17 نوفمبر، 2024 8:29 م
Search
Close this search box.

أجساد صغيرة تفترش الأرض وتلتحف بالسماء

أجساد صغيرة تفترش الأرض وتلتحف بالسماء

يحصلون على قوت يومهم عن طريق التسول، مسح الأحذية، بيع السجائر والأكياس البلاستيكية، وغسل الزجاجات الأمامية للسيارات، لا يعتبرون أنفسهم أطفال شوارع، بل هم أكبر من ذلك، لأنهم مستقلون بذاتهم ويعتمدون على سواعدهم في تدبير حاجياتهم اليومية، يحكون عن ما يكابدونه في حياتهم وعن ظلم مجتمع لا يرحم ولا يعرف للشفقة طريقا، وعن الإهمال والتهميش والنسيان، يحكون وأعينهم تتطلع إلى غد أفضل يريدونه كما تبدى لهم في حلمهم الجميل.

على بعد خطوات قليلة من محطة القطار أكدال بالعاصمة المغربية الرباط، يوجد ممر أرضي، حوله ثلة من الأطفال المشردين إلى فضاء يقضون فيه لياليهم، ويتبادلون من خلاله الأحاديث والطرائف الهزلية والساخرة أحيانا، وبالقرب من ذلك الممر توجد كومة من القمامة تنبعث منها رائحة كريهة نتنة، وبمحاذاتها تظهر أشباح آدمية، افترشت أجسادها الأرض واستسلمت لنوم عميق لا يعكر صفوه ضجيج المرور، ولا تأبه لتلك الأقدام الإنسية التي تتهددها ما بين الحين والحين، ولولا حركة غير عادية صدرت من زميلهم “إدريس” عجلت بإيقاظهم، لاستمروا يغطون في نومهم إلى ساعات متأخرة من النهار، يحكي إدريس ذو الأربعة عشرة سنة، الذي اعتاد كما يقول زمليه، “اشليحة و”أنوار” على تقمص دور الديك وتقليد صياحه في كل صباح.

أطفال في عمر الزهور
في هذا الممر الأرضي، يعيش “إدريس” (14 سنة) وصديقيه “اشليحة” (13 سنة) و”أنوار” (16 سنة)، على ما جادت به القمامات من الفضلات، يفترشون الأرض ويلتحفون بالسماء، لا يبالون بصقيع البرد القارص ولا بحرارة الصيف المفرطة، مشهد مأساوي تمتزج فيه الإثارة بالدهشة والشفقة والأسى، ويطرح أكثر من سؤال وعلى أكثر من جهة.
أطفال في عمر الزهور يتسولون ويستعطفون المارة في وضعية تدفعك إلى طرح الكثير من الاستفهامات، من قبيل من أين قدم هؤلاء الأطفال؟ ولماذا لم تتحرك الجهات الحكومية، وكذا مؤسسات المجتمع المدني، لإنقاذهم من أخطار الشارع ومن أنياب المجرمين والمستغلين لوضعهم البئيس؟ وهل هناك بالفعل محاولات لتصحيح الوضع؟ الأخطر من ذلك، أنك تجد أطفالا في سن مبكرة يستعملون مواد مخدرة خطيرة تهدد حياتهم البريئة، وفي أوقات متأخرة من الليل، وفي أماكن غير آمنة.
ومن ثمة كان من الصعب أن تسأل طفلا عن حياته، خاصة إذا كانت كما هؤلاء الثلاثة، غير مألوفة وغير عادية، إذ يتوجب إتخاذ الكثير من الحذر والاحتياطات في الحديث معهم، خوفا من خدش حياء طفولتهم، لكن ما إن تدخل إلى وجدانهم وتستأنس بهم حتى تجد الطفولة المعذبة التي تعاني فقدان حنان الأم وعطف الأب، وتتمنى صدرا يحنو عليها وذراعين يلفانها ويحويان طفولتها المقهورة.

شجار وأب سكير
يحلم إدريس أن يكون ممثلا بارعا، ونجما سينمائيا مشهورا، مثل “جاكي شان”، يحكي لأصدقائه متباهيا ومعتزا بما شاهده في أحد أفلامه عندما دخل متسللا إلى إحدى دور السينما، بينما يقهقهون بدورهم وهم يستمعون إلى طريقته التلقائية في السرد والحكي، ضحكاتهم العالية وسعادتهم المفرطة وحكمتهم في الكلام، توحي إليك بأنهم موهوبين فعلا وبأنهم يتطلعون إلى غد مشرق مفعم بالأمل والطموح.
لكن سرعان ما تحول هذا البطل “الهليودي”، إلى كائن ضعيف حزين، عندما استحضر صور ذلك العراك الدائم الذي كانت تدور رحاه بين أبيه السكير وأمه الباغية، فيتحول البيت إلى ساحة معركة حقيقية تستخدم فيها كل الأواني والأثاث المنزلية، مصحوبة بكل أنواع وأصناف السب والشتم والأوصاف القبيحة التي يستحيي إدريس أن يتفوه بها، كما يقول، حتى وهو طفل ينام ويبيت في الشارع.
لقد خلفت ذكرى شجار أبيه السكير مع أمه اللذين انتهى بهما المطاف إلى الطلاق ومنه إلى غياهب السجون، جرحا لم تندمل آثاره بعد، ووجد نفسه في الشارع بلا معيل، حينها بدأ إدريس التسكع في الشوارع، إلا أن رفاق السوء سرعان ما استدرجوه إلى مستنقعهم، الذي حرف معالم وجهه الطفولي، بحيث ملأته الخدوش وفقد جل أسنانه، واستحالت قسماته إلى قناع كريه تزيد من وحشته تلك النظرات الجاحظة، وقد شابتها حمرة واسترخاء دائم كأنما المنوم فعل فعله إلى الأبد، يقول “إدريس” بنبرة حزينة “با هو السبب في لي أنا فيه، ولا عندي بحال الليل بحال النهار فين ما لقيت كنحط الراس”، ويتذكر إدريس أول يوم وطأت فيه قدماه مدينة الرباط حالما بالخلاص من شظف العيش، والهروب من ماض أليم، والعودة بعد حين إلى قريته الكائنة بنواحي الخميسات، وقد تغيرت أحواله وبدت آثار النعمة عليه، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد وجد نفسه وجها لوجه أمام عالم التشرد والضياع و”السيلسيون”والخوف، ومع ذلك تحدوه رغبة كبيرة في أن يكون كباقي أبناء وطنه، وأن يحيا حياة طبيعية وأن يتزوج وينجب الأبناء.

