وصف ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع في “المقدّمة” قبل سبعة قرون الثّقافة العربيّة بأنّها “ثقافة الصّحراء الوحشيّة”، وابن خلدون -كما هو معروف-مفكّر إسلامي ينحدر من أصول أمازيجيّة، فهل تجنّى هذا المفكّر على العرب وثقافتهم بهذا الوصف؟
وإذا ما بحثنا عن أسباب الجريمة المنتشرة في الأراضي الفلسطينيّة، وعدنا إلى مقدّمة ابن خلدون، فلن نحتاج إلى كثير من الذّكاء لتشخيص أسبابها، لكنّنا سنحتاج إلى كثير من الدّهاء لوضع الحلول لها. فالثّقافة المجتمعيّة السّائدة لا تختلف عن الثّقافة الموروثة من العصر الجاهليّ إلا بما يتناسب مع تطوّر الحياة في العصر الرّاهن. فالتّربية العشائريّة لا تزال سائدة من البيت حتّى الحكومة والدّولة وما بينهما، فتقسيم العالم العربيّ إلى دويلات قائم بشكل وآخر على أسس قبليّة، وتغذية الإقليميّة هي نوع متطوّر من القبليّة، بل هو أكثر منها خطورة، والدّول العربيّة قائمة على تحالفات عشائريّة أكثر منها دول مدنيّة، وحتّى الحكومات تقوم هي الأخرى على أسس عائليّة وعشائريّة وطائفيّة. ولا يمكن استثناء الأحزاب والتّنظيمات الحاكمة أو المعارضة من العائليّة والعشائريّة وحتّى الطّائفيّة. وإذا كان ولاء الفرد في جاهليّة ما قبل الإسلام للعشيرة والقبيلة وشيخها، فإنّ الولاءات لم تختلف حتّى يومنا هذا عن ذلك، وبهذا يغيب مفهوم الوطن ومفهوم الدّولة المدنيّة التي يحكمها القانون عن الذّهنيّة العربيّة. ولإثبات ما ذهبت إليه أدعو الجميع إلى التّفكير بالإنتخابات البلديّة والمحلّيّة والبرلمانيّة إن وجدت، فهل أصوات النّاخبين في غالبيّتها تعطى للكفاءات أم لممثّلي العائلات والعشائر؟
وعودة إلى جرائم القتل الشّنيعة التي تحصل في مجتمعنا، فهل تخرج أسبابها عن الثّارات العائليّة والعشائريّة؟ وكيف يفكّر المجرمون القتلة عندما يقتلون؟ ومن يدفعهم لارتكاب عمليّات القتل؟ ومن يشتري السّيارات والأسلحة للشّباب الطّائشين مرتكبي عمليّات القتل؟ ومن ربّاهم على استسهال ارتكاب الجريمة؟ ومن يوفّر الحماية للمنحرفين المجرمين؟ ومن يحتضنهم؟
بعد كلّ جريمة نجد الجميع يستنكرون ويشجبون الجريمة! ولماذا لا يفكّر ذوو المجرمين بردع أبنائهم عن الجريمة قبل وقوعها؟ وهل يدركون أنّ القاتل أخو القتيل، وينتظره المصير نفسه؟ وبقدرة قادر يصبح ذوو القاتل عقلاء بعد وقوع الجريمة! أمّا قبل ذلك فابنهم المجرم مرتكب الموبقات كلّها “سبع ابن سبع”! و” رجل من ظهر رجل.” فلماذا لم يتداركوا المصيبة قبل وقوعهم للحفاظ على “سبعهم” قبل الحفاظ على ضحاياه؟ ولماذا لا يتّعظوا من مقولة ذلك الأعرابيّ الحكيم الذي وصف هكذا حالات” يلعن مراجل اليوم اللي بتخلّيك بكره تحتمي بالآخرين وتبوس قنادرهم كي يخلصوك من ورطتك”؟
ومن عهر ثقافتنا الاجتماعيّة بهذا الخصوص ما يقوله رجالات الإصلاح في محاولاتهم لتهدئة الخواطر أنّ “القاتل جاهل” و”أنّ أهله العقلاء” لا ذنب لهم! لكن أحدا منهم لا يجرؤ على مجرّد التّساؤل عن عدد “العقلاء” الذين ساندوا المجرم القاتل وشاركوه وساندوه في “الطّوشة”؟ وكم عدد المرّات التي وفّروا له فيها الحماية في اعتداءاته على الآخرين قبل جريمة القتل؟ ويزداد العهر الإجتماعي عندما يوصف “الضّحايا” بالشّهداء” مع كلّ ما تعنيه الشّهادة -التي لا يعلمها إلا الله -من نُبْلٍ وشرف! ومع الاحترام والتّرحّم على الضّحايا الذين أزهقت أرواحهم ظلما وعدوانا، وهم يتحلّون بالخلق الحسن، وهؤلاء يستحقّون لقب الشّهادة” و”من قتل ظلما فهو شهيد”، إلا أنّ هناك ضحايا سبق الموت إليهم وهم يحاولون قتل قاتلهم.
ويبقى السّؤال: أين الوازع الدّينيّ ” من قتل بغير حق فكأنّما قتل النّاس جميعا”. وأين الوازع الأخلاقي؟ وأين التّربية السّليمة؟ وأين القوانين الرّادعة فقديما قال الحجّاج في خطبته الشّهيرة في أهل الكوفة “من طال لببه ساء أدبه”؟
ويبقى السّؤال الكبير: هل مجتمعنا شريك في أيّ جريمة تحصل. والحديث يطول.