الحافلة (تاتا) تصعد الجبال الرواسي وصوت المحرك يئز أزيزاً عاليا، وحيث جلسنا خلف السائق، يكاد صوت المنبه بين الفينة والإخرى يمزق طبلة الأذن حيث يكون المنعطف حاداً، الطريق ضيق كثير الحفر، غير معلّم، جمال الطبيعة أخّاذ، خضرة ومياه، وجبال عالية جدا ووديان عميقة مخيفة، إنه الجمال والجلال، وقل الرهبة ولا تخف…أطردُ خوفي بابيات الجواهري التي ماانفكت تقتحمني دون إرادتي (الخفيف):
أرجِعي مااستطعتِ لي من شبابي***ياسُهولا تدثرت بالهِضابِ
أنا أبغض الموتَ اللئيمَ وطيْفَهُ***بغضي طيوف مخاتل نصّابِ
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه***دمُ أخوتي وأقاربي وصحابي
زاد المطر خضرة الطبيعة نضارة، ورائحة الغابات البكر تنعش النفس، وتدخلها في سكينة وفقا للمثل الفرنسي: بعد المطر يطيب الحال après la pluiec’est le beau temps حتى إذا ما تقترب السيارة من حافة الطريق وأرسل نظري الى الوادي السحيق ليُدركَ عمقه وقد لا يدركُه، عندها أتأسى بقول أبي المحسَّد (الخفيف):
وإذا لم يكُن من الموت بدٌّ***فمن العار أن تكونَ جبانا
كنا قد مددنا أرجلنا حيث وجدنا لها مستراحا بما يشبه الدكة ، أخذ الركاب يتوافدون أمتلأت السيارة، وفقدنا المستراح الذي تبين أنه محسوب من المقاعد،،، هدفنا بوخارا Pokharaالنيبالية، وكثيرا ما يلتبس الأسم مع بخارا Bukhara الأزبكستانية..الأولى مدينة تقبع عند أقدام الهملايا وعلى ساحل بحيرة فيوا. والمسافة التي نقطعها 360كم للوصول بزمن أمده سبعُ ساعات ونصف الساعة، صعدت سيدة أنيقة بصندوق كبير ناء بحمله مساعد السائق فاحتار أين يضعه، وكان مستقره فوق “البنيد” ظهرت على الصندوق حركة ملفته، سألته بفضول عمّا به فأجاب: ديك سيدي، فضحكنا مرة واحدة: “هذا ديج لو طِلي” وبالمناسبة أن “طلي” فصيحة تعني خروف أكبر من الحمَل! وبعد هنيهة صعد رجل جبلي يحمل سَخْلة جميلة سوداء لماعة الشعر ربطت بكرسي مجاور وكانت خير سلوى لي فقد كانت وديعة ينقصها الحنان، تحب الملاطفة، ورأسها لا تُشبه رؤوس سِخالنا فهي (الرأس) كُرِيّةٌ محدودبةُ الخَطْم!
نحن أربعةُ سائحين، شابة يابانية وجلة خائفة من الطريق، وخلفنا رجل كهل هندي وزوجته، جاءا من جنوب الهند، وكانا في غاية الإنطلاق والإنشراح.. لم يبق شبرٌ لم يُستَغل، الناس رُصوا رصاً وقوفاً وجلوسا، كأسماك في علبة سردين. والسعال أعقبه قيء من السيدة التي جلست قدامنا تطاير رذاذُه في وجوهنا وعلى أقدامنا.. وأصاب سيدة تجلس بحذائها تلتقط حبات الرمان التقاطا وتضعه في فمها ولم تكترث لما أصاب رمانها من شظايا جارتها!
والنيبال هي بلد الذُرى الشاهقات Peaks هناك 240 منها يزيد ارتفاعه على 6100م، وأعلاها طراً قمة أيفرست 8848م والتي تسمى سقف العالم..جمال الطبيعة وتنوعها تجتذب السائحين الهواة لتسلق الجبال ورياضة المشي في الطرق الوعرةTrekking ورياضات أخرى مثل الطيران الشراعي بما فيه paragliding ،، أما السياحة الدينية فلا تقل أهمية مثل حج مسقط رأس بوذا في حدائق لمبيني وزيارة المعابد الهامة التي تشكل مدنا مغلقة ذات معمار ساحر، مثل معبد شجرة التنوير في بوخارا..الشعب النيبالي يتكون من مجموعتين رئيستين، هما سكان الجبال وهم من العرق التيبتي، وسكان الهضاب والسهول، وجلهم من العرق الآري الهندي، في النيبال هناك 40 مجموعة عرقية وما يقرب من تسعين لغة، والديانة الأكبر الهندوسية 70% والبوذية 20% والإسلامية 4.5% معظمهم من أصول هندية وكشميرية..وحوالي 5% لديانات قديمة…الأقلية المسيطرة هم النيوَر 3.7%، والتامانغ 4.9%، وهما الأكثر سيطرة في الجيش ومصالح الدولة، والماغر2.3%، والغرنغ من أصول تبتيه 1.2% ويتسمون بالبساطة والطيبة… النيبال جمهورية منذ 28ماي 2008، يقود الحكم الشيوعيون الماويون بعد سنتين من الكفاح المسلح حيث حصل استفتاء على نظام الحكم وانتخابات حرة.
