في دول معينة يكون الرئيس أكبر من الرئاسة، يشرفها ويمنحها قيمة أكثر من قيمتها، وفي دول أخرى، والعراق في طليعتها، تكون الرئاسة أكبر كثيرا من الرئيس، حتى ليقال إنها معطف واسع وطويل الأكمام يضيع داخله جسد الرئيس.
وذنب رئيس الوزراء الحالي والقائد العام للقوات المسلحة، مصطفى الكاظمي، أنه قبل أن يتولى قيادة وطن محترق، من رأسه إلى أساسه، وهو لا يملك ما يطفيء نيران حرائقه المتصاعدة، لا بمؤهلاته الشخصية الفقيرة، ولا بجيشه الممزق، ولا بأجهزة أمنه المخترقة، ولا بوزرائه ومعاونينه. لقد ظلموه وظلموا الشعب العراقي حين حمّلوه ما طاقة له به، وليس له فيه قرار.
ففي عراق اليوم قد اختلط الإرهاب الداعشي بإرهاب المليشيات الطائفية المسلحة، وبالإرهاب الثالث الخفي الذي تموله وتأمر به أطرافٌ عديدة، داخلية وخارجية، في تبادل متقن للرسائل والبيانات والمحاورات على أرض العراق التي تحولت بسبب الوجود الإيراني ومليشياته الوقحة وسلاحه المنفلت إلى ساحة مفتوحة لمن أرد، متى أراد. أما الضحية، وهي سلامة المواطن وهيبة الدولة وانهيار سلطة القاون، فلا تهم أحدا من المتحاورين بالمفخخات والصواريخ، وأما حكومة الكاظمي ف (شاهد ما شافش حاجة)، تتحدث عن أمور هي أكبر منها ومن كل وزاراتها ومؤسساتها التي لا تملك سوى الكلام.
والثابت والمؤكد والمجرب هو أن العراق سيكون بألف خير، ولن يبقى فيه طرف ثالث، ولا مفخخات وصواريخ، ولا داعشي واحد، فقط حين تخرج جيوش الحرس الثوري الإيرانية والعراقية من حياته، لتنهض من جديد دولة العراق المستقلة الموحدة الديمقراطية التي تحترم نفسها وشعبها بلا حدود ولا قيود.
وكان علينا أن نعذر السيد الرئيس لو أنه لم يتعهد، في أول يوم له في الرئاسة، بأن يكون الشهيد الحي الذي سيرفع الزير من البير، وسيقلب الدنيا على رؤوس المختلسين والمزورين، وسيقتص من قتلة المتظاهرين، وسيستعيد سيوف الدولة وهيبتها وعدلها. إنه، والحق يقال، يَعِدُ بشيء ويفعل نقيضه، علنا، ومرةً وبعد مرة، ولا يخاف ولا يستحي.
ففي كل أسبوع، وأحيانا كل يوم، اغتيالٌ أو خطف أو صاروخ يطلقه (مجاهدون) على مطار الدولة فيسقط على منازل المواطنين ويقتل طفلا أو شيخا أو امرأة. حتى عرينُ السيد الرئيس نفسُه في المنطقة الخضراء لم يسلم من هدايا فصائل (المقاومة).
وفي أعقاب كل جريمة ومجزرة مهينةٍ للدولة العراقية ولسمعتها وأمن شعبها ورزقه اليوم ورزق أجياله القادمة، لا يملك، وهو رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، سوى التنديد والتهديد والوعيد، وسوى حلف اليمين على أن تكون آخر جريمة، وعلى أنه لن يسمح بتكرارها، وسيلقي القبض على الفاعلين، قبل أن يجف دماء ضحاياهم الأبرياء، وسينزل حكم القصاص بهم وبمن كوَّنهم ومولهم وسلحهم وحمّلهم بالمفخخات والصواريخ، وأمرهم بأن يدخلوا بها الجنة ويستمتعوا بحور عين، سواء كانوا من داخل الوطن المحتل أو من وراء حدوده المستباحة. ثم لا يحدث شيء، ولا يسمع أحدٌ، بعد ذلك، أو يقرأ شيئاً عن نتائج تحقيقات الحكومة الباسلة، وفي النهاية تُسجل الجريمة بعد الجريمة ضد مجهول.
وجريمة ساحة الطيران هي الأحدث والأبشع والأخطر من كل ما مر من مجازر، والأكثر إعلانا عن ضعف الرئيس، وجهله، وهوان قدره، وقلة ناصره المعين.