بلاد الطاليان
مراد ذو الثلاثة عشرة ربيعا، الذي يلقبه أصدقاؤه بـ”اشليحة” يحكي هو الآخر محنته مع “الزنقة”، ولا يتوانى عن القول بأنه يحيا في الشارع حياة ما كان لينعم بها رفقة أسرة معسورة الحال، متكونة من أب مقعد وأم تقضي نهارها في خدمة الغير مقابل الأجر الزهيد، يمتهن مراد أو “اشليحة”، مهنة ماسح الأحذية، تؤمن له دخلا يوميا قد يصل إلى 15 درهما، يدخر نصفها لمشروع حياته “الهجرة إلى بلاد الطاليان”، فيما يصرف الباقي على شراء “السيليسيون” و”بواطة السيراج”، ولا يخفي امتعاضه عن مآله، بيد أنه “ليس ذنبي –يستدرك مراد-، بل ذنب من جاء بي إلى هذه الدنيا، وهما يعجزان عن توفير أبسط الحاجيات لخمسة أبناء”.
ولوجه عالم التشرد ما كان ليمر دون أن يترك بصمات على جسده الصغير، فكانت طفولته شبيهة بذلك الحمل الوديع الذي وجد نفسه ذات يوم بين مخالب ذئب جائع شرس، يسرع الخطى عندما يرخي الليل سدوله إلى ذلك الممر الأرضي، وحين يفترش الأرض يتذكر والده المقعد ووالدته المسنة، واضعا نصب عينيه هدفا لا يبدو في نظره بعيد المنال ألا وهو إسعادهما، يحلم بسيارة من النوع الممتاز، يقودها وبجانبه فتاة شقراء، يقول مراد “حتى أنا عندي الفيلا ديالي، والأثاث الفخم المستورد من الطاليان، أو عندي الجردة والسخارة حتى هي..”، غير أنه عندما يصحو من حلمه الجميل لا يخفي رغبته في العودة إلى حضن والديه وإلى فصول الدراسة، أو تعلم مهنة تصون كرامته وتؤمن له مستقبله.

وحيد في العالم
استهل “أنوار” ذو السادسة عشرة سنة حديثه بعد أن وافق على مواصلة الحوار شريطة أن يكون على انفراد بعيدا عن مسامع رفاقه، ليستدرك قائلا ” اختار أبي الرحيل إلى وجهة مجهولة شهورا بعد ولادتي، ليترك زوجة وابنا بدون معيل…، عندما كبرت بدأت بالسؤال عن الأب بيد أن الجواب كان دائما “إنه مسافر”، معاناة أنوار ستزداد بعد أن خطفت المنية، في غفلة منه، والدته ومعيلته الوحيدة، ليصبح وحيدا في هذا العالم، وبعد أن طرده صاحب الدار التي كانت تكتريها والدته شر طردة، وبالرغم من محاولاته وبإمكانياته البسيطة معرفة مصير والده أو أحد أقاربه، إلا أنه لم يجد بدا من الخروج إلى الشارع “تمنيت لو نجحت في الوصول إلى أبي أو أحد أعمامي..إن كان لايزال على قيد الحياة فلن أسامحه فهو السبب فيما أنا فيه، كيف أسامحه وهو لم يكلف نفسه عناء البحث عن فلذة كبده؟، كيف طاوعته نفسه أن يتركني أتألم من الجوع والحرمان..” يقول “أنوار” وقد تغيرت ملامح وجهه، وتلونت عيناه لتنهمر منها دموع حارقة تغسل حزنا دفينا، يكفكف دموعه ثم يتابع القول “لم أجد من يأخذ بيدي، لا عائلة ولا سلطات ولا جمعيات.. فكان مصيري هو الشارع والتشرد والمخدرات”، مشيرا إلى أنه حاول فيما سبق الانتقال للعيش في الخيرية، غير أنه اصطدم بواقع مر، ففضل الشارع على دار الأطفال.

أحدث المقالات