بعد ان أستقر الوضع للمحتل البريطاني في العراق عام 1917، أخذ المندوب السامي بمساعدة المستشارة المسز بيل يرسم مسودة المشروع الاستعماري البريطاني في هذا البلد المحتل والذي يقوم على مرحلتين ، الاؤلى جعله تحت نظام الانتداب الذي أقرته عصبة الامم انذاك وتكبيله بمعاهدات اذعان كان آخرها معاهدة 1930 وهي معاهدة ابقت القوات البريطانية على الأراضي العراقية ، وهذه المعاهدة سبقت دخوله عصبة الامم عام 1932، وكما يرى الاستاذ محمد مهدي كبة في كتابه مذكراتي في صميم الاحداث ص37 ، (وهو من بدأ بفكرة المشروع القومي في العراق) ليس في نظام العصبة ، ولا في مبادئها اشتراط الاستقلال التام في قبول العضوية، والثانية الإعلان عن استقلاله استقلالا شكليا ورفع عنه نظام الانتداب ، غير ان المعاهدة كبلت العراق بما لا يسمح حتى باقامة العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي والصين ومنظومة الدول الاشتراكية ، وكان المشروع البريطاني يميل إلى جعل العراق منطلقا لتنفيذ المخططات التوسعية في دول المنطقة بعد اكتشاف البترول فيها ، وقد كان المشروع البريطاني أيضا يتضمن ربط المنطقة بأحلاف تحقق بها ماربها وتكون بمثابة الحزام الذي يحيط بالجنوب السوفيتي والاشتراكي ،، زمن الحرب الباردة،، وهكذا كان مشروع حلف بغداد او حلف (السينتو ) لعام 1955 فهو حلف ضم كل من بريطانيا وباكستان وإيران وتركيا والعراق ومقر الحلف أنقرة ، وبهذا تكون بريطانيا قد وصلت من خلال مشروعها إلى نفوط الخليج . وكان ذلك المشروع لا يكف عن التدخل في شؤون المنطقة خاصة بعد قيام ثورة 23 يوليو المصرية ، ورد المشروع البريطاني على وحدة مصر وسوريا باقامة الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن ، وظل العراق ضمن هذا المشروع يتامر على الدول العربية وكان آخرها محاولة احتلال سوريا بواسطة الجيش العراقي الذي انقلب على المحاولة بتفجير ثورة 14 تموز عام 1958 ، التي ألغت على الفور الاتحاد الهاشمي وأتت بالكامل على المشروع البريطاني وانفتحت الثورة مكسرة قيود بريطانيا نحو إقامة العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية والصين الشعبية ، ودخلت الثورة انذاك مرحلة التحول الاقتصادي بالعمل على التخلص من منطقة الاسترليني وبناء الاتفاقيات الاقتصادية مع الشرق الاشتراكي وتم اقامة المشاريع العملاقة كبناء المعأمل الحكومية الكبرى واستبدال الخط المتري للسكك الحديدية بالخط العريض ، وإنشاء مصلحة المبايعات الحكومية وذلك لتوفير السلع الاستهلاكية الغذائية بالأسعار المنافسة لأسعار السوق انذاك خدمة للففراء واصحاب الدخل المحدود . وقامت حكومة الثورة بإكمال مشروعها الوطني بإصدار قانون الإصلاح الزراعي ، الذي فتت الملكية الزراعية وقانون رقم 80 لسنة 1961الذي تم تحديد مناطق استخراج وتسويق النفط من قبل الشركات الاجنبية ، وهنا بدأ الصراع الحقيقي مع القوى التي تحركها المصالح الإقطاعية والرأسمالية وقوى الثورة المناهضة لمشاريع الاستعمار القديم ، وفي هذه الفترة كما يقول الدكتور علي مهدي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في كتابه ،،الوثائق التقييمية ، لمسيرة الحزب الشيوعي العراقي النضالية ص 32 ، ان بعض الاحزاب البرجوازية أخذت تخشى من ان يؤدي بقاء الديكتاتورية العسكرية الى وقوع سلطة الدولة في أيدي الطبقة العاملة وحلفائها الطبيعيين ، وهذا النزوع هو من مهد السبيل للارتداد على الثورة ومنجزاتها بانقلاب شباط عام 1963 المدبر خارجيا على الثورة ليبدأ المشروع القومي ، ولقد كان لمصر الناصرية الدور الريادي في هذا الانقلاب الذي جاء نتيجة تحالف البعث والقوميين العرب الناصريين ، وكان المشروع القومي فكريا قد أرسى قواعده المفكر ساطع الحصري بداية القرن العشرين ، حيث يقول في كتابه أبحاث مختارة في القومية العربية ص 98 ، لكل واحد من منتسبي هذه الشعوب لكل واحد من مواطني هذه الدول ان يقول انا مصري او انا عراقي او انا سوري او انا لبناني ، ولكن عليه ان يقول في الوقت نفسه انا عربي ، كما عليه ان يقول العروبة فوق الجميع ، وكانت أفكاره تدعوا لفكرة الوحدة العربية بشكلها العاطفي المجرد ، وظل القوميون من بعده بشتى أحزانهم وتنظيماتهم يدعون لمشروع الوحدة الخالي من المضامين البناءة وكانت أفكارهم فيها مجرد شعارات لا تأخذ بالحسبان إعداد الدول العربية اقتصاديا واجتماعيا لتكون مؤهلة لوحدة تقوم على المساواة بين الأعضاء ، وكانوا من الاشتراكيين على وفق اشتراكية عبد الناصر التي قامت على فكرة التأميم بعيدا عن طموحات الطبقة العاملة في إدارة المشاريع ، وكان العسكر هم من -أدار عجلة الانتاج، او على وفق أفكار مننظرهم ميشيل عفلق الذي رأى في الإشتراكية على انها زهرة على صدور العمال ، ولقد كان البعث العراقي في ضؤ أفكار عفلق قد حلق عاليا في المشروع القومي مناديا بالوحدة وهو حزب منقسم على نفسه في دولتين عربيتين متعاديتين هما العراق وسوريا، وفي حكمه الثاني بعد عام 1968، حقق الوحدة باحتلال الكويت وجر مشروعه القومي العراق نحو الحروب والخراب ، وصار العراق محاصرا فقد خلال ذلك الحصار كل مقومات البقاء واستكمل ذلك بالاحتلال الامريكي ليصبح بلدا محتلا فاقد السيادة ، وقد تقرر مصيره فيما بعد وفق المشروع الامريكي البريطاني الذي تقدمتا به الى مجلس الامن ليتمخض عنه القرار رقم 1546 لسنة 2004 ، الذي يعد بمثابة خارطة الطريق لمشروع العراق الجديد ولكن هذه المرة تحت لافتة المشروع الاسلامي ، والملاحظ ان المشروع القومي في العراق ، جاء بالقطار الامريكي كما عبر عن ذلك على صالح السعدي امين سر القبادة القطرية لحزب البعث والمشروع الإسلامي جاء بعد الاحتلال الامريكي. لقد كانت بداية المشروع الاسلامي في العراق عام 1949 على يد الإخوان المسلمين تأثرا بحركة الإخوان التي قادها حسن البنا وفيما بعد سييد قطب في مصر ،ولم يكن للاسلاميين تأثيرا على الساحة العراقية حتى اواخر الستينات حيث بزوغ نجم حزب الدعوة الإسلامية ،
