حكمت الشعرباف … علم من اعلام الطب في العراق … عالم فاضل قدير ، مثقف عضوي شامل في العلم والادب والتاريخ والشأن الاجتماعي …
نتناول هنا منشوراً كتبه في 2016 / 8 / 4 تعقيباً على الوقفة التضامنية حينها لعمادة كلية الطب مع الدكتور صباح نوري السعد … ونستذكر القضية موضوع البحث في محورين … الأول ، متابعه وتساؤل عما آل اليه الحال من تفاقم اكثر بعد مرور اكثر من أربعة أعوام على الوقفة التضامنية وبعد نحو عام على ظهور الوباء وطال ما طال الأطباء من اعتداءات سفلة القوم الغوغاء … والمحور الثاني ، الوقوف عند السبب الحقيقي لظاهرة التعرض للأطباء والاعتداء عليهم ، وفق الاجتهاد الذي ذكره د.حكمت في منشوره ، لما لهذا السبب المزمن من آثار وتبعات جسيمة ومعروفة دفع البلد بسببها ثمنًا باهضاً على مدى تأريخه المعاصر، وما يزال يدفع المزيد !! … وقبل ان نتناول القضية بمحوريها ، تقتضي الأمانة نشر نص المنشور :
( تفاقمت في الآونة الأخيرة ظاهرة التعرض للأطباء العاملين في المؤسسات الصحية ، وفي القطاع الخاص ، للتهديد أو الابتزاز أو الاعتداء الفعلي من قبل ذوي مرضى يدعون حصول ضرر لمرضاهم نتيجة علاج طبي أو عملية جراحية … ويحز في النفس أن نجد أحد الزملاء الجراحين يكتب قائلاً : ( هناك العديد من القصص التي لا يصدقها العقل ، اننا نجري العمليات وكأننا نلعب بالنار ) …
ورغم ان الدولة ومؤسساتها القانونية والأمنية ، تتحمل الوزر الأكبر في حماية المواطنين ، ومنهم الأطباء الاّ أن جزءاً من المسؤولية تقع تبعته على المؤسسات غير الحكومية ، وفي مقدمتها نقابة الأطباء . كما لا يمكن إعفاء المجتمع ككل من الوزر ، ذلك أن على المجتمع تقع مسؤولية الحفاظ على شريحة مهمة من أبنائه تحمل على عاتقها واجباً مقدساً هي رعاية مرضاه والحفاظ على صحة افراده .
إن ما يعانيه الأطباء في العراق اليوم ، هو أنهم يعيشون في ظل مجتمع إختلت موازينه ، وتحت حماية قانون فقد هيبته … وحتى تعود للقانون قوته ، وللمجتمع تقاليده وعاداته الاصيلة سيبقى الطبيب تحت ( رحمة ) القتلة والمجرمين واللصوص والنصابين والمتصيدين في الماء العكر . ولابد هنا من القول أن معالجة أزمة أطباء العراق ليست بالمهمة السهلة نظراً لتشابك أمور عدة في حصولها ، الاّ أن من الواجب وضع قوانين صارمة بحق من يقوم بالابتزاز أو الاعتداء أو التهديد بدعوى حصول ضرر من جراء ممارسة طبية ، اذ أن الأخطاء الطبية لو وقعت فإن الجهة التي ينبغي ان يلتجأ اليها صاحب الشكوى هي نقابة الأطباء والمحاكم المدنية وليست العشيرة ، ذلك أن ممارسة التقاليد العشائرية لحل الخلافات ، أي كان محتواها ، هي أمر قد عفا عنه الزمن . ويتطلب الامر كذلك أن تقوم نقابة الأطباء باستحداث شعبة أو هيئة من القانونيين تكون مهمتهم متابعة قضايا تهديد الأطباء أو الاعتداء عليهم او ابتزازهم وذلك في الدوائر الأمنية والمحاكم المختصة . وعلى مؤسسات المجتمع المدني والدوائر الإعلامية مهمة التوعية بخطورة ما صار اليه الحال ، وما سببته الاعمال غير المسؤولة التي يقوم بها المنحرفون عن السبيل السوي . ) … انتهى النص .
اردنا من استذكار ما نشره د.حكمت الشعرباف قبل اكثر من أربعة أعوام ، أن نقول كلمة في محورين :
أولاً … كانت الظاهرة في حينها ( قد تفاقمت ) على وصف د. حكمت . بمعنى انها ليست وليدة ساعة الحدث ، والان وبعد أعوام من كتابة المنشور وبعد اكثر من عام على ضيافة الوباء كورونا ، وقفنا على الخبر اليقين ووجدنا أن الظاهرة المتفاقمة تلك قد تفاقمت اكثر ، اكدتها مشاهد ووقائع علم بها الجميع وهوامر ليس بالغريب لان ذلك من طبيعة الاشياء ما دامت أسباب الظاهرة ما تزال قائمة واستجدت معها أسباب وعوامل أخرى ،وما زالت البيئة خصبة لتناسل المزيد ، أمام عجز مزمن في مواجهتها والتعامل معها بما يضمن خلاص المجتمع من الظاهرة ذاتها ومن جذورها وتبعاتها .