الآن نحن في بوخارا الجميلة الحالمة النظيفة، تطوقها الهملايا من كل مكان عندما تنقشع الغيوم تظهر قمة الأنابورنا الجميلة الفضية تارة والذهبية عند الشفق والغسق، نجلس في شرفة الفندق ونرى منظرا يفوق الخيال، فما أن يتوقف المطر تنطلق الطائرات الشراعيةمن قمم التلال المحيطة الفراش المبثوث على ارتفاع 2800م بألوان مختلفة تحلق فوق بحيرة فيوا الساحرة…التمشي عل ساحل البحيرة ومنظر الصيادين وانعكاس الجبال في سطح الماء تشكل لوحة رائعة تفوق الوصف، أمضينا في هذه المدينة قرابة الشهر حيث أجرنا (سويت) واستفدنا من المطبخ وهذا أمر في غالية الأهمية….
معبد شجرة التنوير يقع على قمة جبل مطل على البحيرة والمدينة ومطل من الجانب الآخر على الهملايا وقمة أنابورنا تحديدا، الطريق معبد في بدايته فقط وأغلبه حفر وصخور وهو ضيق عندما تتقابل سيارتان يتم التجاوز بحركة بطيئة للغاية ومنظر الوادي مرعب! وأنا اتسائل في نفسي هل تستحق زيارة المعبد كل هذا التعب؟! ضاق الطريق بالسيارة وتوقفت في الغابة.. علينا قطع ارتفاع 500 متر مشياً، ولكن وجود السائحين والسائحات والحجاج من مختلف القارة الهندية جعلنا في شبه تظاهرة، من مختلف الأجناس والأديان والأعمار كل يأخذ بيد الآخر عند اللزوم، والكل أصدقاء.. وصلنا بشِق الأنفس. والمنظر لا يوصف بالكلمات، كانت الهملايا شعلة فضية تمتد نحو السماء ورغم روعة معمار المعبد الذي بناه اليابانيون على شكل باغودا مخروطية في قمة الجبل، فإن الطبيعة كانت هي المعبد الأروع! البحيرة مع المدينة ومع الوهاد والجبال تُجبر الرائيَ أن ينسى نفسَه وينسى الزمان، ليصبح أسير المكان! الكل صامت وكأن على رأسه الطير.
زرنا القرية التبتية وهي قرية اللاجئين من أهل التبت الصينية عبروا الحدود الى النيبال والهند هربا من الثورة عام 1948 وعلى رأسهم الدلاي لاما..البيوت جيدة ولهم معمل للسجاد التبتي الشهير ومعرض مشغولات يدوية، الأمم المتحدة تشرف على بقائهم.. مقابل القرية التبتية مساقط المياه Davis Fall وتعني مياه العالم الأسفلوالتي تتدفق عبر السد من بحيرة فيوا لتشق دروبا في أنفاق تحت الأرض…ثم الدخول الى كهف بوذا وهو كهف كبير يضيق حينا بالكاد تمر منه، ويتسع حينا آخر، لينتهي عند أنفاق مسقط المياه، المشهد يبدو مخيفا حين تنهمر المياه بقوة وبهدير رهيب..المكان مقدس حيث يوجد هيكل يعتقد أن بوذا عاش فيه!
لا تتم المتعة دون تأجير قارب مجذافي ليجوب بحيرة فيوا الساحرة، كان من الصدف أن نؤجر عند أكرم وهو شاب يتكلم العربية سبق له أن عمل في السعودية – هناك مليونا عامل وعاملة من العمالة النيبالية في الخارج جلهم في دول الخليج، توليت الجذف عنه، وزرنا معبد براهي مندير في جزيرة صغيرة جدا تتوسط البحيرة. يزدحم فيها السائحون لإطعام الحمام، قضينا وقتا ممتعا.
كانت الأمسيات التي نقضيها في الشرفة لا تُنسى، وهي مجهزة تجهيزا جيدا، وقلما يشاركنا غيرنا من نزلاء الفندق، وتعرفنا على سائح جاء بسيارته من ألمانيا، وكان يدون كتاباته بالشرفة، وكان صديقنا الباسكي وزوجته الامريكية رائعان وتقدميان ومؤيدان للقضية الفلسطينية ومتعاطفان مع الشعب العراقي، ولم يكن تضامن الكوريات(كلهن نساء) بأقل، وكان الصينيون كرماء الخلق والنفس ، وسعيد منهم من يتكلم الإنكليزية..أيقظتنا الكوريات في الصباح الباكر لتناول الفطور سوية، حيث كانت قمة أنابورنا مازالت ذهبية ساحرة وقد أعجبهم الأكل العراقي. كنا نتناول طعاما عراقيا من الشيخ محشي الى الكبة الى السمك والدجاج آمنين مطمئنين… أما أطباق المقبلات الصغيرة فقد فتن بها كل من شاركنا، وخاصة صاحبة الفندق التي لم تفوت دقيقة في متابعة دروس الطبخ! وكانت دعاية طيبة للمطبخ العراقي أو العربي عموما، رائع أن يتعارف الإنسان مع أخيه الإنسان بغض النظر عن الدين والقومية ويكسب صداقات وذكريات تبقى في الضمير والوجدان قبل الذاكرة. كانت صداقتنا مع الطيور حميمة هي الأخرى فلطالما كانت توقظنا عند الشرفة لأجل أن تحظى بما نجود به وبلغت “ميانتها” أنها كانت تقفز على المائدة لتسرق ما شاء لها أن تتخير!
