعتي بدل الكثير من المفكرين المشتغلين في هذا الفكر على وجه التحديد؟. الامر الذي اغاض كثير من الكتاب والباحثين، وربما اثار فيهم الحسد والغيرة، ومنهم الباحث عبد الجبار الرفاعي، حيث انتقد الرفاعي علي شريعتي نقدا لاذعا اكثر من مرة واعتبره مفكر أيديولوجي نمطي غير “نقدي” للموروث وما يحمل ذلك الموروث من قضايا لا تنسجم مع الواقع، وهي تشوه الصورة حقيقية للدين، وقد نشر الرفاعي نقده هذا في كتابه “الدين والظمأ الانطولوجي” وقد رديت عليه ساعتها في مقال نشرته في بعض المواقع الالكترونية، وبعثت له المقال، وساعتها حظرني في صفحته على الفيسبوك فترة وجيزة تجاوزت العالم ومن ثم رفع عني الحظر، كذلك نشر الرفاعي مقالا آخر انتقد فيه شريعتي، كأنه لم يكتف بواحد، مقارنا اياه بعلي الوردي، اذ اعتبر الرفاعي إن علي الوردي مثقف نقدي بينما شريعتي ايديولوجي، ويعني بذلك إن افكاره نمطية لا تمس الواقع بالصميم! وفي هذا المقال سنثبت إن كلام الرفاعي عن شريعتي كلام لا يخلو من سفسطة، وهو بعيد كل البُعد عن الواقع ويجانب الحقائق العلمية والتاريخية، والذي يقرأ شريعتي سيلمس ذلك بنفسه.
الاسلام السياسي
هناك من يفرّق بين الاسلام المحمدي، الاسلام الذي جاء برسالة تهدف الى نشر العدالة وتحقيق المحبة والتعايش السلمي بين كافة الناس، فلا فرق بين اسود وابيض الا بالتقوى، كذلك جاء الاسلام الى نبذ الاحقاد والاحن والنعرات الجاهلية والصدام من اجل مصالح ضيقة، فحث الاسلام على نشر العدالة بين الدين الواحد وإن تكون العبادة خالصة لله لا عبادة الحاكم او السلطان او رجل السياسة.
فجاءت اليوم انماط سياسية ونظريات أخرى حاولت استغلال الدين باسم الدين مستغلة طيبة الناس ووازعهم الايماني لكي تهيمن على المشهد السياسي والتفرّد بالحكم، وهذا هو الذي يعرف اليوم بالإسلام السياسي. حيث حوّل هؤلاء المسجد، الذي هو مُخصص فقط للعبادة والصلاة والتوجيهات الدينية، الى مقر حزبي يعود الى هذه الجهة او الى تلك الجهة الحزبية.
وهذا ما يدينه على شريعتي ويشجبه وهو ما عبر عنه بقوله: “المسجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له ثلاثة أبعاد: بُعدٌ ديني (معبد)، وبُعدٌ تربوي (مدرسة)، وبُعُد سياسي (برلمان)، وكان كل مواطن عضواً فيه. أصبح المسجد الآن قصراً فخماً… ولكن بدون أبعاد”. فشريعتي ينتقد بشدة النظرية التي تهدف الى استغلال الدين وتحويله الى مؤسسة ربحية حيث كسب الاموال بدل تعزيز الدين و الدعوة الصادقة الى عبادة واحد احد، وهجر الجاهلية والتمسك بحبل الله المتين، طفقت هذه الجهات الى تحويل المسجد الى تحقيق مآربها شخصية وملذاتها الدنيوية بحتة.
فمثل هذا المسجد رفضه شريعتي ورفض كذلك السعي اليه، لأنه بتعبيره ما اصبح مكان عبادة خالصة لله، بقدر ما اصبح منظمة حزبية، وعليه فهو يقول “إني اُفضّل المشي في الشارع وأنا اُفّكر في اللّه، على الجلوس في المسجد وأنا أفكّر في حذائي”.
شريعتي يحذر مما اسماهم بتجار الدين هؤلاء من سوء عاقبة، ستتمثل في ثورة عارمة، لكن مردودها سيكون سلبيا حيث يضيع الدين، ولات حين مندم. “ليعلم تجار الدين هؤلاء، سيأتي يوم وتثور الناس عليهم، وأنا أخشى أن يذهب الدين ضحية لتلك الثورة..”. ذلك بعد أن تعرف الناس زيفهم وأن هدفهم لم يكن خالصًا لله، بل كان هدفًا سياسيًا.
كذلك يلقي شريعتي باللائمة على بعض الناس ايضًا لأنهم يجرون لاحثين ورى هذا وذاك ناسين او متناسين هدف الدين الاسمى، الدين الذي يريد لهم المنعة والعزة والخير المحض، لا أن تستغلهم طائفة من الحكام والسلاطين بشعارات واهداف غير سامية ولا واضحة المعالم.
“إن الحديث يدور عن مجتمع نصْفهُ نائم مخدور مسحور، ونصْفهُ اليقظان هارب، نحن نريد أن نوقظ النائمين ليقفوا على أقدامهم ونُعيدُ الهاربين الفارين ليبقوا حاضرين”.