ان المشروع الاسلامي هو في الوقت نفسه مشروع التباين التأريخي بين السنة والشيعة، بين نموذجي الخلافة والإمامة ، أن هذا التبايين في الواقع ، كما يقول الكاتب طلال العتريسي في مقالة له منشورة على الشبكة الدولية في 28 نوفمبر، 2017 لم يترك اي تأثير على المشروع الاسلامي قبل إنتصار الثورة الإسلامية في إيران ، فقد كانت الحركات الاسلامية لا تزال اسيرة التنظير لهذا المشروع ، فقبل الثورة الإسلامية كان ثمة تباين بين الإخوان المسلمين وبين الاتجاهات التكفيرية وبين فئة إسلامية ثالثة في مصر ترى أن هذا المشروع يجب ان يغادر مرحلة الخلافات الداخلية والتنظير باتجاه الفعل الحركي تجاه الحكام توج عملهم باغتيال أنور السادات على يد جماعة التكفير والهجرة ، غير ان انتصار الثورة الإسلامية في ايران حول الصراع إلى إسلامي إسلامي ، تصدت له كل من السعودية عن السنة ودولة ثورة خميني عن الشيعة وقد كانت ولاية الفقيه تعمل على تصدير الثورة الإسلامية إلى كل أنحاء المعمورة ، الثورة ضد الظلم وضد دعامنه الشيطان الأكبر اميريكا . ونتيجة للصراع بين قطبي الرحى الاسلامية وقع المشروع الاسلامي العراقي وسط المتخاصمين ولو ان فصائل منه تنحاز كليا إلى إيران ، إلا انه فشل في تحقيق التوازن وفشل في إقامة دولة الامامة او على الاقل دولة تاخذ بمعالجات اسلامية لمشاكل بلد خرج توا من اتون الحروب ،
ان الإسلام السياسي في العراق خرج من أرحام الأحزاب السرية او الاحزاب العلنية المسلحة التي كانت في إيران وجاء متعثرا لا يملك القدرة للتصدي للمشاكل ففضل الدفاع عن النفس من خلال إقامة الدولة العميقة التي باتت تعتاش على الدولة الرسمية ، وقد اتجهت نحو أضعاف هذه الدولة وتقوية دولتها ، مما أسفر عن تراجع الاقتصاد وتخلف الادارة الحكومية وصار يطلق على العراق دولة فاشلة ، وقد كان لسكوت الحكام الاسلاميين السنة والشيعة على استشراء ظاهرة الفساد او دخولهم طرفا فيه ان تحولوا إلى موقف المعادي لتطلعات الشعب باقامة دولة العدل والمساواة ، فاذا كان المشروع القومي قد سار بالعراق نحو الحروب المدمرة ، فان المشروع الاسلامي قد سار بالعراق نحو مشروع التجزئة والتقزيم ، ان تغليب العروبة بلا حس وطني وتغليب الإسلام بلا منهج وطني ، أبعد الوطن من حسابات الاتجاهين مما تطلب العودة الى المشروع الوطني ، القائم ، بلا منازع على الهوية الجامعة ، والتخلي عن الجزئيات المانعة والتسليم بقاعدة الوطن للجميع ، وطن تقام فيه الدولة المدنية ، تلك الدولة التي يقف أمام قانونها الكل الحاكم والكل المحكوم بالتساوي ، دولة العدالة الاجتماعية ، دولة مستقلة عن نفوذ الآخرين .
ان الدولة التي توزع فيها الثروة بشكل عادل بين مواطنيها لا يمكن ان تكون إلا دولة عادلة، فلا يعقل أن تقام ديمقراطية والصوت يباع فيها ويشترى ، وقد يقول البعض ان دعاة الوطنية غير قوميين ودعاة الدولة المدنية غير اسلاميين ،هذا قول مردود عليه ،، خاصة في العراق،، العراقيون قدموا أنفسهم دفاعا عن العروبة والإسلام ، ولكن عندما يجدون الوطن بات في خطر ، فانهم بعد ثورة تشرين عام 2019 قدموا المشروع الوطني لكي يكون بديلا عن كل المشاريع الفاشلة وهذا ليس بحلم انما هي حقيقة يجب ان يؤمن بها الجميع ، خاصة وان الجهات الداعية لهذا المشروع هي جهات قادرة على ادارة الدولة باستقلال تام ، ولها تأييد شعبي يقف في مقدمته الشباب الذي امتلأت به الساحات.رافعين شعار لا ينقذ العراق إلا مشروعه الوطني المستقل. وأبو المثل ايكول ،، ميحكك غير اظفرك،،،.