عندما زرت بوخارا قبل اثني عشر عاما لم تكن سوى قرية صغيرة شوارعها غير مبلطة، بما في ذلك الشارع الرئيسي، وكانت هناك كازينو على البحيرة تعشيت فيها سمكا كأنه المسكوف العراقي، وكان فيها بنك آلي واحد، وبضعة دكاكين، وحانوت لبيع أدوات التسلق والتريكنغ… وحين رأيت منظر أنا بورنا ذهلت ورحت أجري الى الاوتيل لأستخدم جهاز التصوير فلم الحق، وتأسف لأنني مغادر.. تعهد صاحب الأوتيل أن يجلسني في صدر الحافلة قائلا أن منظر الشروق على الجبال أجمل .. وفعلا جلست واستمتعت بالتصوير، وكان مكاني يحسد عليه..كان السائق شابا خفيف الحركة يستمع ملوسيقى ثم لا يلبث يبدلها وهكذا كان ديدنه، بدأ المظر بالهطل.. زلقت الحافلة ولم يسيطر عليها مالت جهة الوادي وقلت في نفسي قضي الأمر ثم مالت جانبا وارتطمت بالجبل وتكسر الزجاج وانقذفت الكامرة مع الحقيبة جهة الوادي وجرحت جرحا غير خطير أدماني، مازالت آثاره في يميني…لم تعد الحافلة صالحة للسياقة فنقلت الى أول حافلة قادمة وعالجتني سائحات هولنديات بما يمتلكن من مواد طواريء… ما زالت الذكرى في ذهني أكثر منها في يدي!
***
نحن في طريقنا الى العاصمة النيبالية، هذا مكان الحادثة..الطريق جيد الآن، المناظر تخلب القلب قبل العين، أجملها حين تصطدم الغيوم بقمم الرواسي، الحافلة سياحية..السائحون قليلون.. النيباليون ودودون ويجيدون الإنكليزية رغم أن ثلث السكان أمي…التعليم في النيبال راق جدا، والمستوى الثقافي لا بأس به…وصلنا كاتمندو…أجمل مافيها الأحياء القديمة والمعابد سواء في العاصمة مثل دربار ستي، وسواء في باتنا ،،مدن قوامها معابد بوذية وهندوسية يبلغ العمر فيها 800سنة عل أقل تقدير، الدخول للمدن القديمة يكون برسوم حسب المدة…ازدحام المواصلات في المدين القديمة من السيارات والركو والموتوبايكات يفسد الهواء لا سيما أن المدينة محاطة بالجبال، ما يمنع التهوية..زرنا المعابد، وأهمها معبد البرج ذي الأثني عشر طابقا، صعدناه وهو تحفة نادرة..ترددت وئام في الطابق السابع حين بدت السلالم الخشبية بدون مساند من الجانبين تسلقت وتبعتني على مضض..هنا نحن وصلنا القمة.. والمشكلة عند النزول، قالت: لاأنزل مهما كانت النتيجة ولم تنفع تشجيعاتي ومحاولات اقناعي، أدرك الحال أحد الحراس فطلب منها أن تمسك كتفيه، وأن تخطو خطوة خطوة…وهكذا أستطاعت النزول..وكم كنت متوجسا أن اصطحبها في التحليق الشراعي (بارا غلايدنغ).
قبل أن أختتم أجيب على سؤال سألنيه سائل كريم أو سائلة كريمة (صباح): هل كنت تتذكر العراق في حلك وترحالك؟ وجوابي سيكون بأبيات لشيخ المعرة:
كفى بشحوب أوجهنا دليلا*** على إزعامنا عنك الرحيلا
كلفنا بالعراق ونحن شَرخٌ*** ولم نُلمِمْ به إلا كهولا
شرِبنا ماء دجلةَ خير ماءٍ*** وزُرنا سيّدَ الشجرِ النخيلا
فلله درك يا أبا العلاء، لم نلمم ونحن في شرخ الصبا ولا شيبا ونحن في خريف العمر!
أتوقف هنا لأقول كاتمندو تحفة بل متحف رائع، إنك تنسى الحاضر لتغرق في الماضي، فما أروع أن يغرق الأنسان في الماضي حينما يكون الحاضر بئيس…
[email protected]