نقدي حقيقي وليس مزيفا
شريعتي في كل ما كتب من نقد للسياسة وللسلاطين ولبعض رجالات الدين (اخوان المسلمين) من الذين اقحموا انفسهم في هذا الغور العميق من البحر المتلاطم الامواج، والذي يضيع فيه الكبير والصغير، العالم والجاهل، المثقف والانسان البسيط، كان هذا المثقف هو ناقد حقيقي، يريد من الناس أن تصحو من سباتها وأن تنهض من غفوتها لتنتبه الى ما يجري من حولها، من قضايا وامور كثيرة ومهمة في حياتها اليومية، سواء كانت هذه الامور سياسية أو دينية أو حتى اقتصادية لها مساس مباشر بحياة الناس، لأن الناس هي بأمس الحاجة الى هذه القضايا الثلاث، كاحتياج الحي الى الاوكسجين واحتياج الزرع الى الماء. فشريعتي دائمًا يشعر بآلام ومعاناة الناس ومن فقرهم الذي يعصف بهم، وهناك من الحكام والسلاطين من يتنعم بخيرات البلاد المترامية الاطراف، فكان يحث الناس على الثورات ضد هؤلاء الطغاة المتسلطين على رقاب شعوبهم حتى يتحرروا منهم، وبالتالي حتى لا يبق فقير وليعيش الجميع الحياة الكريمة التي ارادها لهم الله، وبوجود الطغاة هؤلاء فلا ثمة حياة تليق بالإنسان هؤلاء المستبدين.
” قلت لصديقي: لماذا لا يصيح ديككم؟ قال: اشتكى منه الجيران لأنه يوقظهم، فذبحناه، هنا فهمت أن كل من يوقظ الناس من سباتهم على امتداد التاريخ هناك من يريد قطع رأسه، في حياتنا يتداول الناس اسم الدجاج ولا أحد يذكر الديك، يفكر بمن يملأ بطنه ولا يفكر بمن يوقظ عقله وفكره.”
وهذا مغزى كبير لمعنى كبير، فكل من اراد أن يوقظ الناس من سباتهم الفكري او الفلسفي او حتى الثوري، سوف يذبحونه كما ذُبح ذلك الديك المسكين لأنه يوقظ الناس، والطغاة المستبدين يريدون الناس أن تبقى في خمول ذهني ونوم فكري.
وهذا السبات لم يستهدف الانسان البسيط فحسب بل والقى بظلاله كذلك على المتعلمين، ما اسفر عن حالة من الارباك الفكري والثقافي والمعرفي من قبل المتصدي للمشهد السياسي. يقول شريعتي:” إن كون العالِم جاهلًا وبقاء المثقف عاطلًا من الشعور، أو اعطائه العناوين والألقاب البارزة، كالدكتور والمهندس والبروفسور وأمثالهم لحالة مؤلمة جدًا، فيما إذا كان فاقدًا للفهم والنباهة والشعور بالمسؤولية تجاه الزمان، وحركة التاريخ التي تأخذه معها هو والمجتمع، إن خطر بقاء العالِم جاهلًا وكونه أخرس وأعمى ولا شيء. لهو خطر كبير جدًا، لأن الإنسان إذا أُشْبِع بالعلم لا يشعر بالجوع الفكري، والشيء الذي يتطلع إليه العالم في هذا الزمان هو (المسألة الفكرية) منفصلة عن (المسألة العلمية)”.
شريعتي حينما سألوه عن دينه وعن مذهبه اجابهم: ” أنا ” سني المذهب” ” صوفي المشرب” “بوذي ذو نزعة وجودية” “شيوعي ذو نزعة دينية” “مغترب ذو نزعة رجعية” “واقعي ذو نزعة خيالية” “شيعي ذو نزعة وهابية “. يريد بذلك إن كل هذه المسميات لا تهمه بالمرّة، بقدر ما يهمه الانسان نفسه، لأن المسميات تلك الانسان يدور حولها لا هي التي تدور حوله.
عدنان ابراهيم والرفاعي
أمر طبيعي أن يكون لكل إنسان، عالم او مفكر او اديب او مثقف، انصار وخصوم، رفقاء واعداء؛ وهذه سنة طبيعية في الحياة موجودة في كل المجتمعات البشرية، فالشخص الناجح تكثر خصومه والانسان المغمور لا احد يلتفت اليه، فالنجاح له ضريبة، وضريبة باهظة.
النقد امر مشروع، لكن لابد أن يكون على أُسس علمية ومنطقية ومعرفية، ومعايير يقيس بها نقده، لا أن ننتقد على اساس تقليدي كون أن نرى من نحبهم او نميل اليهم فكريًا او مذهبيًا، وهم ينتقدون حالة معينة او شخصية بارزة او نظرية بعينها؛ فهذا النقد بحد ذاته هو ليس نقد موضوعي، بل هو اشبه بلقلقة لسان. النقد لا يجب أن يكون لغرض النقد، وانما النقد يكون من اجل اظهار حقيقة او توضيح مشكل او القاء الضوء على التباس علمي او معرفي، فالذي ينتقد لغرض النقد فهو انسان مؤدلج مقلد لغيره، لا تهمه الحقيقة بقدر ما يهمه النقد ذاته؛ اما الناقد الآخر، اعني الذي ينتقد بموضوعية ودراية لكشف التباس، فهذا هو الناقد الحقيقي الذي يحترم منهج النقد.
