هنالك قضية ملازمة لحياة كل من يعيش في بلادنا التي أكثر ما يميز أحداثها النكبات والأزمات والعراقيون بشكل خاص، هم يذكرونها كلما مرورا بمحنة، ألا وهي تسرب وتخلي الأصحاب والأصدقاء. في بلدنا نتناولها كقضية لكثرة ما تتكرر ولا نعرف لها نهاية. وضمن سلسلة لا تنتهي، نذكر تخلي إخواننا وأبناء جلدتنا عنا في المواقف الحرجة، بل وجدنا من يعين عدونا علينا، مع أننا مذ وعينان قرأنا وعاصرنا الكثير من الأحداث، وجدنا فيها أن العراقيين كدولة، حكاماً وشعبا، سباقة للنصرة ومد يد العون والإغاثة لمن يطلبها في أي وقت وكيفما كان وضع الدولة، وكيفما كان وضع الشعب. وبنفس الوقت، لم نعهد موقفاً جدياً مسانداً أو محايداً لمواقف الأخوة في أي من البلاد العربية والإسلامية عند المحن إلا في حالات نادرة، وعادة ممن تتعارض مصالحهم وتضرب كلما ضرب العراق ومصالحه. فالعراق هو السباق للغوث، العراق في المقدمة. مع هذا، كان العراق كما السمكة المأكولة المذمومة كما يقول العراقيون أنفسهم. ولكن لماذا كل هذا.
التحليل لن يأتي بجديد، كما لا فائدة منه اليوم. آل العراق لما هو عليه اليوم، وصار ما صار عليه الآخرون. لم يستفد أحد لا المضحي ولا المضحى لأجله، لا المغدور ولا الغادر. تضحيات العراق لم تكن في مكانها في كثير من المواضع. كما التخلي عمن كان سنداً طوال وجوده كياناً مدافعاً بالنيابة عن اخوته لم يكن قراراً سديدا ليخدم في تحقيق مآرب ظن المعنيون أنهم سيحصلون عليها. ومع أن العراق كان الضحية في كل قضية، لا ينفك من مواجهة الاتهام بالعكس.
لا جديد في الأمر، ولا حاجة للنظر في هذه القضية. اعتدنا ذلك، واعتدنا على مواصلة التضحيات. حقيقة وواقعا، لا مناص من تسرب الأصحاب، فبعض البشر من ضعاف النفوس، قد جبل على التسرب كلما سنحت له الفرصة ليكون في الطرف الآخر. كان هذ على مر العصور والأزمان. فالتاريخ مليء بمواقف الخيانة أو إنكار الأصدقاء والأصحاب. ربما أشهرها ما يتردد في مثل تلك المواقف عادة، مقتل يوليوس قيصر روما على يد أصحابه، بل كانت ضربة الخنجر القاضية بيد أقربهم إليه، وأكثر من وثق به، فقال قولته الشهيرة مصدوماً (حتى أنت يا بروتوس). ومع الفارق الكبير، فيقص علينا كتاب الله المجيد، وأنبأ بما كان وينبيء بما سيكون. تخلى أصحاب موسى عليه السلام عنه وعن دينهم رغم كل المعجزات التي رأوها ولمسوها وعاشوها لمجرد غيابه عنهم، وبعد أن نصرهم وخلصهم من الذل. مكر الأخوة بيوسف وهو الصديق، تخلى أصحاب عيسى عليه السلام عنه، وقد انبأهم بمن سينكره، ومنهم من باعه بدراهم معدودة. وارتد وترك كثير من أصحاب النبي الأكرم في حياته قبل مماته. وهكذا هي الحال حتى يومنا وإلى ما شاء الله.
كلنا يعي ذلك. وما زال بلدنا وشعبنا المضحي الأول مع كل هذا النكران والمكر والغدر بنا، صرنا نقبل ببساطة. ثرواتنا تنهب، أبناؤنا يقتلون، حياتنا تسلب بشتى الطرق، والكل يعرف المؤامرة، ومع كل ذلك وربما لأننا عراقيون، ما زلنا نؤثر على أنفسنا.