ثانياً… نقف عند القضية الأهم التي شخصها الدكتور حكمت ، والتي تُعد من أهم أسباب ( الظاهرة ) ، حين أوجزها بقوله ( كما لا يمكن اعفاء المجتمع ككل من الوزر، ذلك أن على المجتمع تقع مسؤولية الحفاظ على شريحة مهمه من أبنائه تحمل على عاتقها واجباً مقدساً ……إن ما يعانيه الأطباء في العراق اليوم ، هو انهم يعيشون في مجتمع اختلت موازينه ) ، وهي إشارة تشخيص دقيق ووصف بفكر نقدي لواحدة من أزمات المجتمع والتي تُعَد من أهم أسباب ( الظاهرة ) …لقد شخص الدكتور حكمت هذه العلة الخطيرة وقال وجهة نظره في كيفية التعامل معها ، وكتب وصفة علاجها ( مؤقتاً ) حتى ( يعود للمجتمع تقاليده وعاداته الاصيلة ) ، وكأنه يدعو ( وفق قاعدة انطي الخبز لخبازه ) ، من يهمهم الامر في اختصاص علم النفس بفروعه ذات العلاقة واختصاص علم الاجتماع ، للقيام بمسؤوليتهم الوطنية والإنسانية لمراجعة كافة الجوانب المختلفة للقضية موضوع البحث وتحديد الآلية المناسبة للتعامل مع أسبابها وتداعياتها !!… والاهم هنا ، ان د. حكمت قد امسك بجذور أسباب ( القضية ) ولم يقف عند وصف وإدانة ما يطفو على السطح ، قاصداً بذلك ، التنبيه الى السبب الذي وجده في ( مجتمع اختلت موازينه ) !!!
ثالثاً … وإذا اردنا أن نتحدث عن نظير للدكتور حكمت في منهج البحث في جذور أسباب القضايا والظواهر ، فالنظير هو أحد أعزاصدقائه ، ألا وهو العلامة المفكر علي جواد الطاهر. فمن مراجعة المنجز الإبداعي الفكري للطاهر والذي امتد نحو 34 عام وجدنا انه عندما يتناول أسباب عدد من القضايا في الشأن الثقافي والشأن العام ، ونقصد بالقضايا ( أزمات ، ظواهر ، معضلات ، نكسات ، حوادث وحالات شاذة وكل ما يشذ عن طبيعة الأشياء ) ، نجده يبحث فيها من كافة جوانبها ويغوص بعد ذلك في الأعماق حتى الجذور ليجتهد بأسبابها ، صريحاً ، صادقاً ، دون التفكير بارضاء هذا الطرف أو ذاك ودون السعي لدغدغة المشاعر . لذلك فأنه وقف على الأسباب الحقيقية لكل قضية تناولها بالنقد والتحليل ثم صرح بها لتنبيه قومه دفعاً لشرها وتبعاتها الخطيرة ، من منطلق أولوية وأهمية النقد الذاتي لاصلاح ثقافة المجتع . ورأيناه يعزو أسباب ما تناوله من قضايا الى عيوب وأزمات وتناقضات وعلل مزمنة عديدة تجذرت في ثقافة المجتمع بفعل قيم وعادات وتقاليد فقدت صلاحيتها،وبفعل ظروف شاذة متعددة ، سياسية واقتصادية وأمنية شهدها البلد ، ومن مراجعتنا لمنجز الطاهر أخترنا عدداً من تلك العيوب والعلل السائدة في المجتمع والتي عدها بفكره النقدي اسباباً لقضايا شهدتها الساحة الثقافية والمجتمع عامة … ( مجتمع متخلف ) و ( اضطراب واختلال في المقاييس ) و ( ازمة قائمة في الفرد والمجتمع ) و ( الضياع والقرف واضطراب الوضع العام ) و ( الفوضى الاجتماعية ) و ( مجتمع مضطرب تتجاذبه فوضى القيم ) . وعندما تحدث عن أسباب معضلة النشر ، قال لنا بأن ( أساسها التخلف وسؤالفهم والجهل وسؤالتربية وفساد الاخلاق واضطراب المجتمع واهتزاز القيم ) .… بل أنه وحتى عندما وجد أن مواطناً سرق عدداً من صفحات مصدر مهم في المكتبة الوطنية ، فإنه بعد ادانته الشديدة له على فعلته ، خاطبه قائلاً : ( لو كنت في بلد يحترم العلم ويقدس الكتاب لعرف كيف يُخزيك وكيف يفضحك وكيف ينتقم منك ) ، تنبيهاً لنا ، باشارة مباشرة الى العلاقة بين إحترام البلد للعلم وتقديسه للكتاب ، وبين ما ينبغي فعله أزاء فعل مشين كسرقة صفحات من كتاب في مكتبة عامة !!!
إن الطاهر بذلك أراد أن يدفع الشر عن قومه بالتنبيه لعدد من عيوب المجتمع الثقافي والمجتمع عامة بما يمتلك من ( أدوات قياس دقيقة ) وضعت لضميره معياراً ومقياساً عادلاً بفكر نقدي قائم على الدقة والتحليل الشامل والعمق والموضوعية ، كما وضعت له قواعد وضوابط وأصول يصدر احكامه وفقها . وذلك هو ذات المنهج الذي وجدناه عند الدكتور حكمت …
وختام القول ، وكما جاء بالمنشور موضوع البحث ، لابد من بشارة بإشراقة ومضة أمل حتى ( تعود للقانون هيبته ، وللمجتمع تقاليده وعاداته الاصيلة ، ونقر بأن ممارسة التقاليد العشائرية لحل الخلافات ، أي كان محتواها، هي أمر قد عفى عليه الزمن ) … نعم …ومضة أمل عساها ليست سراب أمل كاذب … عسى ولعل !!!