فالنقد إذن هو مسؤولية تقع على عاتق الناقد الحقيقي غير الذي يرزح تحت اهواء ومسميات، الهدف منها طمس الحقائق.
فمن الذين وقفوا بجانب شريعتي وكانوا من مؤيديه وناصريه هو المفكر والناقد الكبير والمثقف المعروف عدنان ابراهيم، فقد اشاد بشريعتي وبفكره ومنهجه وتصديه للأفكار المنحرفة والايديولوجيات والنظريات الجامدة، واعتبره مفكرًا فذاً، حيث انتقد الافكار القديمة واراد نهوض الامة من سباتها وتثور، من خلال هذا النقد، لتقف بالتالي مع الشعوب الناهضة التي تسير مع التجديد جنبًا الى جنب في سبيل ارتقاء الامة نحو آفاق معرفية علمية تليق بإنسان العصر الذي يواكب الحضارة، والتقدم الذي يشهده العالم برمته.
اما الناقد او المنتقد الثاني، والذي ذكرنا صفاته واهدافه، فهو عبد الجبار الرفاعي حيث اشرنا اليه في مقدمة هذه المقالة، والرفاعي هو رجل تقليدي كان في بدايته رجل متحزبا لأحد الاحزاب الاسلامية، ثم هجر ذلك الحزب، لكن فكره ومنهجه لا زال باقيًا على نهج ذلك الحزب، فهو لم يستطع أن يفارقه روحيا فقط كونه غادره جسديًا.
كاتب آخر اسمه حيدر حب الله، وهو يُعد من انصار شريعتي ومن المتأثرين بفكره. كتب مقالاً يشيد في الاعمال التي انتجها فكر شريعتي، ومدى تأثيرها على المتجمع الاسلامي عمومًا وعلى المجتمع الايراني على وجه الخصوص.
يقول حب الله، وهو يحلل فكر شريعتي، إن هناك اتجاهين في فكر شريعتي:
(1)” الاتجاه النقدي الثائر ضدّ الطبقية والاستبداد، وهو اتجاه غذّته في العالم الإسلامي آنذاك الحركة الشيوعية واليسارية عموماً، لهذا وجدنا عند شريعتي مقولات تشبه اشتراكية أبي ذر الغفاري، وحضوراً لافتاً للاقتصاد في نتاجاته تمثل في رفض المنطق البورجوازي بتمظهراته في المجتمع.. فتحدّث عن زهد علي.. وفي سياق رفضه الشامل للطبقية، بلغ الحال بشريعتي أن طرح مقولة «إسلام بلا رجال دين أو بلا مؤسسة دينية» وهي المقولة التي أثارت غضباً عاماً ضدَّه في الأوساط الدينية في إيران، أي في مجتمع كانت تركيبته الاجتماعية قائمة على هرمية يقف المرجع الديني على رأسها.”
(2): “الاتجاه النقدي الثائر ضدّ المقولات الدينية التي يعتقد أنها لعبت دوراً في تخلّف المسلمين، وهذه المادة النقدية التي قدّمها شريعتي في التشيع العلوي والتشيع الصفوي وغيره، شكّلت أحد المنطلقات التي صدرت على أساسها الفتاوى ضدّ كتبه التي اعتبرت كتب ضلال، حتى من بعض المرجعيات الكبيرة آنذاك، فطبيعة التشيّع السائد في إيران كانت ـ من وجهة نظر شريعتي ـ تاريخية، أي إنها من إفرازات ما يسمّيه شريعتي في بعض كتبه (الاستحمار) الذي تمارسه السلطة، إنه استخدام منطق الدين للتجهيل والاستغباء وتفريغ الوعي وتسطيحه.
شريعتي مفكر ثائر
هذا الإضافة الى ما ذكرناه في هذه المقالة، فأن شريعتي اعُتبر من طليعة المفكرين الثائرين على الاوضاع السياسية والاجتماعية والدينية، حيث نادى بتحرير الانسان من ربقة الانسان ذاته، المتمثلة برجل الدين الذي تحول الى سياسي، والسياسي الذي تحول الى رجل دين؛ لذلك حورب شريعتي من عدة اطراف وصبوا عليه جام غضبهم، واتهموه بتهم مختلفة ولا تزال بعض الكتابات تدينه وتتهمه بقضايا مختلفة، حتى إنهم اغتالوه في ظروف غامضة، اذ وجدوه مقتولاً في شقته وهو بعمر الثانية والاربعون من عمره.
وهكذا يغادر شريعتي العالم و الامل يحدوه في أن يحرر الفكر الانساني من القيود، لكن افكاره لم تغادر معه، فهذه كتبه تملأ الخافقين حاضرة لمن يريد أن يتنور بها.