يقول الرئيس، “أثبت شعبنا صلابة عزيمته أمام الاإرهاب التكفيري الداعشي. إرادةُ الحياة لدى أهلنا وهم يتحدّون الإرهاب في مكان جريمة الباب الشرقي الشنعاء كانت رسالة شموخ وبسالة شعبية لانظير لها. رَدُّنا على من سفك دماء العراقيين الطاهرة سيكون قاسياً ومزلزلاً، وسيرى قادة الظلام الداعشي أيَّ رجالٍ يواجهون.”
نعم، قد تكون داعش هي الفاعلة، ولكن قد تكون جهةً أخرى أشدَّ عزيمة من داعش، وأكثرَ قوة على الأرض، وأقدر على التسلل والعبور والتنقل الحر بين حواجز الحكومة وستائرها الإسمنتية المحكمة.
وبغض النظر عن اتهامات الرئيس الأمريكي الراحل دونالد ترمب لسلفه باراك أوباما ونائبه الرئيس الحالي جو بايدن ووزيرة خارجيته بتأسيس داعش وتسهيل مهمتها، بالتنسيق والتعاون مع إيران ونوري المالكي، وبغض النظر عن تاريخ الحرس الثوري وأحزابه العراقية واللبنانية واليمنية، وخبرته الشهيرة في تفجير السفارات والمساجد والمدارس وأسواق البسطاء، فإن أحدا لا يبريء داعش من دماء العراقيين، وقد خبرت الملايين في نينوى وصلاح الدين والأنبار وديالى فجورَها وبشاعة إجرامها، ولكن تذكروا أن نفس هذه الجريمة، وفي ساحة الطيران، ذاتِها، في أيلول الأسود العراقي، 2019، وقعت لقتل المتظاهرين المطالبين بـ (إيران بره بره)، ثم حاول مرتكبوها الحقيقيون إلصاقها بداعش، أيضا، إلا أن حكومة عادل عبد المهدي أعلنت صراحة أن من قام بها هو (الطرف الثالث) الذي لا سلطان لها عليه. ثم جاء ما تلاها من هجمات بالسكاكين والهراوات والقنابل الحارقة والرصاص الحي على المتظاهرين ليفضح هوية الملثم الذي تحميه الفصائل، وتتستر عليه الحكومة، ليؤكد براءة داعش من دم المقتولين والمخطوفين والمصابين من شباب الانتفاضة.
وسواء كان الانتحاريان اللذان قتلا كل هذا العدد من المواطنين البسطاء الأبرياء من بقايا داعش أو من غيرها فإن الجريمة قد وقعت، وإن الحكومة تتحمل كامل المسؤولية عن حدوثها.
أليس من المحتمل أن تكون جريمة ساحة الطيران رسالة من (طرف ثالث) إلى أمريكا تطالبها بالرحيل النهائي عن العراق، وإفساح المجال أمام الحرس الثوري والحشد الشعبي لامتلاكه، وحدهما، دون شريك؟؟
ثم، أليس من المحتمل، أيضا، أن يكون الهجوم بالصواريخ الذي أعقب مجزرة ساحة الطيران بساعات رسالة تكميلية لرسالة ساحة الطيران، من نفس (الطرف الثالث) إلى الرئيس الأمريكي الجديد وإلى الكاظمي وإلى المتظاهرين لتبصيرهم، جميعا، بأن قبضة إيران هي الوحيدة الممسكة بحالة الحرب والسلام في العراق والمنطقة؟.
والمحزن الأكبر أن رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة يتوهم بأن طرد قادة أمنيين ووضع آخرين مكانهم من نفس نسيج الحكومة وجيشها وأجهزة أمنها، هو الحل. ويجهل، أو يتجاهل أن رئيس الحكومة، كائنا من كان، هو آخر من يملك قرارا في مثل هذه الأمورالخطيرة، ليس في يومنا هذا فقط، بل منذ أول يوم دخل فيه القتيل قاسم سليماني إلى العراق واليا وحاكما يصول ويجول، ويأمر ويطاع.
إذن فوعود الرئيس الكاظمي بأن تكون جريمة ساحة الطيران هي الأخيرة، فهي حديث عن السلاطين، ما دام القتلة والإرهابيون قادرين على إهانة الرئيس والرئاسة، والقائد والقيادة، علنا، ثم يخشى أحدٌ في الحكومة والرئاسة والجيش وجهاز الأمن الوطني أن يرد على الإهانة ولو بالكلام.